{وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)}
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ} لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الاقراء، عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شي: الصغار وذوات الحمل، فنزلت: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} الآية.
وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى؟ فنزلت: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ} يعني قعدن عن المحيض.
وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست، فنزلت الآية. والله أعلم.
وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة.
الثانية: قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي شككتم، وقيل تيقنتم. وهو من الأضداد، يكون شكا ويقينا كالظن. واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن.
وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيري: وفي هذا نظر، لأنا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول، أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قول: غالب نساء عشيرة المرأة.
وقال مجاهد: قوله إِنِ ارْتَبْتُمْ للمخاطبين، يعني إن لم تعلموا كم عدة اليائسة والتي لم تحض فالعدة هذه.
وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر.
وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في أول الشهر مرارا وفي الأشهر مرة.
وقيل: إنه متصل بأول السورة. والمعنى: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة. وهو أصح ما قيل فيه.
الثالثة: المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم أرتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا، والامة شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر. وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق. فإن كانت المرأة شابة وهي:
المسألة الرابعة: استؤني بها هل هي حامل أم لا، فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي أرتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. واهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر. قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكيا. وهو الحق، لان الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، والمرتابة ليست آيسة.
الخامسة: وأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة.
وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة. وقد طلق حبان بن منقذ. امرأته وهي ترضع، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد، فقالا: نرى أن ترثه، لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.
السادسة: ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة، على ما ذكرناه. فتحل ما لم ترتب بحمل، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة، على اختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام، فإن تجاوزتها حلت.
وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة. قال ابن العربي: وهو الصحيح، لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد روي عن مالك مثله.
السابعة: وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث. قال الليث: عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنة. وهو مشهور قول علمائنا، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه، عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة، منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة.
وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. ابن العربي: وهو الصحيح عندي.
وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها أعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والأثر. قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}- يعني الصغيرة- فعدتهن ثلاثة أشهر، فأضمر الخبر. وإنما كانت عدتها بالأشهر لعدم الاقراء فيها عادة، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات، فهي تعتد بالأشهر. فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء انتقلت إلى الدم لوجود الأصل، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم، كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم أرتفع عادت إلى الأشهر. وهذا إجماع. قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ} وضع الحمل، وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عليها عطف واليها رجع عقب الكلام، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك، لعموم الآية وحديث سبعة. وقد مضى في البقرة القول فيه مستوفى.
الثانية: إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مضغة حلت.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة البقرة وسورة الرعد والحمد لله. قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} قال الضحاك: أي من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة. {ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ} أي الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبينه لكم. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} أي يعمل بطاعته. {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ} من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} أي في الآخرة.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ}. فلو كان معها ما قال أسكنوهن.
وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} يعني المطلقات اللاتي بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لان ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل. وإنما أمر الله بالسكنى للائي بنَّ من أزواجهن مع نفقتهن، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة قد مهدنا سبلها قرآنا وسنة ومعنى في مسائل الخلاف. وهذا مأخذها من القرآن.
قلت: أختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال فمذهب مالك والشافعي: أن لها السكنى ولا نفقة لها. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة. ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: أن لا نفقة لها ولا سكنى، على حديث فاطمة بنت قيس، قالت: دخلت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة؟ قال: «بل لك السكنى ولك النفقة». قال: إن زوجها طلقها ثلاثا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة». فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. خرجه الدارقطني. ولفظ مسلم عنها: أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: «لا نفقة لك ولا سكنى». وذكر الدارقطني عن الأسود قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال. يا شعبي، أتق الله وأرجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة. قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. قلت: ما أحسن هذا. وقد قال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية، لقوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]، وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية. والله أعلم. ولان السكنى تابعة للنفقة وجارية مجراها، فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى. وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قوله تعالى: {وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} وترك النفقة من أكبر الإضرار.
وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا، ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولأنها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة. ودليل مالك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ} حَمْلٍ الآية. على ما تقدم بيانه. وقد قيل: إن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أول الآية إلى قوله: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الأشهر وغير ذلك. وهو عام في كل مطلقة، فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة.
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ} أي من سعتكم، يقال وجدت في المال أجد وجدا ووجدا ووجدا وجدة. والوجد: الغنى والمقدرة. وقراءة العامة بضم الواو. وقرأ الأعرج والزهري بفتحها، ويعقوب بكسرها. وكلها لغات فيها.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} قال مجاهد: في المسكن. مقاتل: في النفقة، وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.
الرابعة: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا أو أقل منهن حتى تضع حملها. فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان والضحاك: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا ينفق عليها إلا من نصيبها. وقد مضى في البقرة بيانه. قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ}- يعني المطلقات- أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن. ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في البقرة والنساء مستوفى ولله الحمد.
الثانية: قوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} هو خطاب للأزواج والزوجات، أي وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل. والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع.
وقيل: ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار.
وقيل: هو الكسوة والدثار.
وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ} أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الام رضاعها وأبت الام أن ترضعه فليس له إكراهها، وليستأجر مرضعة غير أمه.
وقيل: معناه وإن تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها، وهو خبر في معنى الامر.
وقال الضحاك: إن أبت الام أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر. وقد اختلف العلماء فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال: قال علماؤنا: رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية، إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله.
الثاني- قال أبو حنيفة: لا يجب على الام بحال.
الثالث- يجب عليها في كل حال.
الرابعة: فإن طلقها فلا يلزمها رضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع. فإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وأمتنع الأب إلا تبرعا فالام أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الام لتطلب شططا فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها أخذت جبرا برضاع ولدها.
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ} أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق، عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله.
وقال الامام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه: النفقة مقدرة محددة، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره، ولا يعتبر بحالها وكفايتها. قالوا: فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس. فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان، وإن كان متوسطا فمد ونصف، وإن كان معسرا فمد. واستدلوا بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية. فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها، ولان الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره، فيؤدي إلى الخصومة، لان الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها، وهي تزعم أن الذي تطلب تطلبه قدر كفايتها، فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة. والأصل في هذا عندهم قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} كما ذكرنا وقوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره. وهذا مسلم. فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه، وقد قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233 وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما، لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما. وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لهند: «خدي ما يكفيك وولدك بالمعروف». فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شيء مقدر، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم. ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف، والآية لا تقتضيه.
الثانية: روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم، وفرض له عثمان خمسين درهما. ابن العربي: واحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس، وقد روي محمد بن هلال المزني قال: حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة، فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية. ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة. وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ ففرض له مائة. قال ابن العربي: هذا الفرض قبل الفطام مما أختلف فيه العلماء، فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته، وبه أقول. ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام. وقد روي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال: إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدى حنطة وقسطي خل وقسطي زيت. زاد غيره: وقال إنا قد أجرينا لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا، فدعا عليه. قال أبو الدرداء: كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلي الله عليه وسلم! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام، وقد درسا بعرف أخر.
فأما المد فدرس إلى الكيلجة. وأما القسط فدرس إلى الكيل، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام. وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير. وهذا الأصل، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة.
الثالثة: هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الام، خلافا لمحمد بن المواز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث. ابن العربي: ولعل محمدا أراد أنها على الام عند عدم الأب.
وفي البخاري عن النبي صلي الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة أنفق علي وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق على واستعملني ويقول لك ولدك أنفق علي إلى من تكلني» فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة.
الرابعة: قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها} أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني. سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي بعد الضيق غنى، وبعد الشدة سعة.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)}
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} لما ذكر الأحكام ذكر وحذر مخالفة الامر، وذكر عتو قوم وحلول العذاب بهم. وقد مضى القول في كَأَيِّنْ في آل عمران والحمد لله. {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها} أي عصت، يعني القرية والمراد أهلها. {فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً} أي جازيناها بالعذاب في الدنيا {وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً} في الآخرة.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط والسيف والخسف والمسخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. والنكر: المنكر. وقرى مخففا ومثقلا، وقد مضى في سور الكهف. {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها} أي عاقبة كفرها {وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً} أي هلاكا في الدنيا بما ذكرنا، والآخرة بجهنم. وجئ بلفظ الماضي كقوله تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] ونحو ذلك، لان المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة، وما هو كائن فكأن قد. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً} بين ذلك الخسر وأنه عذاب جهنم في الآخرة. {فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ} أي العقول. {الَّذِينَ آمَنُوا} بدل من أُولِي الْأَلْبابِ أو نعت لهم، أي يا أولي الألباب الذين آمنتم بالله اتقوا الله الذي أنزل عليكم القرآن، أي خافوه واعملوا بطاعته وانتهوا عن معاصيه. وقد تقدم. {رَسُولًا} قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل، أي أنزل إليكم قرآنا وأرسل رسولا.
وقيل: إن المعنى قد أنزل الله إليكم صاحب ذكر رسولا، رَسُولًا نعت للذكر على تقدير حذف المضاف.
وقيل: إن رسولا معمول للذكر لأنه مصدر، والتقدير: قد أنزل الله إليكم أن ذكر رسولا. ويكون ذكره الرسول قوله: {محمد رسول الله} [الفتح: 29]. ويجوز أن يكون رَسُولًا بدل من ذكر، على أن يكون رَسُولًا بمعنى رسالة، أو على أن يكون على بابه ويكون محمولا على المعنى، كأنه قال: قد أظهر الله لكم ذكرا رسولا، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء وهو هو. ويجوز أن ينتصب رَسُولًا على الإغراء كأنه قال: اتبعوا رسولا.
وقيل: الذكر هنا الشرف، نحو قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، ثم بين هذا الشرف، فقال: رَسُولًا. والأكثر على أن المراد بالرسول هنا محمد صلي الله عليه وسلم.
وقال الكلبي: هو جبريل، فيكونان جميعا منزلين. {يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ} نعت لرسول. وآياتِ اللَّهِ القرآن. {مُبَيِّناتٍ} قراءة العامة بفتح الياء، أي بينها الله. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسرها، أي يبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام. والأولى قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} [الحديد: 17]. {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} أي من سبق له ذلك في علم الله. {مِنَ الظُّلُماتِ} أي من الكفر. {إِلَى النُّورِ} الهدى والايمان. قال ابن عباس: نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وأضاف الإخراج إلى الرسول لان الايمان يحصل منه بطاعته. قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}. قرأ نافع وابن عامر بالنون، والباقون بالياء. {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} أي وسع الله له في الجنات.{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)}
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} دل على كمال قدرته وأنه يقدر على البعث والمحاسبة. ولا خلاف في السموات أنها سبع بعضها فوق بعض، دل على ذلك حديث الاسراء وغيره. ثم قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يعني سبعا. وأختلف فيهن على قولين: أحدهما- وهو قول الجمهور- أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله.
وقال الضحاك: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي سبعا من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. والأول أصح، لان الاخبار دالة عليه في الترمذي والنسائي وغيرهما. وقد مضى ذلك مبينا في البقرة. وقد خرج أبو نعيم قال: حدثنا محمد ابن علي بن حبيش قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق السراج، ح وحدثنا أبو محمد بن حبان قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا حفص ابن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن محمدا صلي الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها». قال أبو نعيم: هذا حديث ثابت من حديث موسى ابن عقبة تفرد به عن عطاء. روي عنه ابن أبي الزناد وغيره.
وفي صحيح مسلم عن سعيد ابن زيد قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فأنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين» ومثله حديث عائشة، وأبين منهما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة». قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض تختص دعوة أهل الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز.
وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما- أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها. وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني- أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يستمدونه. وهذا قول من جعل الأرض كالكرة.
وفي الآية قول ثالث حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة، ليس: بعضها فوق بعض، تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء. فعلى هذا إن لم يكن لاحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى أحتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم، لان فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها واردا، ولكان صلي الله عليه وسلم بها مأمورا. والله أعلم ما استأثر بعلمه، وصواب ما اشتبه على خلقه. ثم قال: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قال مجاهد: يتنزل الامر من السموات السبع إلى الأرضين السبع.
وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر. والامر هنا الوحي، في قول مقاتل وغيره. وعليه فيكون قوله: بَيْنَهُنَّ إشارة إلى بين هذه الأرض العليا التي، هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.
وقيل: الأمر القضاء والقدر. وهو قول الأكثرين. فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: {بَيْنَهُنَّ} إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها.
وقيل: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بحياة بعض وموت بعض وغنى قوم وفقر قوم.
وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها، فينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة واتساعها، كما يقال للموت: أمر الله، وللريح والسحاب ونحوها. {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني أن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكن، وإن استوى كل ذلك، في مقدوره ومكنته. {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته. ونصب عِلْماً على المصدر المؤكد، لان أَحاطَ بمعنى علم.
وقيل: بمعنى وأن الله أحاط إحاطة علما. ختمت السورة بحمد الله وعونه.