وصايا بين يدي الحجِّ
الحمد لله الّذي رتّب على حجِّ بيته كلّ خيرٍ جزيل، وجعل قصده موصلاً إلى ظلِّه الظّليل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أوجب الحجّ على من استطاع إليه السّبيل، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله حثّ أمته على التّعجيل بالحجِّ قبل الرّحيل؛ صلّى الله عليه وسلّم، وعلى آله، وصحبه، والتّابعين لهم في كل عمل نبيل.
أمّا بعد: فإنّ من أعظم نعم الله على عبده: نعمة التّوفيق لطاعته، والمسارعة إلى إجابة ندائه، وإنّ من أجلّ النّداءات ؛ الّتي وردت بها الآيات: نداء الحجّ إلى بيت الله الحرام؛ الذي يلبِّيه كثيرٌ من إخواننا هذه الأيّام؛ فكان واجباً علينا النّصحُ لهم على وجه الكمال والتّمام؛ حتّى يكون سعيهم سعياً مشكوراً، وحجّهم -بإذن الله- متقبّلاً مبروراً.
وأُولى هذه النّصائح النّافعة، والوصايا المختصـرة الجامعة: هي الوصيّة بأصل الأعمال؛ الّذي به قبولها عند الكبير المتعال؛ ألا وهو الإخلاص لله ذي الجلال؛ فإنّ الله تعالى قد قال: ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ﴾ [البقرة : 196]؛ يعني خالصين لله سبحانه؛ يقصد بهما الحاجُّ وجه الله ورضوانه، ويريد بهما نيل مغفرة الله وإحسانه؛ فلا يحرّكه إليهما سمعةٌ ورياءٌ، ولا مباهاةٌ وفخرٌ وخيلاءُ، وقدوته في ذلك سيّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم؛ الّذي حجّ -كما في (سنن ابن ماجه)- «عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تَسْوَى -أَوْ لاَ تَسْوَى-، أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لاَ رِيَاءَ فِيهَا ، وَلاَ سُمْعَةَ».
وذلك لأنّ الرياء والسمعة يُحبطان عمل الحاجّ؛ كما ثبت في صحيح مسلم بن الحجّاج؛ عنه عليه الصّلاةُ والسّلامُ أنّه قال: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّـرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»، ولهذا رُوي عن شريح القاضي رحمه الله أنّه قال: «الحاجُّ قليلٌ والرُّكبانُ كثيرٌ، ما أكثر من يعملُ الخير، ولكن ما أقلّ الّذين يريدون وجهه!».
الوصيّة الثانية: أن يقدِّم الحاجُّ بين يدي حجِّه توبةً نصوحاً من جميع المعاصي والذُّنوبِ؛ يقلعُ فيها عن الذنوبِ جميعها، ويندمُ على ما مضى من فعلِها، ويعزمُ عزماً صادقاً ألا يرجع بعد الحجِّ إليها، وإن كانت هذه المعاصي ممّا يتعلّق بأموال النّاس وأعراضهم؛ فيجب عليه أن يردَّها إليهم أو يطلب المسامحة منهم، وليحذر أن ينطلق إلى حجِّه وهو ظالم؛ فربما تبعته دعوةُ مظلومٍ وهو لا يعلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم - كما روى البخاريُّ في (صحيحه)-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ».
وإنّ من توبته أن يتفقد نفقة حجِّه؛ فتكون من طيّب المال وحلاله، وليس فيها شيء من الحرام وما شابهه؛ لأنّ الله تعالى طيّبٌ لا يقبل إلا طيّباً، وهو سبحانه لا يقبلُ دعاء من كان الحارمُ له مطعماً.
الوصيّة الثّالثة: الاستعدادُ للحجِّ بالعلمِ النّافع، والتّفقّه في أحكامه على وجه واسع، والرّجوع إلى أهل العلم وسؤالهم عمّا يشكل، واقتناء ما لا بدّ منه من كتب الحجِّ؛ حتّى يعلم الحاجُّ ما يجهل، وقد قال صلى الله عليه وسلم- كما في البخاريّ ومسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». وإنّ الجهل بأحكام الحجِّ كثيراً ما يكون سبباً في وقوع الحاجّ في بعض محظورات الحجِّ أو مبطلاته؛ أو تضييع بعض أركان الحجِّ أو واجباته؛ ممّا يؤثِّر على حجِّه ونسكه.
ومن فاته أن يأخذ استعداده بالتّفقّه في الحج من الآن؛ فلا ينبغي له أن يتهاون عند وصوله إلى البلد الحرام؛ بل عليه أن يلزم مجالس العلماء، ويحرص على حلقات الفقهاء؛ فإنّ فيها من كلِّ جهل شفاء، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ومن تعلّم شيئاً من أحكام الحجّ؛ فلا يبخل به على إخوانه الحجّاج؛ فإنّ كثيراً منهم بحاجة إلى من ينبّههم على ما يقع منهم من تقصير في حجّهم، أو إخلال بنُسُكهم، وفي ذلك أجرٌ عظيمٌ؛ لقوله عليه أفضلُ الصّلاةِ وأزكى التّسليم -كما في (صحيح مسلم)-: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ».
الوصيّة الرّابعة: أن يكتب الحاجُّ قبل أن يسافر وصيّتَه؛ الّتي يبيّن فيها ما عليه من الدُّيون والحقوق وما له؛ فإنّه لا يدري لعله لا يرجع من سفره، فلو قُدِّر عليه شيءٌ يكون قد وثّق تلك الحقوق وبيّنها؛ فيضمن بذلك وصولها على أصحابها، ويكون قد أدى الأمانة فيها، وتبرأُ ذمّتُه منها، وقد ثبت في الصّحيحين عن قائد الغرِّ المحجّلين صلى الله لعيه وسلم أنّه قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَىْءٌ، يُوصِى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ »؛ فتخفّف أخي ما استطعت من الأمانات والودائع ونحوها، أو استأذن أصحابها في بقائها، واكتب في وصيّتك توثيقها، وأوص أهلك بعدك بأدائها، بعد أن توصيهم في أنفسهم بتقوى الله جلّ وعلا.
الوصيّة الخامسة: أن يختار الحاجُّ من الآن رفيقاً صالحاً، وصاحباً تقيًّا ورعاً؛ يرافقه في حجّه، ويشدُّ أزره في إتمام نسكه وإتقانه؛ فإنّ هذا من أسباب توفيقه، وبُعدِه عن الوقوع في الخطأ في حجِّه، وخاصّة إذا كان المصاحَب من أهل العلم وطلبته، والمرءُ على دين خليله.
وينبغي أن تصحب من ترافق بمحاسن الخلال، وجميل الخصال؛ فتعين ضعيفهم، وتحسن إلى معسرهم، وتواسيهم بحُرِّ مالك، وتسعهم بحلمك وتواضعك، وهكذا كان نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام في أسفاره؛ كما روى أبو داود في (سننه) عن جابر رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَلَّفُ فِي المَسِيرِ فَيُزْجِي الضَّعِيفَ –أي: يسوقه ويقدّمه-، وَيُرْدِفُ-أي: يسير خلفه-، وَيَدْعُو لَـهُمْ»، وبمثل هذه الخصال الكريمة أوصى أصحابه رضي الله عنهم حتى قال لهم -كما في (صحيح مسلم)-: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ »؛ فكانوا رضي الله عنهم كما أوصاهم نبيّهم صلى الله عليه وسلم؛ حتّى قال الإمام مجاهدٌ رحمه الله : «صَحِبتُ ابنَ عمرَ في السَّفر لأَخْدِمَه؛ فكان يَخدِمُني».
الوصيّة السّادسة: إذا أردت الشروعَ في حجِّك أو عمرتك، فضع بين عينيك المتابعة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في جميع نُسكك؛ فإنّ متابعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي الشـّرط الثاني -بعد الإخلاص- لقبول عملك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمامُ مسلم-: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »؛ أي: مردود على صاحبه، واعلم بأنّه لن يكون حجُّك مبروراً وسعيُك مشكوراً؛ إلا باقتفائك لآثار النّبيّ صلى الله عليه وسلم، واتِّباعك لسنّته؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم علّم أصحابه في حجّة الوداع مناسك الحج، وقال لهم -كما في (صحيح مسلم)-: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لاَ أَدْرِى لَعَلِّي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ».
الوصيّة السّابعة: وهي من الوصايا المهمّة، والنّصائح المؤكّدة العظيمة؛ الّتي يُوصَى بها حجّاج بيت الله الحرام، وخاصّة في مواطن الضِّيق والزِّحام؛ هو التَّحلِّي بالتُّؤدة والرِّفق واللِّين والأناة، مع الصّبر والحلم والحذر من إيذاء عباد الله، ولا سيّما إذا كان هذا الزِّحام من أجل فعل سنّة؛ كاستلام الحجر وتقبيله، أو كان الفعل ممّا يتسع وقته، ويمكن في غير وقت الزِّحام فعلُه؛ كرمي الجمار ونحوه.
وإنّ الالتزام بهذه الوصيّة؛ يحفظ حجّاج بيت الله من الوقوع في كثير من الرزايا، وصدق عليه الصّلاة والسّلام؛ إذ قال -كما في (صحيح مسلم)-: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ»، وكان في سيره في حجِّه؛ يأمر بالسّكينة أصحابه؛ فيقول لهم -كما في (صحيح مسلم)-: «أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ»، وحذّرهم من إيذاء إخوانهم، ولو كان ذلك حرصاً منهم على طاعة ربّهم؛ فقال للفاروق رضي الله عنه - كما روى أحمد في (مسنده)-: «يَا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الحَجَرِ، فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ».
الوصية الثامنة: إذا وصلت إلى البلد الحرام، وتحلّلت من الإحرام، وأنست بطيب الإقامة في ذاك المكان؛ فاحرص بعد أدائك للفرائض والواجبات، على الإكثار من نوافل الطّاعات في تلك البقاع الطّاهرات، والأيّام الفاضلات؛ فأكثر من ذكر الله والصّلاة وقراءة القرآن، ومن الطّواف والدّعاء والبذل والإحسان؛ فإنّ العمل الصّالح مضاعف في ذلك المكان، وقد قال صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد وابن ماجه-: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي, أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ, إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ, وَصَلاَةٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ, أَفْضَلُ مِنْ مِئَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ».
وكما تحرص على الطّاعات والقربات؛ فاحذر من الوقوع في المعاصي والسيّئات؛ فإنّ الذّنب في ذاك المكان مغلّظ، كما أنّ العمل الصّالح مضاعف، وقد حذّر سبحانه من الظّلم والمعصية في البلد الحرام؛ فقال في أحسن الكلام: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج : 25].
فاحفظ أخي لسانك عن الغيبة والجدال والخصام، واحفظ بصـرك عن النّظر إلى الحرام، واحفظ سائر جوارحك من كلِّ ما يغضب الملك العلّام، ولتكن التّقوى شعارَك، وخوف الله سبحانه دثارَك، وضَعْ نصب عينيك قول الله تعالى وتبارك: ﴿الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ﴾ [البقرة : 197]، وتذكّر دائماً قول النّبيّ ﷺ -كما في البخاريّ ومسلم-: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
وأخيراً ليكن أخي لسانُ حالك كما قال الشّاعر:
يَحِنُّ إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ فُـؤَادِي وَيَحْدُو اشْتِيَاقِي نَحْوَ مَكَّةَ حَادِي
وَلِي أَمَلٌ مَا زَالَ يَسْمُو بِهِمَّـتِي إِلَى الْبَلْـدَةِ الْغَـرَّاءِ خَيْرِ بِلادِي
بِهَا كَعْبَةُ الله الَّتِي طَافَ حَوْلَهَـا عِـبَـادٌ هُـمُ لِلهِ خَـيْرُ عِـبادِ
لأَقْضِيَ حَقَّ الله فِي حَـجِّ بَيْتِـهِ بِـأَصْـدَقِ إِيمَانٍ وَأَطْـيَبِ زَادِ
فاللّهم بلِّغ الحجّاج بلدك الحرام سالمين آمنين، وردّهم إلى أهليهم غانمين، اللّهمّ ويسّـِر لهم أداء مناسكهم، واحفظهم في حلِّهم وترحالهم، وتقبّل سعيهم، واجعله حجًّا مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً، اللهمّ آمين.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين