أحكام دفن الميت
1) حكمُ حملِ الميّتِ ودفنِهِ:
حملُ الميّتِ ودفنُهُ فرضُ كفايةٍ؛ لقول الله عز وجل: ﴿ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴾ [عبس: 21] قال ابن عباس رضي الله عنهما: « معناهُ: أكرمَهُ بدفنِهِ »، ولأنّ في تركِ الحملِ والدَّفنِ هتكاً لحرمةِ الميّتِ.
لكنْ يسقطُ الحملُ والدّفنُ والتّكفينُ إذا وليَهم كافرٌ؛ لأنّه لا يُشترطُ الإسلامُ فيمَنْ يتولّى ذلك.
2) حكمُ أخذِ الأجرةِ على ذلك:
يُكرهُ أخذُ الأجرةِ على الحملِ والدّفنِ، كما يكرهُ على الغَسلِ والتّكفينِ؛ لأنّها عبادةٌ، وأخذُ الأجرةِ عليها يُذهِبُ الأجرَ.
3) آدابُ حملِ الجنازةِ:
أ - يُسَنُّ أن يكونَ الماشِي أمامَ الجنازةِ؛ لحديثِ ابن عمر رضي الله عنهما قال: « رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ » [رواه الخمسة]. ولا يكرهُ خلفَها.
ويُسنُّ أن يكونَ الراكبُ خلفَ الجنازةِ؛ لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الجَنَازَةِ، وَالمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا » [رواه التّرمذيّ]، ويكرهُ أن يكونَ أمامَها؛ لحديث ثوبان رضي الله عنه قال: « خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَرَأَى نَاساً رُكْبَاناً؛ فَقَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ؟ إِنَّ مَلَائِكَةَ الله عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ » [رواه التّرمذيُّ، وأشار إلى ضعفه].
والقربُ من الجنازةِ أفضلُ من البعدِ عنها؛ كالقربِ من الإمامِ في الصّلاةِ.
ب- يُكرَهُ القيامُ للجنازةِ؛ لحديث مسعودِ بنِ الحكمِ الأنصاريّ أنّه سمع عليَّ بنَ أبِي طالبٍ رضي الله عنه يقول فِي شأنِ الجنائزِ: « إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَامَ ثُمَّ قَعَدَ » [رواه مسلم].
ج- يُكرَهُ رفعُ الصّوتِ والصِّياحُ مع الجنازةِ وعندَ رفعِها ولو بالذِّكرِ والقرآنِ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: « لاَ تُتْبَعُ الجَنَازَةُ بِصَوْتٍ وَلاَ نَارٍ » [رواه أبو داود]. وعن قيس بن عباد أنّه قال : « كانَ أَصْحابُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَكْرهُونَ رَفعَ الصَّوتِ عِندَ الجَنَائِزِ » [رواه البيهقيّ].
4) أحكامُ دَفْنِ الميّتِ:
أ - يُسَنُّ أن يعمّقَ القبرُ ويوسّعَ؛ لحديث هشامِ بن عامرٍ رضي الله عنه أنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُمْ يومَ أحدٍ: « احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا »، وفي روايةٍ: « وَأَوْسِعُوا » [رواه أبو داود والترمذيُّ، وصحّحه]. والتّوسعةُ: هي الزّيادةُ في الطّولِ والعرضِ. والعمقُ: هو الزِّيادةُ في النّزولِ.
وليس لذلك حَدٌّ؛ لعمومِ الحديثِ، وقال الإمام أحمدُ : « يُعمّقُ القبرُ إلى الصّدرِ؛ الرّجلُ والمرأةُ في ذلك سواءٌ؛ كان الحسنُ وابنُ سيرينَ يستحبّانِ أن يعمّقَ القبرُ إلى الصّدرِ ».
ويكفِي ما يَمنعُ السِّباعَ والرَّائحةَ؛ لأنّه يحصلُ به المقصودُ.
ب- يُكرَهُ إدخالُ القبرِ خشباً إلّا لضرورةٍ، وأيِّ شيءٍ مسّتهُ نارٌ كآجُرٍّ - تفاؤلاً أن لا يمسَّ الميّتَ نارٌ-، ودفنٌ في تابوتٍ، ولو كان الميّتُ امرأةً. قال إبراهيمُ النخعيُّ -رحمه الله-: « كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ اللَّبِنَ ويكرهُونَ الآجُرَّ، وَيَسْتَحِبُّونَ القَصَبَ ويكرهُونَ الخَشَبَ » [رواه ابنُ أبي شيبة].
ج- يُكرَهُ وضعُ فِراشٍ تحتَ الميّتِ، وجعلُ مِخَدَّةٍ تحتَ رأسِهِ؛ لأنّه لم ينقلْ عن أحدٍ من السّلفِ، ولما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: « أنّه كَرِهَ أن يُلقَى تَحتَ المَيِّتِ فِي القَبرِ شَيءٌ» [رواه الترمذيّ معلّقاً بلا إسناد].
د - يُسنُّ لمُدخِلِهِ القبرَ أن يقولَ: « بِسمِ اللهِ وَعَلَى مِلّةِ رَسُولِ اللهِ »؛ لحديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَضَعَ الَميِّتَ فِي الْقَبْرِ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، وبِاللهِ، وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ » [رواه الترمذي، وقال : «وقال مرة : وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ »].
هـ- يجبُ أن يستقبلَ بالميّتِ القبلةَ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عنِ البيتِ الحرامِ: « قِبْلَتُكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً» [رواه أبو داود والنّسائي]. ويُسَنُّ أن يكونَ على جنبِهِ الأيمنِ؛ لأنّ الميّتَ يُشبِهُ النّائمَ، والنّائمُ سُنّتُه النّومُ على جنبِهِ الأيمنِ.
و- يحرمُ دفنُ غيرِ الميّتِ عليهِ أو مَعَهُ في القبرِ إلاّ لضرورةٍ أو حاجةٍ؛ ككثرةِ الموتى وقلّةِ من يدفنُهم؛ لحديثِ هشامِ بنِ عامرٍ رضي الله عنه قال : «لمّا كانَ يومُ أحدٍ شَكَوا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ القَرْحَ؛ فقالُوا : يا رسولَ اللهِ علينا الحَفرُ لكلِّ إنسانٍ؟ قال: احفِرُوا وأعمِقُوا وأحسِنُوا وادفِنُوا الاثنينِ والثلاثةَ فِي قبرٍ » [رواه النّسائي].
ز- يُسنُّ لكلِّ من حضرَ الدَّفنَ أن يَحْثُوَ التُّرابَ على الميّتِ ثلاثاً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: « أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ أَتَى قَبْرَ المَيِّتِ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا » [رواه ابن ماجه]. ثمّ يهالُ عليهِ التُّرابُ؛ لأنّ مُواراتَه فرضٌ، وبالحثو يصيرُ ممّن شارك في المُواراةِ.
5) أحكامُ الـقَـبْرِ:
أ - يُسنُّ رَشُّ القبرِ بالماءِ، ووضعُ حصًى صغارٍ عليه؛ ليحفَظَ ترابَه؛ لحديث جعفرِ بن محمّد عن أبيه: « أنّ النّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ مَاءً، ووَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ » [رواه الشافعي، وهو مرسلٌ].
ب- يُسنُّ رفعُ القبرِ قدرَ شِبرٍ؛ لحديث جابر رضي الله عنه: « أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الْأَرْضِ نَحْواً مِنْ شِبْرٍ » [رواه ابن حبّان والبيهقيّ].
ويُكره رفعُه فوقَ شبرٍ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه: « لاَ تَدَع تِمْثَالاً إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ » [رواه مسلم].
ج- يُكرَهُ تزويقُ القبرِ، وتجصِيصُهُ، وتبخيرُهُ؛ لحديث جابر رضي الله عنه: « نَهَى النّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ » [رواه مسلم]، ولأنّ ذلكَ من زينةِ الدُّنيا فلا حاجةَ بالميّتِ إليهِ.
د - يُكرهُ تقبيلُ القبرِ؛ لأنّه منَ البدعِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ » [رواه مسلم].
هـ- يحرمُ الطّوافُ بالقبر؛ لحديثِ عائشةَ رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: « لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ » قالت عائشةُ: « يُحذِّرُ مَا صَنَعُوا، وَلَولا ذَلِك لأُبْرِزَ قَبرُهُ؛ غَيرَ أَنَّه خُشي أَن يُتَّخَذَ مَسْجِداً » [متّفق عليه، اللّفظ للبخاريّ].
قال في (شرح منتهى الإرادات) (1/594): « ويحرمُ الطوافُ بها؛ أي الحجرةُ النبويةُ؛ بل بغيرِ البيتِ العتيقِ اتفاقاً ».
و- يُكرهُ الاتّكاءُ على القبرِ؛ لحديثِ عمرو بن حزمٍ رضي الله عنه قال: « رَآنِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُتَّكِئٌ عَلَى قَبْرٍ؛ فَقَالَ: لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ » [رواه النّسائي وأحمد].
ز- يُكرهُ المبيتُ عند القبرِ، والضَّحِكُ، والحديثُ فِي أمرِ الدُّنيا عنده؛ لأنّه غيرُ لَائِقٍ بالمحلِّ وحُرمتِهِ.
ح- تُكرهُ الكتابةُ على القبرِ، والجلوسُ، والبناءُ عليه؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: « نَهَى النّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَن يُّكْتَبَ عَلَيْها، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وأَنْ تُوطَأَ » [رواه التّرمذي، وقال: حديث حسن صحيح].
ط- يُكرَهُ المشيُ بالنّعلِ بين القبورِ إلّا لخوفِ شَوْكٍ ونحوِهِ ممّا يُتأذى به؛ لحديثِ بشيرِ ابن الخصاصية رضي الله عنه قال: « بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ... وَحَانَتْ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ نَظْرَةٌ فَإِذَا رَجُلٌ يَمْشِي في الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلاَنِ فَقَالَ: « يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ وَيْحَكَ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ »؛ فَنَظَرَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا عَرَفَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ خَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا » [رواه أبو داود]، ولأنّ خلعَ النّعلينِ أقربُ إلى الخُشوعِ، وزِيِّ أهلِ التّواضعِ، واحترامِ أمواتِ المسلمينَ.
ي- يحرمُ إِسْراجُ المقابرِ، والدَّفنُ بالمساجدِ، وبناءُ المساجدِ على القبورِ؛ لحديثِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما : « لَعَنَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ ، وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» [رواه أبو داود وسكت عنه، والنسائي، والتّرمذيّ وحسّنه، وضعّفه ابنُ حجرٍ وغيرُه]، ولحديثِ عائشةَ رضي الله عنها السّابق: « لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ » [متّفق عليه]، ولأنّ في إسراجها تضييعاً للمالِ في غيرِ فائدةٍ، وتعظيماً لها يُشبه تعظيمَ الأصنامِ.
ك- يحرمُ الدّفنُ في مُلكِ الغيرِ ما لمْ يأذنْ مالكُهُ ، ويُنبَشُ من دُفنَ فيهِ، والأولى تركُهُ.
والدَّفنُ بالصحراءِ أفضلُ من الدّفنِ بالعُمرانِ؛ لما ثبتَ بالاستقراء: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَدفِنُ أصحابَهُ رضي الله عنهم بالبَقيعِ، ولم تزلِ الصحابةُ والتّابعونَ ومن بعدهم يُقبِرونَ في الصَّحارِي.
6) أحكـامُ دفـنِ الحاملِ:
إنْ ماتتِ المرأةُ الحاملُ بمَنْ تُرجى حياتُهُ حَرُمَ شَقُّ بطنِها من أجلِهِ؛ لأنّ فيه هَتكاً لحُرمةٍ مُتيَقّنةٍ لإبقاءِ حياةٍ مُتوَهّمةٍ؛ إذ الغالبُ أنّ الولدَ لا يعيشُ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الحَيِّ » [رواه أبو داود وابن ماجه].
قال ابنُ قُدامةَ في (المغني) (2/413): « ويحتملُ أن يُشقَّ بطنُ الأمِّ إنْ غلبَ على الظّنِّ أنّ الجنينَ يحيا وهو مذهبُ الشّافعي؛ لأنّه إتلافُ جزءٍ من الميّتِ لإبقاءِ حيٍّ؛ فجاز كما لو خرج بعضُهُ حيًّا ولم يمكنْ خروجُ بقيّتِهِ إلا بشقٍّ، ولأنّه يُشقُّ لإخراجِ المالِ منه؛ فلإبقاءِ الحيِّ أولى ».