إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب:70، 71].
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّمحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار، أما بعد:
أعاذني الله وإياكم من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، اللهم آمين.
عباد الله؛ مطلوب من الإنسان المسلم أن يتقي الله في أعماله القلبية، وأعمال الجوارح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة لا يقبل عملا إلا بنية، نية صالحة خالصة، فالعمل المفقودة فيه النية لا يقبل عند الله، مردود على صاحبه، قال سبحانه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾[البينة: 5]. مخلصين بأعمالهم لله سبحانه وتعالى.
وأحيانا تكون النيات الصالحات بلا أعمال، خير من أعمالٍ بلا نيات، نية صالحة، يتوجه بها العبد إلى الله، وربما لا ينفذ هذا العمل لأمر من الأمور، قد تكون خارجة عن  إرادته، وهو ينوي فعل أمر ولم يفعله، خير من عمل قد افتقد هذه النية، وقد تتساوى الأعمال والتعب فيها والمشقة، ومع ذلك فرق بين رجلين، رجل أخلص في هذا العمل، ورجل لم يخلص فيه، يذكرنا ذلك بحديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله -تعالى- عنه -عندما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ". (خ) (1)، (م) 155- (1907)، (د) (2201)، (ت) (1647)، (حم) (168).
فما سبب هذا الحديث؟ سببه أن الناس كانوا يهاجرون من مكة إلى المدينة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينهم، العمل واحد، كلهم خرجوا وهاجروا، لكن هناك رجل خرج معهم، ولقي ما لقي من تعب ومشقة، ونيته امرأة يقال لها: أم قيس، كان يحبها، فهاجرت، فهو يريد أن يتزوجها، فهجرته وتعبه ليس لله، وإنما لدنيا، لامرأة، "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ"، يعني يثاب عليها بأمر الله، "وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ ينكحها أو يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"، العمل واحد متفقون عليه، واختلفت النتائج باختلاف النيات.
والنية هي توجه القلب وقصده للقيام بعمل يرضي الله، أو عمل يسخط الله، هذه النية هي التي يحاسب عليها العبد أكثر من المحاسبة على العمل، "التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره صلى الله عليه وسلم"، (م) (25644)لذلك قد تكون نياتٌ صالحات بلا أعمال، خير من أعمال بلا نيات.
واعلموا عباد الله! ضرْبَ هذا المثل؛ العمل فيه والنية، كوعاء، والوعاء هذا إن كان أسفله طيبا فأعلاه مثله، يعني يوجد في أسفله عسل، والماء يطفو فوقه، فالماء صار طيبا بطيب العسل، وإن كان فيه الحنظل، أو العلقم في أسفلهفإن أعلاه كذلك سيكون علقما وحنظلا، ضرب لنا هذا المثلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله -تعالى- عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("مَثَلُ عَمَلِ أَحَدِكُمْ كَمَثَلِ الْوِعَاءِ)، (إِذَا طَابَ أَسْفَلُهُ، طَابَ أَعْلَاهُ، وَإِذَا فَسَدَ أَسْفَلُهُ، فَسَدَ أَعْلَاهُ") (حم) (16899)، (جة) (41999)، انظر الصَّحِيحَة (1734).
والله سبحانه وتعالى خلق الناس، ونحن من الناس، والناس على أربع: أهل الدنيا على أربع من الأحوال، فمع من أنت يا عبد الله؟ لابد أن تكون مع واحد من هؤلاء الأربع، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أَبو كَبْشَةَ الْأَنَمَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ")؛ -أَيْ: إِنَّمَا حَالُ أَهْلِهَا حَالُ أَرْبَعَة.
("عَبْدٍ آتَاهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا") -أَيْ: أعطاه مالا حلالا وعلما شَرْعِيًّا نَافِعًا.- عالم بشرع الله، وهو من الأثرياء جمع بين خيري الدنيا والآخرة- ("فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ)، (وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، فَهَذَا") -أَيْ: هَذَا الْعَبْدُ الْمَوْصُوفُ بِمَا ذَكَرَ-("بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ") -أَيْ: بِأَفْضَلِ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.- أن يستخدم ثراءه وغناه في طاعة الله سبحانه وتعالى.
("وَعَبْدٍ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا")، -عالم بشرع الله والدين، ولكنه فقير ليس عنده مال- ("فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ") -أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، يقول في نفسه:- ("لَوْ كَانَ لِي مَالٌ، لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ") -أَيْ: الَّذِي لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ فِي الْبِرِّ-، -وفي الصالحات وفي أعمال الخير- ("فَهُوَ بِنِيَّتِهِ")، -أَيْ: يُؤْجَرُ عَلَى حَسَبِ نِيَّتِهِ- ("فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ")-أَيْ: فَأَجْرُ مَنْ عَقَدَ عَزْمَهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَنْفَقَ مِنْهُ فِي الْخَيْرِ، وَأَجْرُ مَنْ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ سَوَاءٌ، وَيَكُونُ أَجْرُ الْعِلْمِ زِيَادَةً لَهُ.
("وَعَبْدٍ") -وهذا الثالث- ("آتَاهُ اللهُ مَالًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ") -يخبط أي أنه يأخذ من ماله فيكتنزه ويبخل به، ويشحّ عن فعل الخيرات، فهو يؤثر شهوة نفسه لا يريد أن ينفق، أو ينفق ماله الذي عنده رياء وتفاخرا وسمعة ليس لله سبحانه وتعالى- -أَيْ: يَصْرِفُهُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، بِأَنْ يُمْسِكَ تَارَةً حِرْصًا وَحُبًّا لِلدُّنْيَا، وَيُنْفِقَ أُخْرَى لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ. تحفة الأحوذي (6/ 110).
قال:- ("لَا يَعْلَمُ لِلهِ فِيهِ حَقًّا، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ)، (وَيُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ"). في دركات متردية.
وأردؤُ منه؛ ("وَعَبْدٍ لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا")، -فقير وجاهل في دين الله- ("فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ")، -الذي عنده المال فينفقه في الحرام، وينفقه رياء وخيلاء وتفاخرا وسمعة،- ("فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ"). (ت) (2325)، (جة) (4228).
الأعمال كثيرة، والأعمال الكثيرة تطيبها النيات الصالحات، والنيات الخالصات لرب الأرض والسماوات، وقد يظن بعض الناس أفضلية بعض الأعمال على غيرها في هذا المجال، وفي  الحقيقة يوجد الكثير منها، فقد اعترض النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة رضي الله عنهم، عندما أعجبوا بذاك الرجل القوي المفتولِ العضلات، فكانوا يريدون أن يكون هذا الجَلَد والقوة في القتال والجهاد، فلنستمع إلى ما رواه كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: (مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ)،-رجل جَلْدٌ قوي ونشيط-، فَقَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:("وَمَا سَبِيلُ اللهِ إِلَّا مَنْ قَتَلَ؟!") -يعني لا يوجد سبيل الله إلا من قَتَل في سبيل الله، من قتل الكفار فقط؟- ("وَمَا سَبِيلُ اللهِ إِلَّا مَنْ قَتَلَ؟!") -ثم صنف هذا الرجل الذي خرج على نيته، الذي ذهب صنفه صلى الله عليه وسلم على نيته، فقال:-
("إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى رِيَاءً وَتَفَاخُرًا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ"). (طس) (4214)، (6835)، (هق) (17602)، صَحِيح الْجَامِع (1428)، الصَّحِيحَة (2232)، (3248)، صحيح الترغيب (1692).
اعلموا عباد الله! أن عملَ الواجبَ الدنيويَّ قد لا يكون عليه ثواب؛ لأنه قد يتفق فيه المسلم مع غيره، لكن إذا احتسبته ونويت به وجه الله أخذت الأجر والصدقة.
ومن الواجبات الدنيوية، الإنفاق على الأهل، فنجد الكافرَ وغيرَ المسلم ينفق على أهله وليس له أجر، والمسلم إذا أنفق أداء للواجب أدى ما عليه، لكن إن أنفق واحتسب ذلك في سبيل الله، واحتسب ذلك عند الله فأجره عظيم وله عند ربه صدقة، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ". (خ) (5036)، (م) 48- (1002)، (ت) (1965)، (س) (25455)، (حم) (17123).
تنفق على أهلك في مأكل أو مشرب، أو ملبس أو مسكن، أو تعليم أو صحة، أو ما شابه ذلك تبتغي بذلك وجه الله، لك الأجر عند الله سبحانه وتعالى، النية هي التي تحدد العمل الذي يكون مقبولا مأجورا عند الله سبحانه وتعالى.
واعلموا عباد الله! أن أشرف الأعمال وأحسنها قد يصبح من أردأِ الأعمال وأسوئها، إذا رافقته النية السيئة والنية الفاسدة، وإن كان العمل شريفا، فتجد النية قد تقلبه إلى عمل  فاسد، لذلك من الأعمال الشريفة؛ الحجُّ إلى بيت الله الحرام، فقد حَجَّ في هذا العام حوالي مليونين من البشر، هل حجهم عند الله سواء؟ من حج لله خالصا وحسنت نيته، قبلت حجته، ونحن نسأل الله أن نكون منهم، وأما من كان حجَّ لأمر آخر من أمور الدنيا لم يحج إلا من أجل هذا العمل الذي قام فيه، فليس له من حجِّه إلا التعب والمشقة، وكذلك من رفع السلاح في وجه عدوِّه؛ مجاهدا في سبيل الله، وهو ينوي به مغنما أو ينال سمعة، أو ينالَ تفاخرا أو رياء فليس له إلا ما نوى، ولا ينفعه أنه خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء، ما هي نيته؟ نستمع إلى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله -تعالى- عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى". (س) (3138)، (حم) (22744).
من غزا في سبيل، وخرج غازيا، وأمام الناس في سبيل الله، والنية عقالا أي حبلا، خرج بماله ونفسه ونيته يريد حبلا من الحبال التي تعقل بها البعران، والإبل والدواب، كم قدّم؟ الكثير، كم أخذ؟ لم يأخذ شيئا إلا ما نوى، "مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى"، ونعوذ بالله من النوايا الفاسدة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، يوازي نعمة، ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة مهداة للعالمين كافة، وعلى آله وصحبه ومن والا إلى يوم الدين، أما بعد:
واعلموا عباد الله! أن بعض الناس يحب الأعمال الصالحات، ويعمل من الطاعات التي تقربه من الله  سبحانه وتعالى، راجيا بذلك يوم القيامة أن يزحزحه الله عن النار، ويدخله  الجنة، لكن قد تعتري هذا الإنسان عوائق تعيقه عن عمله الذي هو متعوِّدٌ عليه، ألا فأبشروا يا أصحاب الأعمال الصالحة! والنوايا الخالصة! أبشروا! فإن من أعاقه شيء كتب له أجر ذلك العمل كما كان يعمل، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّكْسَكِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقُولُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ -وَاصْطَحَبَا فِي سَفَرٍ- فَكَانَ يَزِيدُ -بن أبي كبشة- يَصُومُ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى - يقصد والده، سمعه - مِرَارًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ إِذَا مَرِضَ أَوْ سَافَرَ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا". (حم) (19768)، (خ) (2834)، (د) (3091)، (ش) (10805).
إن العبد المسلم إذا مرض فمعنه المرض من قيام الليل، أو من صيام النهار، من فعل الخيرات، من زيارة الأرحام، أو سافر، والسفر قطعة من العذاب؛ تمنعه الراحة، ويجعله سفره في قلق مستمر، والسفر يمنعه من بعض الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حال الحضر، فإذا مرض أو سافر كتب الله له من الأجر كما كان يعمل سليما صحيحا.
كم من إنسان من روَّاد هذا المسجد مُنِعوا من الصلاة فيه من أجل مرض، فاللهم اشفهم وعافهم، كم من إنسان في هذا المسجد وغيره من المساجد يحافظون على صلوات الجمعة منعهم السفر، فاللهم ردهم سالمين غانمين، كم من إنسان تفتقده الملائكة لتكتب اسمه على أبواب المساجد في الجمعة وغيرها، فتدعو له أن يرفع الله عنه الشدة التي هو فيها، هذا هو حال الناس يا عباد الله.
واعلموا أيضا أن بعض الناس قد يغلبه النوم، فلا يقوم لصلاة فجر أو نحو ذلك، هذا ما رواه أَبو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ" -يعني في الليل يريد أن ينام- (وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ"، -أي أُذِّن لصلاة الصبح، ففاتته صلاة الليل- "كُتِبَ لَهُ أَجْرُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عز وجل". (س) (1787، 1785)، (د) (1314)، وصححه الألباني في الإرواء: (454)، وصَحِيح التَّرْغِيبِ (602).
هذا الإنسان يُكتب له أجر نيته في القيام إن كان نوى أن يصلي ركعتين يكتب له أجر ركعتين، وإن كان نوى أن يصلي أربعا أو خمسا أو عشرا أو ما شابه ذلك تكتب له، وإن نوى أن يصلي ويقرأ القرآن كتب له، ما دام غلبته عيناه حتى أصبح، وفوق هذا نومه هذا صدقة من الله عز وجل على عبده الذي يريد أن يلتقي بربه فمنعه النوم، والله قادر على أن يوقظه، لكن يريد أن يتجلى الله على عباده، ولو بنياتهم أن يصلحوها فيما بينه وبينهم.
وأنتم تعلمون حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة"، من هم بحسنة فلم يعملها منعه مانع كتبت له حسنة، "ومن هم بحسنة فعملها كتبت له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة". رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن حبان وغيرهما.
هذا ونذكركم أنه بعد أيام أربعة سيكون يوم عاشوراء؛ يوم الثلاثاء القادم، ويوم تاسوعاء يوم الاثنين، فانووا من الآن صيام هذين اليومين، فإن منعكم مانع من هذا الصيام؛ أي مانع من نسيان أو زيارة صاحب، يعني أقبل من الخارج فذهبت عنده لتكرمه فجعل الطعام بين يديك فأفطرت، كتب لك أجر الصيام إن شاء الله، وإن لم يمنعنا مانع فما المانع من طاعة نقدمها لله سبحانه وتعالى، في شهر الله المحرم، وخير الصيام بعد صيام شهر رمضان الأشهر الحرم، وشهر الله المحرم الذي نحن فيه، فيه خصال كثيرة طيبة، وهذا صيام عاشوراء نكون اقتدينا بسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم الذي اقتدى بموسى عليه السلام واقتدى بنوح عليه السلام الذين صاموا هذه الصيام شكرا لله على النجاة من أعداء الله، والنجاة من الغرق، فنصوم هذا شكرا لله أيضا على ما أنعم به علينا من النعم الكثيرة، والآلاء الجزيلة.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
اللهم ارحم المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا، وبارك لنا فيما رزقتنا يا رب العالمين.
اللهم كن معنا ولا تكن علينا، اللهم أيدنا ولا تخذلنا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم أبعد عنا شر الأشرار، وكيد الفجار برحمتك يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
وأقم الصلاة؛ ﴿... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت:45].