الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّمحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أعاذني الله وإياكم من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، اللهم آمين.
قال سبحانه في سورة في كتابه لا تتعدى آيات قليلة؛ ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾. [العصر: 1-3]، فالعالم والناس والإنسان في خسارة، خسارة مستمرة لا يستثنى من هؤلاء الخاسرين وأهل الخسارة إلا من هذه صفاتهم الأربعة: ﴿ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾، هذا هو المجتمع الفائز والمجتمع الرابح الذي حاز على الإيمان والأعمال الصالحات، ولم ينسَ غيره من التواصي بالحق، وأن يصبر على ما يلقى من أذى.
سأل أبو ذر رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَاذَا يُنَجِّي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ؟) قَالَ -صلى الله عليه وسلم-:
"الْإِيمَانُ بِاللهِ"، قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلٌ؟) قَالَ:
"أَنْ تَرْضَخَ مِمَّا رَزَقَكَ اللهُ") -أَيْ: تُنفق- قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَجِدُ مَا يَرْضَخُ؟) قَالَ:
"يَأمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ"، قُلْتُ: (فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟) قَالَ:
"فَلْيُعِنِ الْأَخْرَقَ"، -(الأَخْرَقَ) أَي: الجاهلٍ بما يَجِب أَن يَعْمَلَه، ولم يكُنْ في يديه صَنْعةٌ يَكْتَسِب بها- قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَصْنَعَ؟) قَالَ:
"فَلْيُعِنْ مَظْلُومًا"، قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِينَ مَظْلُومًا؟) قَالَ:
"مَا تُرِيدُ أَنْ تَتْرُكَ لِصَاحِبِكَ مِنْ خَيْرٍ؟ لِيُمْسِكْ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ"، قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ فَعَلَ هَذَا يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ؟) قَالَ:
"مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُ خَصْلَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ"). (ش) (30972)، (حب) (373)، (هب) (3328)، (طب) (1650)، (ك) (212)، الصَّحِيحَة (2669)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (876، 2318)
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، عندما سئل عنه، و(مَاذَا يُنَجِّي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ؟) قَالَ: "الْإِيمَانُ بِاللهِ"، والإيمان ما وقَر في القلب وصدقَّه العمل، وصدّقته الجوارح، الإيمان قول واعتقاد وعمل، يزيد وينقص،فالإيمان أصله ثابت راسخ، راسخ في القلب في داخله؛ كالشجرة التي أصلها ثابت.
الإيمان توحيد بالله سبحانه وتعالى، وتصديق بكل ما أخبر الله عنه من الغيب، وكل ما أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تدعي إيمانا وهذا الأصل غيرُ موجود! لابد أن يكون الإيمان في القلب وتصدقه الجوارح، وتصدقه الأعمال، ويكذبُ من قال: أنا مؤمن، وهو يكذِّب بالغيب الذي أخبر الله عنه في كتابه، أو أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالإيمان إقرار بالجنان، إقرار بالقلب بكل الغيب الذي أخبر به الله سبحانه وتعالى، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول باللسان؛ أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن تشهد أن محمدا رسول الله، وإقرار باللسان أن يقر  العبد بلسانه أيضا كما أقرَّ القلب، والجوارح الأخرى.
وعمل بالأركان، وعمل بالجوارح، فالصيام يمنعك من الطعام والشراب، والحج إلى بيت الله الحرام، والصلاة خمس مرات في اليوم والليلة من عمل الأركان، فهذه من الإيمان، إن أحببت أن يزيد إيمانك فأكثر من هذه الطاعات،فالإيمان يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان.
خمسة يتكون منها الإيمان: إقرار بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان.
هذا هو الإيمان الذي أخبر عنه القرآن، وأخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وعليه درج الصحابة والسلف الصالح والعلماء، أما من خالف من أهل البدع فلا شأن لنا بخلافه.
فالإيمان؛ ضرب الله له مثلا؛ قال سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾ هي كلمة لا إله إلا الله، كلمة طيبة ﴿ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ هي النخلة ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ هذه هي الأعمال، فحتى تكونَ شجرةً كاملة يستفاد منها، لابد أن تكون فيها هذه الأوصاف ﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.
وكلمة الكفر والشرك، وكلمة الخروج من دين الله عز وجل ضرب لها المثل الآخر، فقال سبحانه: ﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ هي الحنظل ﴿ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [سورة إبراهيم: 24- 27].
إنه الإيمان الذي سأل عنه أبو ذر رضي الله تعالى عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ لما قال له: الإيمان بالله ينجي العبد من النار فقط؟ إيمان بالله فقط؟ فماذا أضاف في السؤال للتوضيح قال أبو ذر: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَعَ الْإِيمَانِ عَمَلٌ؟)، فبين له أعمالاً تحقق الإيمان، وتصدق الإيمان، وتزيد من الإيمان، فقَالَ:
"أَنْ تَرْضَخَ مِمَّا رَزَقَكَ اللهُ") تُنفق، والرضخ معناه الإنفاق، ويدخل في ذلك الواجب كالزكاة، والإنفاق على الأهل والعيال، ويدخل في ذلك الصدقات وصلة الأرحام، ويدخل في ذلك المسامحة بينك وبين الناس في الأموال، له عندك سامحته بزيادة تعطيه، أو بنقصان تسامحه فيه، كلُّ ذلك يدخل في العمل الذي هو من الإيمان، أن ترضخ مما رزقك الله، والله أمر بذلك فقال: ﴿ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ﴾، ورد في كتاب الله لفظ هذه الكلمة أكثر من مرة حتى تحثّك على العطاء، وسؤال أبي ذر رسول الله:
(فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَجِدُ مَا يَرْضَخُ؟) إنسان ليس عنده مال حتى يعطيَ، ما هو عمل آخر من الإيمان، فماذا دله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ:
"يَأمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ"، وهذا تصديق لقوله سبحانه وتعالى، وقولُ الله لا يحتاج إلى تصديق قال سبحانه: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾، فالخيرية لهذه الأمة من أين جاءت؟ ومن أي شيء تفعله؟ ﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زينة الأمة، أُمَّة لا تأمر بالمعروف، وليس فيها من ينهى عن منكر، كيف حالها؟ وكيف يصير مآلها؟ تصبح أمة مفكَّكة بعيدة عن المعروف والخير، مملوءة بالشر والفساد، مملوءة بالمنكرات والمفسدات.
النهي عن المنكر، والإنكار أعلاه باليد وهو لولي الأمر، وباللسان للدعاة والعلماء، وبالقلب لجميع الأمة، تنكر المنكر بقلبك؛ لأنك لا تستطيع غير ذلك، وهذا ما سأل عنه أبو ذر رضي الله تعالى، قُلْتُ: (فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟) لا يستطيع أن يكون آمرا ناهيا، فماذا يفعل هذا الإنسان؟ قَالَ:
"فَلْيُعِنِ الْأَخْرَقَ"، الأخرق هو الذي لا صنعة له، الأخرق هو الذي يحتاج لغيره ليعمل له، هو لا يستطيع، فإعانتك للأخرق الذي لا يجد يعينه وأنت تعينه وتصنع له هذا من الإيمان، وهذا يزيد في إيمانك ويقويه عند الله سبحانه وتعالى، وقد ورد أن خير الناس أنفعهم للناس، وورد أن من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، وإن الله في عون العبد ما كان أو ما دام العبد في عون أخيه، كلها تدل على مجتمع متماسك مترابط، تسوده المحبة والمودة والألفة، لا تحاسد ولا حقدي بينهم، أمة قوية بهذه الصفات، وهي ضعيفة إذا افتقدت هذه الصفات، نسأل الله السلامة.
قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَصْنَعَ؟) يعني ليس عنده مال فقير، لا يستطيع أن يتكلم ليس بعالم ولا بولي أمر، لا يستطيع أن ينكر المنكر ولا يأمر بالمعروف، ولا يستطيع أن يعينَ غيرَه هو أخرق مثله، فماذا يفعل؟ قَالَ:
"فَلْيُعِنْ مَظْلُومًا"، يعين مظلوما لجأ إليه من ظالم لو ذهب معه، أو ذهب إلى هذا الظالم فتكلم معه بشأن هذا المظلوم، خطواته هذه لله سبحانه وتعالى سيجزيه الله عليها أجرا عظيما، وهذا يدخل في قضاء حاجات الناس، فقد سأل أحد الصحابة أي الناس خير؟ أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟  أي الناس أحب إلى الله فكن منهم يا عبد الله، وأي الأعمال أحب إلى الله فبادر إليها وافعلها، قال عليه الصلاة والسلام: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه حاجة أو يقضي دينا، أو يطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم شهرا". رواه الطبراني في الأوسط أحب الناس أنفعهم للناس، يكشف عنه كربه، هو في ضيقة فأنت تكشفها عنه، هذا من أحب الناس إلى الله، أو تقضي عنه دينا تراكم عليه، وما أكثر الديون في زماننا هذا، أو تطرد عنه جوعا تقدم له شيئا من الطعام، أو ما شابه، تعينه هو وأولاده وأسرته، وهذا الذي يمشي مع الناس ويقضي حوائجهم وظلم الظالمين، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة، وفي رواية: حتى تقضى يمشي معه حتى يقضي حاجته أحب إلي يقول عليه الصلاة والسلام من أن أعتكف أي مسجد المدينة شهرا، واعتكاف يوم في سبيل الله يباعد بينك وبين النار خريفا، أو سبعين خريفا على بعض الروايات، فكيفبأن تعتكف في مسجد النبي شهرا كاملا، أفضل من ذلك أن تمشي مع أخ لك في حاجة حتى يقضيها.
هل سكت أبو ذر؟ أبو ذر أقفل جميع الأعمال، إنسان لا يستطيع أن يعمل شيئا من ذلك، قلت:
(يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِينَ مَظْلُومًا؟) قَالَ عليه الصلاة والسلام:
"مَا تُرِيدُ أَنْ تَتْرُكَ لِصَاحِبِكَ مِنْ خَيْرٍ؟" أغلقت الأبواب كلَّها، هذا صاحبك أغلقت عنه أبواب الخير كلها، إن كان كذلك اسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحرم أمثال هؤلاء الضعفاء الذين ليس لهم حول ولا قوة لا يحرمهم من الخير، فقال: لِيُمْسِكْ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ". يمسك لسانه من الكلام في أعراضهم، ومن الكذب والغيبة والنميمة ونشر الرذيلة، ويمسك يديه من البطش أو السرقة أو ما شابه ذلك، ويمسك رجليه عن المشي إلى الحرام، يمسك أذاه عن الناس، قُلْتُ:
(يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ فَعَلَ هَذَا يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ؟) هذا؛ اسم الإشارة يعود على ماذا؟ هل هو عن مسك أذاه يدخله الجنة؟ أو هذا؛ يقصد ما سبق من الأعمال الصالحة؟ والأرجح والله أعلم؛ هذا الأخير، يمسك أذاه عن الناس يدخله الجنة؟ فماذا قال صلى الله عليه وسلم الذي كلامه يقال فيه: جامع مانع، في كلمات يسيرة تجد المعاني الجليلة الكثيرة، قَالَ صلى الله عليه وسلم:
"مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُ خَصْلَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ"، أي صفة من هذه الصفات، أو يفعل فعلا من هذه الأفعال المتقدمة سواء الأخيرة؛ يمسك أذاه عن الناس، أو ما قبلها من إعانة الأخرق والمظلوم وما شابه ذلك؛ 
" مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُ خَصْلَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ؛ إِلَّا أَخَذَتْ بِيَدِهِ حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ"، خصال يسيرة على من يسرها الله عليه، فلنبادر يا عباد الله بتقوية أعمالنا الصالحة، وإن لم نجد عملا صالحا نقوم به، فأقل ما فيها نمسك أذانا عن المسلمين، وما أكثر أذى المسلمين على المسلمين في هذا الزمان، لم يسلم للمسلم عرض، ولا مال ولا نفس ولا روح إلا انتهكت أشياء منها، مسلمون أبرياء يقتلون بأيدي مسلمين في شتى مشارق الأرض ومغاربها، تنتهك أعراض، ويتكلم فيها عبر الشبكات العنكبوتية وما شابه ذلك؛ سب وشت وقدح للمسلمين بعضهم من بعض، ولو عملت إحصاء يا عبد الله! على الفسبكة والشبكات العنكبوتية: ما يسب ويدعا من المسلمين على المسلمين، وما يدعا من المسلمين على الكفار، لوجدت الدعاء من المسلمين على المسلمين أكثر؛ فالمسلمون يدعون على أنفسهم من حكامهم إلى أقل واحد فيهم، يسبون مخالفيهم في الرأي والاتجاه والسياسة، الكل يسب ويشتم!!
وأعداء الله في مأمن من ذلك، في مأمن من هذا الدعاء والسب والشتم، ما يدعو على الكفار، ولا على أعداء الله أو على المغتصبين للأرض والمال والنفس، ما يدعون عليه قدر ما يدعون على أنفسهم وعلى أهليهم وذويهم، فأين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم: "يمسك أذاه عن الناس"، خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، فما أمسكوا أذاهم عن الناس؛ أي عن المسلمين.
أقول قول هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى من اهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
أيضا ثبت عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ، كَذَلِكَ لَا يَنْزِلُ الْفُجَّارُ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، فَاسْلُكُوا أَيَّ طَرِيقٍ شِئْتُمْ، فَأَيُّ طَرِيقٍ سَلَكْتُمْ، وَرَدْتُمْ عَلَى أَهْلِهِ". أبو نعيم (10/ 31)، ابن عساكر (67/ 260) ، صَحِيح الْجَامِع (4575)، الصَّحِيحَة (2046)
ما معنى كلامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ؟"
هل الشوك يؤخذ منه عنب؟ لا! وكذلك كما لا يجتنى من الحنظل التين، ولا يجتنى من الشر الخير، وكذلك هذه الأمور والأمثال الكثيرة، وما قاله صلى الله عليه وسلم أجمل الكلام وأوضحه وأبينه وأوجزه، شوك لا يأتي بعنب، حتى شجرة العنب خالية من الشوك، ربما أشجار أخرى فيها ثمار لكنها مليئة بالأشواك، "كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ، كَذَلِكَ لَا يَنْزِلُ الْفُجَّارُ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ"، لا يمكن للفاجر أن ينزل في الآخرة منزلة البارّ، والأبرار لا ينزلون منازل الفجار، هذه مستحيلة، فالأشرار يستوون مع الكفار والفجار، ولا يستوون مع أولياء الله الأبرار، هذه كالذي يريد أن يأخذ من الشوك العنب، يفجر ويكفر ثم في النهاية يريد أن يكون في أعلى الدرجات مع الأبرار، وهذا ما ادعاه اليهود: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80]، ثم بعدها يقولون: (نترككم فيها) أي يتركون المسلمين فيها، وهم يخرجون إلى الجنة، هذا ادعاؤهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم مبينا منازل الفجار ومنازل الأبرار، وأن لهذه المنازل طرقا وسبلا توصل إليها، فمن سلك أي طريق وصل إلى أهله، قال صلى الله عليه وسلم:
"فَاسْلُكُوا أَيَّ طَرِيقٍ شِئْتُمْ"، قال سبحانه: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10]، وقال سبحانه: ﴿ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا  ﴾[الإنسان: 3]، وهذا يختلف عن هذا، فأي طريق تسلكه.
"فَأَيُّ طَرِيقٍ سَلَكْتُمْ، وَرَدْتُمْ عَلَى أَهْلِهِ". في النهاية من سلك طريق الجنة؛ بصعوبتها وشدتها، وتعبها ومشقتها، وصل إلى الجنة، ومن سلك طريق النار؛ بأبهتها ونعيمها، في الظاهر، ولذائذها وشهواتها كان مصيره النار.
"وَرَدْتُمْ عَلَى أَهْلِهِ" وصلتم إلى نهايته، ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]، هذا هو الإنسان، هذا هو أنا وأنتم، وهذا هم البشر أجمعون.
فنسأل الله العظيم أن يبصرنا في أمور ديننا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحد صفوفنا وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يزيل الغل والحقد والحسد والبغضاء من صدورنا.
اللهم انصرنا على عدوك وعدونا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم فك أسر المأسورين من المسلمين، وسجن المسجونين من المسلمين، واقض الدين عن المدينين، ونفس كرب المكروبين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اقض حوائجنا يا رب العالمين يا مجيب السائلين، وبلغنا مما يرضيك آمالنا يا رب العالمين، ووفقنا لكل خير تحبه وترضاه يا مجيب السائلين.
وأنت يا أخي أقم الصلاة؛ ﴿ ... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.[العنكبوت:45]