وصايا أندلسية
وصايا أندلسية من خلال مخطوط "رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير"، تأليف: أبو القاسم محمد بن أبي العلاء بن سماك العاملي المالقى.
الوصية الأولى: وصية الحكم بن هشام لابنه عبد الرحمن
وهي وصية الحكم بن هشام لابنه عبد الرحمن الأوسط لما فوّض إليه الأمر، وقد أوردها ابن سماك كذلك في الزهرة الثالثة والتسعين من كتابه "الزهرات المأثورة"، الذي حققه وقدم له الدكتور محمود علي مكي، باعتبار الوصية وثيقة على أعظم جانب من القيمة والخطر، إذ هي أشبه بدستور للحكم وضعه الأمير الحكم لابنه عبد الرحمن، ويشير المحقق إلى أن المؤرخ الوحيد الذي أشار إلى وجود هذه الوصية، هو الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، وقد نقل الأستاذ عنان هذه الوصية عن مخطوطة "المقتبس" لابن حيان.
تشتمل الوصية موضوعات مختلفة في السياسة وطرائق الحكم، صدرت عن أمير مارس السياسة بحذق وذكاء وحسن تدبير، ولخص تجربته السياسية في عبارات قليلة تحمل معاني كثيرة، وفي أسلوب برع في تنميقه وتبسيطه في نفس الوقت بلغة راقية مشرقة، تكاد تكون الوصية قانوناً يجب الالتزام له، والعمل بمقتضاه كي لا تضيع السلطة من يد الأمير، ويستبد بها غيره.
ويتمثل هذا القانون في:
" أولى الأمور بك أن ينهى إليك حفظ أهلك، ومراعاة عشيرتك، ثم الذين يلونهم، ومواليك هم أولياؤك حقًا، وأنصارك صدقًا، وعاشروك في حلوك ومرك، فيهم أنزل ثقتك، وإياهم واس من نعمتك، ولا تدعن مجازاة المحسن بإحسانه، ومعاقبة المسيء بإساءته، فإنك عند التزامك بهذين، ووضعك لهما في مواضعهما يرغب فيك ويرهب منك، وملاك ذلك كله أن تتقي الله ما استطعت، وتعدل في أحكامك، وتتخير من حكامك".
الوصية الثانية: المنصور بن أبي عامر، يوصي ابنه المظفر عبد الملك
وهي للملك المنصور بن أبي عامر، يوصي ابنه المظفر عبد الملك لما اشتد به مرضه الذي مات منه، وقد أثبتها الأستاذ لغزيوي أيضاً في مؤلفه "آداب السياسة والحرب في الأندلس" بعد أن نقلها عن ابن بسام في ذخيرته.
إلا أن ابن سماك اختصر هذه الوصية، ولم يورد الجزء الثاني منها، حيث يعرض العلاقة بين عبد الملك والخليفة الأموي هشام بن الحكم، وكذا أنصار الأمويين، محذرًا منهم حينًا، داعيًا إلى الحزم في معاملتهم حينًا آخر، موصياً غلمان الأمير في الأخير بالعمل إلى جانبه والتقيّد بأوامره ونواهيه.
فهو يقول لهم:
"تنبهوا لأمركم، واحفظوا نعمة الله عليكم في طاعة عبد الملك أخيكم ومولاكم، فليس يرأسكم بعدي أشفق من ولدي، وملاك أمركم أن تنسوا الأحقاد، وأن تكون جماعتكم كرجل واحد، فإنه لا يفل فيكم".
تكاد تكون هذه الوصية كسابقتها زبدة تجارب عاشها المنصور ابن أبي عامر، استحكم فيها العقل والروية، فتحدث عن الأمن والاستقرار، وعن الظروف الاقتصادية والعسكرية، وعن الأحوال المعيشية للرعية والعشيرة، فاختلال أي جانب من هذه الجوانب قد يؤدي إلى ضعف الحكم وانهيار دولته.
ويوصيه أخيرًا، ويشدد في الوصاية بأهله ومواليه، قائلاً:
"لا تضيع أمر جميعهم، والحظهم بعيني، فإنك أبوهم بعدي".
ولا يخفى أن هذه الوصية صدرت عن داهية في السياسة والحكم، فبعد أن وطّد لابنه أمر الدولة، وأرسى قواعدها يوصيه بالحفاظ عليها، بإتباع التوجيهات، وانتهاج السبل الأقرب إلى الاستئثار بالسلطة والحفاظ عليها في الفكر والسلوك، وأهمها النهي عن الإسراف في الإنفاق والقصد في الأمور، يقول:
"فلا تطلق يدك في الإنفاق، ولا تغض لطمة الولاية، فيختل أمرك سريعا، وكل سرف راجع إلى الاختلال لا محالة، فاقتصد في أمر جهدك، واستثبت فيما يرفعه أهل السعاية إليك، والرعية قد استقضت لك تقويمها، وأعظم مناها أن تأمن الباردة" .
الوصية الثالثة: الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي يوصي بنيه وأهل دولته
وصدرت عن الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي يوصي بنيه وأهل دولته بالعدوة وأبنائها وثغورها، ويدعوهم إلى جهاد الأعداء، والتمسك بشرائع الدين والعمل بمناهجه، ولقد شغلت الأندلس المغاربة، وأرقتهم في حياتهم، وفي لحظات احتضارهم، فما آلت إليه من ضعف بعد قوة، ومن هزيمة بعد نصر، أكبر همٍّ ينغص استقرارهم وتفكيرهم.
فهو يقول: "ولتعلموا أنه ليس في نفوسنا شيء أعظم من همِّها". لقد استأثرت العدوة بفكر الموحدين، فدافعوا عنها، وانتصروا لها، مؤملين استرجاع ما استلبه النصارى من ديارهم، ويشهد الخليفة أبو يوسف يعقوب اللهَ على ما بذله من جهود في سبيل ذلك، فهو يقول: "ولو مد الله لنا في الحياة لم نتوان في جهاد كفارها حتى نعيدها دار إيمان"، فهي الآن -أي الأندلس- وديعة في أيدي المغاربة، عليهم الحفاظ عليها، بحمايتها من هجمات الكفار بتشييد الأسوار وحماية الثغور وتربية الأجناد.
والأكثر إثارة للاهتمام، أن يصف الخليفة الموحدي العدوة، باليتيمة، ومسلميها بالأيتام، فبعد التوصية بتقوى الله، يقول: "أوصيكم بالأيتام واليتيمة"، ويسأله الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص: "وما الأيتام؟ وما اليتيمة؟"، فيقول الخليفة: "الأيتام أهل جزيرة الأندلس، والأندلس هي اليتيمة".
تتميز هذه الوصية، بالإضافة إلى بلاغتها وجمال أسلوبها، بالروح الإسلامية في وضوحها وتوجهها إلى تحرير المسلم وأرضه، أينما كان، وكيفما كان، فنجد الخليفة الموحدي يصرف اهتمامه إلى أرض اغتصبت، وإلى شعب استضعف أمره، ولا يشير إلى المغرب والمغاربة، تأكيداً لأواصر وعلائق تربط العدوتين ببعضهما منذ أن أصبحت الأندلس خاضعة لسلطة المغرب في فترات سابقة، وأصبحت مسؤولية رعايتها في أعناق المغاربة وحكامهم.