{وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (
}
قوله تعالى: {وَالطُّورِ} الطُّورِ اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى، أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة.
وروى إسماعيل ابن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة قيل: فما الأجبل؟ قال: جبل أحد يحبنا ونحبه والطُّورِ جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة والجودي جبل من جبال الجنة» وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب التذكرة. قال مجاهد: الطُّورِ هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدي.
وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا، لأنهما ينبتان التين والزيتون.
وقيل: هو جبل بمدين واسمه زبير. قال الجوهري: والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.
قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام.
وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور، قاله ابن عباس. وقد مضى في البقرة مستوفى. قوله تعالى: {وَكِتابٍ مَسْطُورٍ} أي مكتوب، يعني القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرءوه الملائكة من اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ}.
وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رق ينشره أهله لقراءته.
وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم.
وقال الفراء: هو صحائف الأعمال، فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله، نظيره: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً} وقوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}.
وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرءون فيه ما كان وما يكون.
وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين، بيانه: {أولئك كتب في قلوبهم الايمان}. قلت: وفي هذا القول تجوز، لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء، والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها، ومنه قول المتلمس:
فكأنما هي من تقادم عهدها *** رق أتيح كتابها مسطور
وأما الرق بالكسر فهو الملك، يقال: عبد مرقوق.
وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب. قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة.
وقيل: في السماء الرابعة، روى أنس ابن مالك، عن مالك بن صعصعة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حيال الكعبة لو خر خر عليها يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه» ذكره الماوردي.
وحكى القشيري عن ابن عباس أنه في السماء الدنيا.
وقال أبو بكر الأنباري: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح. وكذا في الصحاح: والضراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ابن عباس. وعمر أنه كثرة غاشيته من الملائكة.
وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الاسراء: «ثم رفع إلي البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذ اخرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم» وذكر الحديث.
وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أتيت بالبراق» الحديث، وفيه: «ثم عرج بنا إلى السابعة فأستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه». وعن ابن عباس أيضا قال: لله في السموات والأرضين خمسة عشر بيتا، سبعة في السموات وسبعة في الأرضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة.
وقال الحسن: الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أول بيت وضعه الله للعبادة في الأرض.
وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيعمره كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوأ الله عز وجل لإبراهيم مكان البيت حيث كان، قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يعني السماء سماها سقفا، لأنها للأرض كالسقف للبيت، بيانه: {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً}. وقال، ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قال مجاهد: الموقد، وقد جاء في الخبر: «إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارا».
وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:
إذا شاء طالع مسجورة *** ترى حولها النبع والساسما
يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ} أي أوقدت، سجرت التنور أسجره سجرا أي أحميته.
وقال سعيد ابن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أراك إلا صادقا، وتلا: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}. {وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ} مخففة.
وقال عبد الله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب: يسجر البحر غدا فيزاد في نار جهنم، فهذا قول وقال ابن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية.
وروى عطية وذو الرمة الشاعر عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ، قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمة حديث إلا هذا.
وقيل: المسجور أي المفجور، دليله: {وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ} أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء.
وقول ثالث قاله علي رضي الله عنه وعكرمة. قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش.
وقال علي: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم.
وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح. قلت: وإليه يرجع معنى {فُجِّرَتْ} في أحد التأويلين، أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي.
وروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس. {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ} هذا جواب القسم، أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب {وَالطُّورِ} إلى قوله: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ} فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب.
وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ {وَالطُّورِ} حتى بلغ {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ} فبكى الحسن وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول {وَالطُّورِ} إلى أن قاله له قل: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ} إن كنت كاذبا، فقالها فخرج فكسر من حينه.
{يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}
قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً} العامل في يوم قوله: {لَواقِعٌ} أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله.
وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش: تكفأ، وأنشد للأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها *** مور السحابة لا ريث ولا عجل
وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها *** بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب.
وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة:
فوق مور معبد ***
والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر:
على ظهر موار الملاط حصان ***
الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار، أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح.
وقيل: إن السماء ها هنا الفلك ومورة اضطراب نظمه واختلاف سيره، قاله ابن بحر. {وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً} قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض.
وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا، بيانه {وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ}. وقد مضى هذا المعنى في {الكهف}. {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
{فَوَيْلٌ} كلمة تقال للهالك، وإنما دخلت الفاء لان في الكلام معنى المجازاة. {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب.
وقيل: في خوض في أسباب الدنيا يلعبون لا يذكرون حسابا ولا جزاء. وقد مضى في {براءة}. قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} {يَوْمَ} بدل من يومئذ. و{يُدَعُّونَ} معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى: {فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}.
وفي التفسير: إن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعونهم في النار دفعا على وجوههم، وزخا في أعناقهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي وابن السميقع {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} بالتخفيف من الدعاء فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: {هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ} في الدنيا. قوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هذا} استفهام معناه التوبيخ والتقريع، أي يقال لهم: {أَفَسِحْرٌ هذا} الذي ترون الآن بأعينكم {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}.
وقيل: {أَمْ} بمعنى بل، أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. قوله تعالى: {اصْلَوْها} أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ} أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن ف {سَواءٌ} خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شي، كما أخبر عنهم أنهم يقولون: {سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا}. {إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)}
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا {فاكِهِينَ} أي ذوي فاكهة كثيرة، يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، كما يقال: لابن وتامر، أي ذو لبن وتمر، قال:
وغررتني وزعمت أن *** ك لابن بالصيف تامر
أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره: {فكهين} بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره، يقال: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا: والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في الدخان القول في هذا. {بِما آتاهُمْ} أي أعطاهم {رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ}. {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم ذلك. {هَنِيئاً} الهني ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه {هَنِيئاً}.
وقيل: أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا.
وقيل: أي كلوا واشربوا هنئتم {هَنِيئاً} فهو صفة في موضع المصدر.
وقيل: {هَنِيئاً} أي حلالا.
وقيل: لا أذى فيه ولا غائلة.
وقيل: {هَنِيئاً} أي لا تموتون، فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنئ. قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ} سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. {مَصْفُوفَةٍ} قال ابن الاعرابي: أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا.
وفي الاخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له، فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير ما بين مكة وأيلة. {وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة، وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عز وجل: {وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي قرناهم بهن، من قول الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} أي وقرناءهم.
وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة في أزد شنوءة. وقد مضى القول في معنى الحور العين.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} قرأ العامة {وأتبعتهم} بوصل الالف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ عمرو {وأتبعناهم} بقطع الالف وإسكان التاء والعين ونون، اعتبارا بقوله: {أَلْحَقْنا بِهِمْ}، ليكون الكلام على نسق واحد. فأما قوله: {ذُرِّيَّتُهُمْ} الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون {ذُرِّيَّتُهُمْ} على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون {ذريتهم} على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه، فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الأولى أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في الناسخ والمنسوخ له عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لتقر بهم عينه» ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ} الآية. قال أبو جعفر: فصار الحديث مرفوعا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذا يجب أن يكون، لان ابن عباس لا يقول هذا إلا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه إخبار عن الله عز وجل بما يفعله وبمعنى أنه أنزلها جل ثناؤه. الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الاخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم.
وعن ابن عباس أيضا أنه قال: إن الله ليلحق بالمؤمن ذريته الصغار الذين لم يبلغوا الايمان، قاله المهدوي. والذرية تقع على الصغار والكبار، فإن جعلت الذرية ها هنا للصغار كان قوله تعالى: {بِإِيمانٍ} في موضع الحال من المفعولين، وكان التقدير {بِإِيمانٍ} من الآباء. وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله: {بِإِيمانٍ} حالا من الفاعلين. القول الثالث عن ابن عباس: أن المراد بالذين آمنوا المهاجرون والأنصار والذرية التابعون.
وفي رواية عنه: إن كان الآباء أرفع درجة رفع الله الأبناء إلى الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة رفع الله الآباء إلى الأبناء، فالآباء داخلون في اسم الذرية، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}. وعن ابن عباس أيضا يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال لهم إنهم لم يدركوا ما أدركت فيقول يا رب إني عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به». وقالت خديجة رضي الله عنها: «سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ولدين لي ماتا في الجاهلية فقال لي: هما في النار فلما رأى الكراهية في وجهي قال: لو رأيت مكانهما لابغضتهما قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: في الجنة ثم قال: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة والمشركين وأولادهم في النار ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ} الآية». {وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا}.
وقال ابن زيد: المعنى {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ} ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل، فالهاء والميم على هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير {وما ألتناهم} بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة {آلتناهم} بالمد، قال ابن الاعرابي: ألته يألته ألتا، وآلته يؤلته إيلاتا، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه.
وفي الصحاح: ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى بالحجرات. {كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} قيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم، ولهذا قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ}.
وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله. ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يلحقون آباءهم المؤمنين بل يكونون مرتهنين بكفرهم. قوله تعالى: {وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله، أمدهم بها غير الذي كان لهم. قوله تعالى: {يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً} أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس: إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره، فإذا فرغ لم يسم كأسا. وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني *** لا بالحصور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد *** صاح الدجاج وحانت وقعة الساري