{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)}
قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} يريد القيامة، سميت بذلك لان الأمور تحق فيها قاله الطبري. كأنه جعلها من باب ليل نائم.
وقيل: سميت حاقة لأنها تكون من غير شك.
وقيل: سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة، وأحقت لأقوام النار.
وقيل: سميت بذلك لان فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله.
وقال الأزهري: يقال حاققته فحققته أحقه، أي غالبته فغلبته. فالقيامة حاقة لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل، أي كل مخاصم.
وفي الصحاح: وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق، فإذا غلبه قيل حقه. ويقال للرجل إذا خاصم في صغار الأشياء: إنه لنزق الحقاق. ويقال: ماله فيه حق ولا حقاق، أي خصومة. والتحاق التخاصم. والاحتقاق: الاختصام. والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات بمعنى.
وقال الكسائي والمورج: الحاقة يوم الحق. وتقول العرب: لما عرف الحقة مني هرب. والحاقة الأولى رفع بالابتداء، والخبر المبتدأ الثاني وخبره وهو مَا الْحَاقَّةُ لان معناها ما هي. واللفظ استفهام، معناه التعظيم والتفخيم لشأنها، كما تقول: زيد ما زيد! على التعظيم لشأنه. {وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ} استفهام أيضا، أي أي شيء أعلمك ما ذلك اليوم. والنبي صلي الله عليه وسلم كان عالما بالقيامة ولكن بالصفة فقيل تفخيما لشأنها: وما أدراك ما هي، كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها.
وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن وَما أَدْراكَ فقد أدراه إياه وعلمه. وكل شيء قال: {وما يدريك} فهو مما لم يعلمه.
وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: وَما أَدْراكَ فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: {وما يدريك} فإنه لم يخبر به.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)}
ذكر من كذب بالقيامة. والقارعة القيامة، سميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها. يقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي أهواله وشدائده. ونعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه وقوارص لسانه، جمع قارصة وهي الكلمة المؤذية. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الجن أو الانس، نحو آية الكرسي، كأنها تقرع الشيطان.
وقيل: القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين، قاله المبرد.
وقيل: عني بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه. وثمود قوم صالح، وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز. قال محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى، وكانوا عربا. وأما عاد فقوم هود، وكانت منازلهم بالأحقاف. والأحقاف: الرمل بين عمان إلى حضرموت واليمن كله، وكانوا عربا ذوي خلق وبسطة، ذكره محمد بن إسحاق. وقد تقدم.
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)}
فيه إضمار، أي بالفعلة الطاغية.
وقال قتادة: أي بالصيحة الطاغية، أي المجاوزة للحد، أي لحد الصيحات من الهول. كما قال: {إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31]. والطغيان: مجاوزة الحد، ومنه: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ} [الحاقة: 11] أي جاوز الحد.
وقال الكلبي: بالطاغية بالصاعقة.
وقال مجاهد: بالذنوب.
وقال الحسن: بالطغيان، فهي مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية. أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم.
وقيل: إن الطاغية عاقر الناقة، قاله ابن زيد. أي أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة، وكان واحدا، وإنما هلك الجميع لأنهم رضوا بفعله ومالئوه. وقيل له طاغية كما يقال: فلان راوية الشعر، وداهية وعلامة ونسابة.
{وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7)}
قوله تعالى: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي باردة تحرق ببردها كإحراق النار، مأخوذ من الصر وهو البرد، قاله الضحاك.
وقيل: إنها الشديدة الصوت.
وقال مجاهد: الشديدة السموم. عاتِيَةٍ أي عتت على خزانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبها، غضبت لغضب الله.
وقيل: عتت على عاد فقهرتهم. روى سفيان الثوري عن موسى ابن المسيب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ما أرسل الله من نسمة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من ماء إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل- ثم قرأ- إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ والريح لما كان يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل- ثم قرأ- بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ» أي أرسلها وسلطها عليهم. والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار. {سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} أي متتابعة لا تفتر ولا تنقطع، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما. قال الفراء: الحسوم التباع، من حسم الداء إذا كوي صاحبه، لأنه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه. قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:
ففرق بين بينهم زمان *** تتابع فيه أعوام حسوم
وقال المبرد: هو من قولك حسمت الشيء إذا قطعته وفصلته عن غيره.
وقيل: الحسم الاستئصال. ويقال للسيف حسام، لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته.
وقال الشاعر:
حسام إذا قمت معتضدا به *** كفى العود منه البدء ليس بمعضد
والمعنى أنها حسمتهم، أي قطعتهم وأذهبتهم. فهي القاطعة بعذاب الاستئصال. قال ابن زيد: حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعنه أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوعبتها.
لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم.
وقال الليث: الحسوم الشؤم. ويقال: هذه ليالي الحسوم، أي تحسم الخير عن أهلها، وقاله في الصحاح.
وقال عكرمة والربيع بن أنس: مشائيم، دليله قوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ} [فصلت: 16]. عطية العوفي: حُسُوماً أي حسمت الخير عن أهلها. وأختلف في أولها، فقيل: غداة يوم الأحد، قاله السدي.
وقيل: غداة يوم الجمعة، قاله الربيع بن أنس.
وقيل: غداة يوم الأربعاء، قاله يحيى بن سلام ووهب بن منبه. قال وهب: وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز، ذات برد وريح شديدة، وكان أولها يوم الأربعاء وآخرها يوم الأربعاء، ونسبت إلى العجوز لان عجوزا من عاد دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن.
وقيل: سميت أيام العجوز لأنها وقعت في عجز الشتاء. وهي في آذار من أشهر السريانيين. ولها أسام مشهورة، وفيها يقول الشاعر وهو ابن أحمر:
كسع الشتاء بسبعة غبر *** أيام شهلتنا من الشهر
فإذا انقضت أيامها ومضت *** صن وصنبر مع الوبر
وبآمر وأخيه مؤتمر *** ومعلل وبمطفئ الجمر
ذهب الشتاء موليا عجلا *** وأتتك وأقده من النجر
وحُسُوماً نصب على الحال. وقيل على المصدر. قال الزجاج: أي تحسمهم حسوما أي تفنيهم، وهو مصدر مؤكد. ويجوز أن يكون مفعولا له، أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال، أي لقطعهم واستئصالهم. ويجوز أن يكون جمع حاسم. وقرأ السدي حُسُوماً بالفتح، حالا من الريح، أي سخرها عليهم مستأصلة.
قوله تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها} أي في تلك الليالي والأيام. {صَرْعى} جمع صريع، يعني موتى.
وقيل: فِيها أي في الريح. {كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ} أي أصول. {نَخْلٍ خاوِيَةٍ} أي بالية، قاله أبو الطفيل.
وقيل: خالية الأجواف لا شيء فيها. والنخل يذكر ويؤنث. وقد قال تعالى في موضع آخر: {كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] فيحتمل أنهم شبهوا بالنخل التي صرعت من أصلها، وهو إخبار عن عظم أجسامهم. ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف.
وقال ابن شجرة: كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية.
وقال يحيى بن سلام، إنما قال خاوِيَةٍ لان أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية. ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع، كما قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً} [النمل: 52] أي خربة لا سكان فيها. ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا، لأنها إذا بليت خلت أجوافها. فشبهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية.
{فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (
}
أي من فرقة باقية أو نفس باقية.
وقيل: من بقية.
وقيل: من بقاء. فاعلة بمعنى المصدر، نحو العاقبة والعافية. ويجوز أن يكون اسما، أي هل تجد لهم أحدا باقيا.
وقال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذلك قوله عز وجل: {فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} وقوله عز وجل: {فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25].
{وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)}
قوله تعالى: {وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قرأ أبو عمرو والكسائي {ومن قبله} بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن معه وتبعه من جنوده. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبد الله وأبي {ومن معه}. وقرأ أبو موسى الأشعري {ومن تلقاءه}. الباقون قَبْلَهُ بفتح القاف وسكون الباء، أي ومن تقدمه من القرون الخالية والأمم الماضية. {وَالْمُؤْتَفِكاتُ} أي أهل قرى لوط. وقراءة العامة بالألف. وقرأ الحسن والجحدري {والمؤتفكة} على التوحيد. قال قتادة: إنما سميت قرى قوم لوط {مؤتفكات} لأنها ائتفكت بهم، أي انقلبت. وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: خمس قريات: صبعة وصعره وعمرة ودوما وسدوم، وهي القرية العظمى. {بِالْخاطِئَةِ} أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر.
وقال مجاهد: بالخطايا التي كانوا يفعلونها.
وقال الجرجاني: أي بالخطإ العظيم، فالخاطئة مصدر.
{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)}
قوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} قال الكلبي: هو موسى.
وقيل: هو لوط لأنه أقرب وقيل: عني موسى ولوطا عليهما السلام، كما قال تعالى: {فقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الشعراء: 16].
وقيل: رَسُولَ بمعنى رسالة. وقد يعبر عن الرسالة بالرسول، قال الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم *** بسر ولا أرسلتهم برسول
{فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً} أي عالية زائدة على الآخذات وعلى عذاب الأمم. ومنه الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال: ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف.
وقال مجاهد: شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة.
{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)}
قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ} أي أرتفع وعلا.
وقال علي رضي الله عنه: طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا.
وقال ابن عباس: طغى الماء زمن نوح على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج. وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم. وقد مضى هذا مرفوعا أول السورة. والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب: زجر هذه الامة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم من عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله: حَمَلْناكُمْ أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. {فِي الْجارِيَةِ} أي في السفن الجارية. والمحمول في الجارية نوح وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك. {لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً}
يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. جعلها الله تذكرة وعظه لهذه الامة حتى أدركها أوائلهم، في قول قتادة. قال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. والمعنى: أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح، وإنجاء الله آباءكم، وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شي.
وقيل: لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم، ولهذا قال الله تعالى: {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ}
أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. والسفينة لا توصف بهذا. قال الزجاج: ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي، أعيه وعيا. ووعيت العلم، ووعيت ما قلت، كله بمعنى. وأوعيت المتاع في الوعاء. قال الزجاج: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيته بالألف، ولما حفظته في نفسك وعيته بغير ألف. وقرأ طلحة وحميد والأعرج: {وَتَعِيَها} بإسكان العين، تشبيها بقوله: {أَرِنا} [البقرة: 128]. وأختلف فيها عن عاصم وابن كثير. الباقون بكسر العين، ونظير قوله تعالى: {وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37].
وقال قتادة: الاذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل.
وروى مكحول أن النبي صلي الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: «سألت ربي أن يجعلها أذن علي». قال مكحول: فكان علي رضي الله عنه يقول ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته إلا وحفظته. ذكره الماوردي. وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي قال: لما نزلت وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ قال النبي صلي الله عليه وسلم: «سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي» قال علي: فوالله ما نسيت شيئا بعد، وما كان لي أن أنسى.
وقال أبو برزة الأسلمي قال النبي صلي الله عليه وسلم لعلي: «يا علي إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحق على الله أن تعي».
{فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)}
قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات. وجاز تذكير نُفِخَ لان تأنيث النفخة غير حقيقي.
وقيل: إن هذه النفخة هي الأخيرة. وقال: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أي لا تثنى. قال الأخفش: ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل: نفخة. ويجوز {نفخة} نصبا على المصدر. وبها قرأ أبو السمال. أو يقال: أقتصر على الاخبار عن الفعل كما تقول: ضرب ضربا.
وقال الزجاج: فِي الصُّورِ يقوم مقام ما لم يسم فاعله.
{وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)}
قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ} قراءة العامة بتخفيف الميم، أي رفعت من أماكنها. {فَدُكَّتا} أي فتتا وكسرتا. {دَكَّةً واحِدَةً} لا يجوز في دَكَّةً إلا النصب لارتفاع الضمير في فَدُكَّتا.
وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة، والأرض كالجملة الواحدة. ومثله: {أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً} [الأنبياء: 30] ولم يقل كن. وهذا الدك كالزلزلة، كما قال تعالى: {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها} [الزلزلة: 1].
وقيل: فَدُكَّتا أي بسطتا بسطة واحدة، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وقد مضى في سورة الأعراف القول فيه. وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر {وحملت الأرض والجبال} بالتشديد على إسناد الفعل إلى المفعول الثاني. كأنه في الأصل وحملت قدرتنا أو ملكا من ملائكتنا الأرض والجبال، ثم أسند الفعل إلى المفعول الثاني فبني له. ولو جئ بالمفعول الأول لأسند الفعل إليه، فكأنه قال: وحملت قدرتنا الأرض. وقد يجوز بناؤه للثاني على وجه القلب فيقال: حملت الأرض الملك، كقولك: ألبس زيد الجبة، وألبست الجبة زيدا.
{فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)}
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} أي قامت القيامة. {وَانْشَقَّتِ السَّماءُ} أي انصدعت وتفطرت.
وقيل: تنشق لنزول ما فيها من الملائكة، دليله قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25] وقد تقدم. {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ} أي ضعيفة. يقال: وهي البناء يهي وهيا فهو واه إذا ضعف جدا. ويقال: كلام واه، أي ضعيف. فقيل: إنها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهي ويكون ذلك لنزول الملائكة كما ذكرنا.
وقيل: لهول يوم القيامة.
وقيل: واهِيَةٌ أي متخرقة، قاله ابن شجرة. مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرق. ومن أمثالهم:
خل سبيل من وهى سقاؤه *** ومن هريق بالفلاة ماؤه
أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. {وَالْمَلَكُ} يعني الملائكة، اسم للجنس. {عَلى أَرْجائِها} أي على أطرافها حين تنشق، لان السماء مكانهم، عن ابن عباس. الماوردي: ولعله قول مجاهد وقتادة. وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم ينشق منها.
يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها.
وقال سعيد بن جبير: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها.
وقيل: إذا صارت السماء قطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها.
وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم، فيندوا كما تند الإبل، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاءوا.
وقيل: عَلى أَرْجائِها ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جبير. ويدل عليه: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25] وقوله تعالى: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن: 33] على ما بيناه هناك. والارجاء النواحي والأقطار بلغة هذيل، واحدها رجا مقصور، وتثنيته رجوان، مثل عصا وعصوان. قال الشاعر:
فلا يرمى بي الرجوان أني *** أقل القوم من يغني مكاني
ويقال ذلك لحرف البئر والقبر. قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} قال ابن عباس: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله.
وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، ثمانية أم ثمانية آلاف. وعن النبي صلي الله عليه وسلم: «أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية». ذكره الثعلبي. وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «يحمله اليوم أربعة وهم يوم القيامة ثمانية».
وقال العباس بن عبد الملك: هم ثمانية أملاك على صورة الأوعال. ورواه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي الحديث: «إن لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس». ولما أنشد بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم قول أمية بن أبي الصلت:
رجل وثور تحت رجل يمينه *** والنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلة *** حمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعه لهم في رسلها *** إلا معذبة وإلا تجلد
قال النبي صلي الله عليه وسلم: «صدق».
وفي الخبر: «أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش». ذكره القشيري وخرجه الترمذي من حديث العباس بن عبد المطلب. وقد مضى في سورة البقرة بكماله. وذكر نحوه الثعلبي ولفظه.
وفي حديث مرفوع: «أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما للطائر المسرع».
وفي تفسير الكلبي: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة. وعنه: ثمانية أجزاء من عشرة أجزاء من الملائكة. ثم ذكر عدة الملائكة بما يطول ذكره. حكى الأول عنه الثعلبي والثاني القشيري.
وقال الماوردي عن ابن عباس: ثمانية أجزاء من تسعة وهم الكروبيون. والمعنى ينزل بالعرش. ثم إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت، وليس البيت للسكنى، فكذلك العرش. ومعنى: فَوْقَهُمْ أي فوق رؤوسهم. قال السدي: العرش تحمله الملائكة الحملة فوقهم ولا يحمل حملة العرش إلا الله.
وقيل: {فَوْقَهُمْ} أي إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها.
وقيل: فَوْقَهُمْ أي فوق أهل القيامة.
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)}
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} أي، على الله، دليله:- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة.
وروى الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله». خرجه الترمذي قال: ولا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. {لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} أي هو عالم بكل شيء من أعمالكم. ف خافِيَةٌ على هذا بمعنى خفية، كانوا يخفونها من أعمالهم، قاله ابن شجرة.
وقيل: لا يخفى عليه إنسان، أي لا يبقى إنسان لا يحاسب.
وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص: لا يخفى المؤمن من الكافر ولا البر من الفاجر.
وقيل: لا تستتر منكم عورة، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: «يحشر الناس حفاة عراة». وقرأ الكوفيون إلا عاصما {لا يخفى} بالياء، لان تأنيث الخافية غير حقيقي، نحو قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] واختاره أبو عبيد، لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم المؤنث الجار والمجرور. الباقون بالتاء. واختاره أبو حاتم لتأنيث الخافية.