{أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ألهاكم التكاثر} أَلْهاكُمُ شغلكم. قال:
فألهيتها عن ذي تمائم مغيل ***
أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله، حتى متم ودفنتم في المقابر. وقيل أَلْهاكُمُ: أنساكم. التَّكاثُرُ أي من الأموال والأولاد، قاله ابن عباس والحسن.
وقال قتادة: أي التفاخر بالقبائل والعشائر.
وقال الضحاك: أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة. يقال: لهيت عن كذا بالكسر ألهى لهيا ولهيانا: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه. وألهاه: أي شغله. ولهاه به تلهية أي علله. والتكاثر: المكاثرة. قال مقاتل وقتادة وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا.
وقال ابن زيد: نزلت في فخذ من الأنصار.
وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم، تعادوا وتكاثروا بالسادة والاشراف في الإسلام، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عائذا، فكثر بنو عبد مناف سهما. ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم سهم، فنزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ بأحيائكم فلم ترضوا حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ مفتخرين بالأموات.
وروى سعيد عن قتادة قال: كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعد من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم. وعن عمرو بن دينار: حلف أن هذه السورة نزلت في التجار. وعن شيبان عن قتادة قال: نزلت في أهل الكتاب. قلت: الآية تعم جميع ما ذكر وغيره.
وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ} قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».
وروى البخاري عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن لابن أدم واديا من ذهب، لاحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب». قال ثابت عن أنس عن أبي: كنا نرى هذا من القرآن، حتى نزلت {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ}. قال ابن العربي: وهذا نص صحيح مليح،. غاب عن أهل التفسير فجهلوا وجهلوا، والحمد لله على المعرفة.
وقال ابن عباس: «قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ} قال: تكاثر الأموال: جمعها من غير حقها، ومنعها من حقها، وشدها في الأوعية».
الثانية: قوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ} أي حتى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زوارا، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار. يقال لمن مات: قد زار قبره.
وقيل: أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات، على ما تقدم.
وقيل: هذا وعيد. أي اشتغلتم بمفاخره الدنيا، حتى تزوروا القبور، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله عز وجل.
الثالثة: قوله تعالى: {الْمَقابِرَ} جمع مقبرة ومقبرة بفتح الباء وضمها. والقبور: جمع القبر قال:
أرى أهل القصور إذا أميتوا *** بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا *** على الفقراء حتى في القبور
وقد جاء في الشعر المقبر قال:
لكل أناس مقبر بفنائهم *** فهم ينقصون والقبور تزيد
وهو المقبري والمقبري: لابي سعيد المقبري، وكان يسكن المقابر. وقبرت الميت أقبره وأقبره قبرا، أي دفنته. وأقبرته أي أمرت بأن يقبر. وقد مضى في سورة عبس القول فيه. والحمد لله.
الرابعة: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة. وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي، لأنها تذكر الموت والآخرة. وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة» رواه ابن مسعود، أخرجه ابن ماجة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: «فإنها تذكر الموت».
وفي الترمذي عن بريدة: «فإنها تذكر الآخرة». قال: هذا حديث حسن صحيح. وفية عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن زوارات القبور. قال: وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت. قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء.
وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن. قلت: زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء، مختلف فيه للنساء. أما الشواب فحرام عليهن الخروج، وأما القواعد فمباح لهن ذلك. وجائز لجميعهن. ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال، ولا يختلف في هذا إن شاء الله. وعلى هذا المعنى يكون قوله: «زوروا القبور» عاما. وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء، فلا يحل ولا يجوز.
فبينا الرجل يحرج ليعتبر، فيقع بصره على امرأة فيفتتن، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور. والله أعلم.
الخامسة: قال العلماء: ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه، أن يكثر من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وموتم البنين والبنات، ويواظب على مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين. فهذه ثلاثة أمور، ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه، فإن أنتفع بالإكثار من ذكر الموت، وانجلت به قساوة قلبه فذاك، وإن عظم عليه ران قلبه، واستحكمت فيه دواعي الذنب، فإن مشاهدة المحتضرين، وزيارة قبور أموات المسلمين، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول، لان ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير، وقائم له مقام التخويف والتحذير.
وفي مشاهدة من احتضر، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة، فلذلك كان أبلغ من الأول، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الخبر كالمعاينة» رواه ابن عباس. فأما الاعتبار بحال المحتضرين، فغير ممكن في كل الأوقات، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات. وأما زيارة القبور فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر. فينبغي لمن عزم على الزيارة، أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها التطواف على الأجداث فقط، فإن هذه حاله تشاركه فيها بهيمة. ونعوذ بالله من ذلك. بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب المشي على المقابر، والجلوس عليها ويسلم إذا دخل المقابر وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا، وأتاه من تلقاء وجهه، لأنه في زيارته كمخاطبته حيا، ولو خاطبه حيا لكان الأدب استقباله بوجهه، فكذلك ها هنا. ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه. فليتأمل الزائر حال من مضي من إخوانه، ودرج من أقرانه الذين بلغوا الآمال، وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم. وليتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمواتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب. وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع، والهلاك السريع، كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه. وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، وماله كماله. وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، وتخشع جوارحه.
{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)}
قال الفراء: أي ليس الامر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر والتمام على هذا كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ أي سوف تعلمون عاقبة هذا. {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: وعيد بعد وعيد، قاله مجاهد. ويحتمل أن يكون تكراره على وجه التأكيد والتغليظ، وهو قول الفراء.
وقال ابن عباس: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ما ينزل بكم من العذاب في القبر. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في الآخرة إذا حل بكم العذاب. فالأول في القبر، والثاني في الآخرة، فالتكرار للحالتين. وقيل كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عند المعاينة، أن ما دعوتكم إليه حق. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: عند البعث أن ما وعدتكم به صدق.
وروى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه، قاله: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت هذه السورة، فأشار إلى أن قوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني في القبور.
وقيل: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}، إذا نزل بكم الموت، وجاءتكم رسل لتنزع أرواحكم. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: إذا دخلتم قبوركم، وجاءكم منكر ونكير، وحاط بكم هول السؤال، وانقطع منكم الجواب. قلت: فتضمنت السورة القول في عذاب القبر. وقد ذكرنا في كتاب التذكرة أن الايمان به واجب، والتصديق به لازم، حسبما أخبر به الصادق، وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره، برد الحياة إليه، ويجعل له من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه، ليعقل ما يسأل عنه، وما يجيب به، ويفهم ما أتاه من ربه، وما أعد له في قبره، من كرامة وهوان. وهذا هو مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أهل الملة. وقد ذكرناه هناك مستوفي، والحمد لله، وقيل: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عند النشور أنكم مبعوثون ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في القيامة أنكم معذبون. وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة من بعث وحشر، وسؤال وعرض، إلى غير ذلك من أهوالها وأفزاعها، حسب ما ذكرناه في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة.
وقال الضحاك: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني الكفار، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: قال المؤمنون. وكذلك كان يقرؤها، الأولى بالتاء والثانية بالياء.
{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)}
قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أعاد كَلَّا وهو زجر وتنبيه، لأنه عقب كل واحد بشيء آخر، كأنه قال: لا تفعلوا، فإنكم تندمون، لا تفعلوا، فإنكم تستوجبون العقاب. وإضافة العلم إلى اليقين، كقوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95].
وقيل: اليقين ها هنا: الموت، قاله قتادة. وعنه أيضا: البعث، لأنه إذا جاء زال الشك، أي لو تعلمون علم البعث وجواب لَوْ محذوف، أي لو تعلمون اليوم من البعث ما تعلمونه إذا جاءتكم نفخة الصور، وانشقت اللحود عن جثثكم، كيف يكون حشركم؟ لشغلكم ذاك عن التكاثر بالدنيا.
وقيل: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي لو قد تطايرت الصحف، فشقي وسعيد.
وقيل: إن كَلَّا في هذه المواضع الثلاثة بمعنى ألا قاله ابن أبي حاتم، وقال الفراء: هي بمعنى حقا وقد تقدم الكلام فيها مستوفى.
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7)}
قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} هذا وعيد آخر. وهو على إضمار القسم، أي لترون الجحيم في الآخرة. والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار.
وقيل: هو عام، كما قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} [مريم: 71] فهيئ للكفار دار، وللمؤمنين ممر.
وفي الصحيح: «فيمر أولهم كالبرق، ثم كالريح، ثم كالطير...» الحديث. وقد مضى في سورة مريم. وقرأ الكسائي وابن عامر {لترون} بضم التاء، من أريته الشيء، أي تحشرون إليها فترونها. وعلى فتح التاء، هي قراءة الجماعة، أي لترون الجحيم بأبصاركم على البعد. {ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ} أي مشاهدة.
وقيل: هو إخبار عن دوام مقامهم في النار، أي هي رؤية دائمة متصلة. والخطاب على هذا للكفار.
وقيل: معنى لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي لو تعلمون اليوم في الدنيا، علم اليقين فيما أمامكم، مما وصفت: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بعيون قلوبكم، فإن علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك، وهو أن تتصور لك تارات القيامة، وقطع مسافاتها. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ: أي عند المعاينة بعين الرأس، فتراها يقينا، لا تغيب عن عينك. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ: في موقف السؤال والعرض.
{ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (
}
قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة»؟ قالا: الجوع يا رسول الله. قال: «وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوما» فقاما معه، فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أين فلان»؟ قالت: يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله! ما أحد اليوم أكرم إضافيا مني. قال: فانطلق، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه. واخذ المدية فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياك والحلوب» فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي بكر وعمر: «والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم، يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم». خرجه الترمذي، وقال فيه: «هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد» وكنى الرجل الذي من الأنصار، فقال: أبو الهيثم ابن التيهان. وذكر قصته. قلت: أسم هذا الرجل الأنصاري مالك بن التيهان، ويكنى أبا الهيثم.
وفي هذه القصة يقول عبد الله بن رواحة، يمدح بها أبا الهيثم بن التيهان:
فلم أر كالإسلام عزا لامة *** ولا مثل أضياف الاراشي معشرا
نبي وصديق وفاروق أمة *** وخير بني حواء فرعا وعنصرا
فوافوا لميقات وقدر قضية *** وكان قضاء الله قدرا مقدرا
إلى رجل نجد يباري بجوده *** شموس الضحى جودا ومجدا ومفخرا
وفارس خلق الله في كل غارة *** إذا لبس القوم الحديد المسمرا
ففدى وحيا ثم أدنى قراهم *** فلم يقرهم إلا سمينا متمرا
وقد ذكر أبو نعم الحافظ، عن أبي عسيب مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلا، فخرجت إليه، ثم مر بأبي بكر فدعاه، فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه، فخرج إليه، فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: «أطعمنا بسرا» فجاء بعذق، فوضعه فأكلوا، ثم دعا بماء فشرب، فقال: {لتسألن عن هذا يوم القيامة} قال: واخذ عمر العذق، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر نحو وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا رسول الله، إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: «نعم إلا من ثلاث: كسرة يسد بها جوعته، أو ثوب يستر به عورته، أو حجر يأوي فيه من الحر والقر». واختلف أهل التأويل في النعيم المسئول عنه على عشرة أقوال: أحدها: الأمن والصحة، قاله ابن مسعود.
الثاني- الصحة والفراغ، قاله سعيد بن جبير.
وفي البخاري عنه عليه السلام: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
الثالث- الإدراك بحواس السمع والبصر، قاله ابن عباس.
وفي التنزيل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} [الاسراء: 36].
وفي الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتي بالعبد يوم القيامة، فيقول له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا، ومالا وولدا...»، الحديث. خرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح.
الرابع- ملاذ المأكول والمشروب قاله جابر بن عبد الله الأنصاري. وحديث أبي هريرة يدل عليه.
الخامس- أنه الغداء والعشاء، قاله الحسن.
السادس: قول مكحول الشامي-: أنه شبع البطون وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم. ورواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «{لتسألن يومئذ عن النعيم} يعني عن شبع البطون». فذكره. ذكره الماوردي، وقال: وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وسؤال الكافر تقريع أن قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية.
وقال قوم: هذا السؤال عن كل نعمة، إنما يكون في حق الكفار، فقد روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان، من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال عليه السلام: ذلك للكفار، ثم قرأ: {وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]. ذكره القشيري أبو نصر.
وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.
وقال القشيري: والجمع بين الاخبار: أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكفار توبيخ، لأنه قد ترك الشكر. وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه شكر. وهذا النعيم في كل نعمة. قلت: هذا القول حسن، لان اللفظ يعم. وقد ذكر الفريابي قال: حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: كل شيء من لذة الدنيا.
وروى أبو الأحوص عن عبد الله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الله تعالى ليعدد نعمه على العبد يوم القيامة، حتى يعد عليه: سألتني فلانة أن أزوجكها، فيسميها باسمها، فزوجتكها». وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الناس: يا رسول الله، عن أي النعيم نسأل؟ فإنما هما الأسودان والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا. قال: «إن ذلك سيكون». وعنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة- يعني العبد- أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد» قال: حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده، فيوقفه بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله». والجاه من نعيم الدنيا لا محالة.
وقال مالك رحمه الله: إنه صحة البدن، وطيب النفس. وهو القول السابع.
وقيل: النوم مع الأمن والعافية.
وقال سفيان بن عيينة: إن ما سد الجوع وستر العورة من خشن الطعام واللباس، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم. قال: والدليل عليه أن الله تعالى أسكن آدم الجنة. فقال له: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى} [طه: 119- 118]. فكانت هذه الأشياء الاربعة- ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يستكن فيه من الحر، ويستر به عورته- لآدم عليه السلام بالإطلاق، لا حساب عليه فيها، لأنه لأبد له منها. قلت: ونحو هذا ذكره القشيري أبو نصر، قال: إن مما لا يسأل عنه العبد لباسا يواري سوأته، وطعاما يقيم صلبه، ومكانا يكنه من الحر والبرد. قلت: وهذا منتزع من قوله عليه السلام: «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء» خرجه الترمذي.
وقال النضر بن شميل: جلف الخبز: ليس معه إدام.
وقال محمد بن كعب: النعيم: هو ما أنعم الله علينا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي التنزيل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164].
وقال الحسن أيضا والمفضل: هو تخفيف الشرائع، وتيسير القرآن، قال الله تعالى: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]. قلت: وكل هذه نعم، فيسأل العبد عنها: هل شكر ذلك أم كفر. والأقوال المتقدمة أظهر. والله أعلم.