{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال العلماء: كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلقيب الناس. فالسورة في الامر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي: {لا تقدموا} بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون {تُقَدِّمُوا} بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد قدمه على الله تعالى، لان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يأمر عن أمر الله عز وجل.
الثانية: واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة: الأول- ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد.
وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي.
وقال عمر: ما أردت خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ}. رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح، ذكره المهدوي أيضا.
الثاني- ما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزل {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. ذكره المهدوي أيضا.
الثالث- ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤا إلى المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: ان بيننا وبينك عهدا، وقد قتل منا رجلان، فوداهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمائة بعير، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين.
وقال قتادة: إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا؟ فنزلت هذه الآية. ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. مجاهد: لا تفتاتوا على الله ورسوله حتى يقضي الله على لسان رسوله، ذكره البخاري أيضا. الحسن: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. ابن جريج: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قلت: هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي: وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها، ولعلها نزلت دون سبب، والله أعلم. قال القاضي: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لان كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين. إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلة الفقير، ولان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع.
وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. وراي سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قاله أبو حنيفة والشافعي، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب.
الثالثة: قوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس». فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس». فمعنى قوله: «صواحب يوسف» الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز.
وربما احتج بغات القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذا تقدم بين يديه. {واتقوا الله} يعني في التقدم المنهي عنه. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولكم {عَلِيمٌ} بفعلكم.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال: حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه، فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، قال: فنزلت هذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال: وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر. قال: هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير. قلت: هو البخاري، قال: عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، فقال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية. فقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه: نزل قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة، فقضى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجعفر، لان خالتها عنده. وقد تقدم هذا الحديث في آل عمران وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر! كان يرفع صوته فوق صوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: «اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة». لفظ البخاري. وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد.
وقيل: أبا عبد الرحمن. قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد: محمد، ويحيى، وعبد الله. وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له خطيب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يقال لحسان شاعر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولما قدم وفد تميم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهو الأقرع بن حابس فأنشد:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا *** وإذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رءوس الناس من كل معشر *** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرباع في كل غارة *** تكون بنجد أو بأرض التهايم
فقام حسان فقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم *** يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم *** لنا خول من بين ظئر وخادم
في أبيات لهما. فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ}.
وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه يسأله ما خبره، فقال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام: «لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير». قال: ثم أنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال: «لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة». قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعني أبا بكر- فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت، رحمه الله، ذكره أبو عمر في الاستيعاب.
الثانية: قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا تخاطبوه: يا محمد، ويا أحمد. ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، توقيرا له.
وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك.
وقيل: {لا تَجْهَرُوا لَهُ} أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سقط لفيه، أي على فيه. {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} الكاف كاف التشبيه في محل النصب، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض.
وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي من أجل أن تحبط، أي تبطل، هذا قول البصريين.
وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم.
الثالثة: معنى الآية الامر بتعظيم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم.
وفي قراءة ابن مسعود {لا ترفعوا بأصواتكم} وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء.
الرابعة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وكلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه.
الخامسة: وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لان ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقروا الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما كان منهم في الحرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس ابن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفية يقول نابغة بني جعدة:
زجر أبي عروة السباع إذا *** أشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه.
السادسة: قال الزجاج: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ} التقدير لان تحبط، أي فتحبط أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة، وليس قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الايمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم.
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له. قال أبو هريرة: لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ}
قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار. وذكر سنيد قال: حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: لما نزلت {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار.
وقال عبد الله بن الزبير: لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ} ما حدث عمر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض، فنزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى}. قال الفراء: أي أخلصها للتقوى.
وقال الأخفش: أي اختصها للتقوى.
وقال ابن عباس: {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} طهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى.
وقال عمر رضي الله عنه: أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته. فمعنى امتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى. وعلى الأقوال المتقدمة: امتحن قلوبهم فأخلصها، كقولك: امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت. ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام، وهو الإخلاص.
وقال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد:
أتت رذايا باديا كلالها *** قد محنت واضطربت آطالها
{لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)}
قال مجاهد وغيره: نزلت في أعراب بني تميم، قدم الوفد منهم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدخلوا المسجد ونادوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين. وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نام للقائلة. وروي أن الذي نادي الأقرع بن حابس، وأنه القائل: إن مدحي زين وإن ذمي شين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذاك الله». ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا.
وروى زيد بن أرقم فقال: أتى أناس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه، وإن يكن ملكا نعش في جنابه. فأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قيل: إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل: كانوا تسعة عشر: قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن وهو الأحمق المطاع، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة، أي يتبعه، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتر كان في عينيه ذكر عبد الرزاق في عيينة هذا أنه الذي نزل فيه {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا} [الكهف: 28]. وقد مضى في آخر الأعراف من قوله لعمر رضي الله عنه ما فيه كفاية، ذكره البخاري. وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راقد، فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد، اخرج إلينا، فاستيقظ وخرج، ونزلت. وسيل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم». والحجرات جمع الحجرة، كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة.
وقيل: الحجرات جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع. وفية لغتان ضم الجيم وفتحها. قال:
ولما رأونا باديا ركباتنا *** على موطن لا نخلط الجد بالهزل
والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى الحجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {الحجرات} بفتح الجيم استثقالا للضمتين. وقرئ: {الحجرات} بسكون الجيم تخفيفا. واصل الكلمة المنع. وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
أي لو انتظروا خروجك لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب.
وقيل: كانوا جاءوا شفعاء في أسارى بني عنبر فأعتق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصفهم، وفادي على النصف. ولو صبروا لاعتق جميعهم بغير فداء. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ} قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم- في رواية: لإحنة كانت بينه وبينهم-، فرجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد وراي صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان يقول نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التأني من الله والعجلة من الشيطان».
وفي رواية: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوا صدقاتهم. فهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمر راجعا، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله، والله ما خرجنا لذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسمي الوليد فاسقا أي كاذبا. قال ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله: الفاسق الكذاب.
وقال أبو الحسن الوراق: هو المعلن بالذنب.
وقال ابن طاهر: الذي لا يستحي من الله. وقرأ حمزة والكسائي {فتثبتوا} من التثبت. الباقون {فَتَبَيَّنُوا} من التبيين {أَنْ تُصِيبُوا} أي لئلا تصيبوا، ف {أن} في محل نصب بإسقاط الخافض. {قَوْماً بِجَهالَةٍ} أي بخطإ. {فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ} على العجلة وترك التأني الثانية: في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الاخبار إجماعا، لان الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها. وقد استثني الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل أن يقول: هذا عبدي، فإنه يقبل قوله. وإذا قال: قد أنفذ فلان هذا لك هدية، فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا. وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون وليا في النكاح.
وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي ما لها فيلي بضعها. كالعدل، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم، وقد يبذل المال ويصون الحرمة، وإذا ولي المال فالنكاح أولى.
الثالثة: قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين. وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم، ولا استطيعت إزالتهم صلى معهم ووراءهم، كما قال عثمان: الصلاة أحسن ما يفعل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله، ومنهم من كان يجعلها صلاته. وبوجوب الإعادة أقول، فلا ينبغي لاحد أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الأئمة، ولكن يعيد سرا في نفسه، ولا يؤثر ذلك عند غيره.
الرابعة: وأما أحكامه إن كان واليا فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكى، فإن الكلام كثير والحق ظاهر.
الخامسة: لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله، أو إذن يعلمه، إذا لم يخرج عن حق المرسل والمبلغ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله. وهذا جائز للضرورة الداعية إليه، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها شيء لعدمهم في ذلك. والله أعلم.
السادسة: وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لان الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة.
السابعة: فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة، كالقضاء بالشاهدين العدلين، وقبول قول العالم المجتهد. وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله. ذكر هذه المسألة القشيري، والذي قبلها المهدوي.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (
}
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} فلا تكذبوا، فإن الله يعلمه أنباءكم فتفتضحون. {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي لو تسارع إلى ما أردتم قبل وضوح الامر لنالكم مشقة وإثم، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه لكان خطأ، ولعنت من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ومعنى طاعة الرسول لهم: الائتمار بما يأمر به فيما يبلغونه عن الناس والسماع منهم. والعنت الإثم، يقال: عنت الرجل. والعنت أيضا الفجور والزنى، كما في سورة النساء. والعنت أيضا الوقوع في أمر شاق، وقد مضى في آخر {براءة} القول في {عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] بأكثر من هذا. {وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ} هذا خطاب للمؤمنين المخلصين الذين لا يكذبون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يخبرون بالباطل، أي جعل الايمان أحب الأديان إليكم. {وَزَيَّنَهُ} بتوفيقه. {فِي قُلُوبِكُمْ} أي حسنه إليكم حتى اخترتموه.
وفي هذا رد على القدرية والإمامية وغيرهم، حسب ما تقدم في غير موضع. فهو سبحانه المنفرد بخلق ذوات الخلق وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا شريك له. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ} قال ابن عباس: يريد به الكذب خاصة. وقاله ابن زيد.
وقيل: كل ما خرج عن الطاعة، مشتق من فسقت الرطبة خرجت من قشرها. والفأرة من جحرها. وقد مضى في البقرة القول فيه مستوفي. والعصيان جمع المعاصي. ثم انتقل من الخطاب إلى الخبر فقال: {أُولئِكَ} يعني هم الذين وفقهم الله فحبب إليهم الايمان وكره إليهم الكفر أي قبحه عندهم {هُمُ الرَّاشِدُونَ} كقول تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]. قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند *** أقوت وطال عليها سالف الأمد
والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، من الرشاد وهي الصخرة.
قال أبو الوازع: كل صخرة رشادة. وأنشد:
وغير مقلد وموشمات *** صلين الضوء من صم الرشاد
{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي فعل الله ذلك بكم فضلا، أي الفضل والنعمة، فهو مفعول له. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {عَلِيمٌ} بما يصلحكم {حَكِيمٌ} في تدبيركم.
{وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما} روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال قلت: يا نبي الله، لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إليك عني! فوالله لقد أذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطيب ريحا منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت في الأوس والخزرج. قال مجاهد: تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية. ومثله عن سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتال بالسعف والنعال ونحوه، فأنزل الله هذه الآية فيهم.
وقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما، فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة، لكثرة عشيرته. ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبي أن يتبعه، فلم يزل الامر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والسيوف، فنزلت هذه الآية.
وقال الكلبي: نزلت في حرب سمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطبا، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزلت. وأمر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين أن يصلحوا بينهما.
وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل من غير الأنصار، فتخاصمت مع زوجها، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى قومها، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وتجالدوا بالنعال، فنزلت الآية. والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والاثنين، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لان الطائفتين في معنى القوم والناس.
وفي قراءة عبد الله {حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاءوا فخذوا بينهم بالقسط}. وقرأ ابن أبي عبلة {اقتتلتا} على لفظ الطائفتين. وقد مضى في آخر {براءة} القول فيه.