واقعنا مع علوم الحياة
إذا لم يتفوق المسلمون في مجالات علوم الحياة، فما البديل؟!!
لن يخالفني أحد إذا قلت بأن البديل في ذلك هو أن يعتمد المسلمون في هذه المجالات التي أهملوها وتخلفوا فيها، على غيرهم، أو قل: على عدوهم؛ إذ هو البديل الوحيد أحيانًا!!
فهل يستقيم هذا الأمر شرعًا؟!
هل تقوم أمة على أكتاف غيرها؟! بل هل تقوم أمة على أكتاف أعدائها؟!!
أليس أمرًا يدعو إلى الدهشة والغرابة حين يضطر المسلم لكي يبدع في مهنة ما أن يسافر إلى بلاد أعدائه ليتعلم منهم، وينقل عنهم؟!
وكيف يقوم مصنع في بلد مسلم على ماكينات وقطع غيار مستوردة من بلاد عدوه؟!
وماذا يحدث لو دارت رحى الحرب بين الأمة الإسلامية وبين أعدائها هؤلاء، أو حتى حدثت بينهما مقاطعات؟ هل سنوقف حياتنا انتظارًا لتحسن العلاقات مع الأعداء؟!
وأوضح من ذلك: كيف سنحارب أعداءنا إذا كنا نعتمد عليهم اعتمادًا كليًّا في السلاح، وهم الذين يعلمون بالضبط ما قد يكون مهمًّا ومؤثرًا ومتقدمًا فيمنعوه إيانا، وما قد يكون قليل الأهمية ضعيف التأثير والجدوى فيبيعونا إياه؟!
إن هذا -وايم الله- لهو العجب فعلاً!!
إحدى إحصائيات سوق السلاح الدولية
وحتى لا نكون مبالغين ولا مهوِّلين، فهذه إحدى إحصائيات سوق السلاح الدولية: تشير الإحصائية إلى أن صادرات أميركا من السلاح ما بين عام 2000 – 2004م بلغت 25.390 مليار دولار، وهي بذلك تعد الدولة الثانية في العالم في تصدير السلاح بعد روسيا والتي بلغت قيمة صادراتها 26.9 مليار دولار في نفس الفترة. وأن 5.079 مليار دولار من إجمالي الصادرات الأميركية من السلاح هي من دول الشرق الأوسط وأفريقيا، أي من العالم العربي والإسلامي [1]!!
وجوهر القضية ليس فقط في دخول هذه الأموال الطائلة الخزانة الأميركية أو غيرها، لكن القضية الحقيقية والكارثة الملمة هي في اعتماد هذه الدول اعتمادًا أساسيًّا وكليًّا على السلاح الخارجي فقط!!
وإضافة إلى أميركا فإن بريطانيا وحدها -كما تشير الإحصائيات أيضًا- صدرت سلاحًا بما يبلغ قيمته 4.450 مليار دولار في نفس الفترة، وأن 1.004 مليار دولار تأتي من دول الشرق الأوسط وأفريقيا، أي من العالم العربي والإسلامي!!
وتشير الإحصائيات أيضًا إلى أن 40% من صادرات فرنسا من السلاح يتجه إلى العالم العربي!! وأن 18% من صادرات الصين من السلاح أيضًا يتجه إلى نفس المنطقة!! وأن 15% من صادرات روسيا من السلاح يتجه كذلك إلى العالم العربي [2]!!
والملاحظ أن دولاً كثيرة -غير إسلامية- لها باعٌ في سوق السلاح، لكنها لم تدخل بعد هذه الإحصائيات؛ وذلك إما لأنها في أول طريق التصدير، أو لأن تصديرها منه سرًا، وذلك مثل كوريا الشمالية والهند وأوكرانيا وصربيا وجمهورية التشيك وغيرها.
أما الغريب والعجيب فهو أن تكون دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) هي الدولة الرابعة في العالم في تصدير السلاح، وذلك بعد أميركا وروسيا وبريطانيا، متخطية في ذلك دولاً مثل فرنسا والصين وصربيا والتشيك وأوكرانيا [3]!!
وتمثل صادرات السلاح في إسرائيل 40% من إجمالي صادراتها، وهي أعلى نسبة على مستوى العالم [4]!!
أما الدولة التي حازت بنصيب الأسد من صادرات السلاح الصهيوني فهي الهند، العدو التقليدي لباكستان المسلمة!!
فهل مثل هذه الإحصائيات لا تمثل غضاضة أو قلقًا أو حزنًا لدى الشباب المسلم الملتزم، وكل من عنده أدنى حمية لأمته؟!
ولا يتحجج البعض بأن القضية في ذلك هي مجرد قرار سياسي؛ إذ أنه لو حدث ذات يوم وتم اتخاذ مثل هذا القرار السياسي -أعني القرار بتصنيع السلاح والاكتفاء الذاتي منه مع ما يتطلبه ذلك من مسايرة أحدث تكنولوجيا التسليح في ذلك العصر- فإننا يجب أن يكون لدينا قبل هذا القرار العلماء الأكفاء في علوم الهندسة والذرة والكيمياء والفيزياء والطاقة وغيرها. ممن يستطيعون تصنيع السلاح الأمثل، وإلا أصبح قرار تصنيع السلاح هذا قرارًا لا معنى له.
تقريرات الواردات العربية
ولتأكيد هذا المعنى وتوضيحه بصورة أكبر كان هناك تقريرات أخرى. فقد أشار التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2006م، إلى مواصلة ارتفاع حصة الواردات العربية من الولايات المتحدة وآسيا، ومنها الصين بوجه خاص، وكانت نسبة الواردات العربية الإجمالية قد وصلت قيمتها في عام 2005م إلى 314.1 مليار دولار!!
والجانب الأعظم من الواردات العربية يعتبر من الولايات المتحدة، وأهم ما يُستورَد منها: العدد والآلات ووسائل النقل المختلفة، حيث تستحوذ على 60% من إجمالي هذه الواردات، ويليها في الأهمية السلع الغذائية مثل القمح واللحوم، وتمثل حوالي 15%، ويأتي في المرتبة الأخيرة المشروبات الغازية والتبغ ومنتجاته.. وتبلغ فاتورة الواردات العربية في الأغذية وحدها 20 مليار دولار سنويًّا..
وتُعد واردات مصر - كمثال من تلك الدول - من السلع الغذائية 16.8% من إجمالي الواردات المصرية، وتستهلك من القمح أكثر من 12.2 مليون طن سنويا، تستورد منها 6 ملايين طن [5]..
كل هذه الأرقام وغيرها تعكس ضعف نسب الاكتفاء الذاتي العربي من السلع الأساسية، ويعني أيضًا إمكانية استخدام هذا الضعف كسلاح ضد الدول العربية.
أما الغريب حقًا فهو أن تكون الواردات العربية من المواد الخام هي 5% فقط؛ إذ أن ذلك يعني أننا نمتلك الكثير من الثروات الطبيعية التي حبا الله تعالى بها بلادنا، وهو يعني في ذات الوقت عجزنا الكبير على تحقيق أدنى نسبة تحقيق اكتفاء ذاتي. ثم هو يعني ثالثًا أننا نصدر المواد الخام ليُعاد تصنيعها، ثم نستوردها مرة أخرى، ولكن بأضعاف مضاعفة!!
ويعتبر السكر من أكثر السلع الغذائية التي تعاني المنطقة العربية من عجز دائم فيها، وبدرجة اكتفاء ذاتي تصل لنحو 35% فقط، وتقدر الفجوة الكمية من السكر في الوطن العربي عام 2001م بنحو 4.48 مليون طن، تصل أقصاها في كل من الجزائر والسعودية وسوريا واليمن ومصر، وبأهمية نسبية تقدر بنحو 20%، 16.1%، 12.1%، 10%، 8.4% لكل منها على الترتيب [6]..
أما عن السلع الاستفزازية، فإن الأرقام تشير إلى أن مصر وحدها استوردت من أنواع الجبن المختلفة التي تم حصرها في 32 نوعًا، ما قيمته نحو 121 مليون جنيه في عام واحد، هذه الحقيقة تأتى على الرغم من أن مصر تعتبر من الدول المنتجة للألبان، وتأتى أيضًا -وللأسف- رغم أن بمصر العديد من شركات تصنيع الأجبان، سواء من الشركات الحكومية أو من شركات القطاع الخاص!!
وتبلغ فاتورة أغذية القطط والكلاب المصرية من الخارج في خلال ستة شهور فقط حوالي 2 مليون جنيه [7]!!
والظاهرة الأغرب تلك الأرقام التي تصل إلى نحو 5 ملايين دولار لاستيراد الآيس كريم من الخارج!!
ألا يدعو ذلك إلى الدهشة والاستغراب؟!
ثم ألا يدعو كل ذلك إلى تفعيل دور الصناعات عندنا لئلا نعتمد -على الأقل- على أعدائنا؟!
واقعنا مع براءات الاختراع
وإن الحاجة الشديدة إلى ذلك لتظهر بوضوح حين نستعرض إحصائيات براءات الاختراع للمنظمة العالمية، والتي تعبر عن حقيقة الوضع الذي نعيشه.
ففي سنة 2001م قدمت مصر -كواحدة من الدول الإسلامية- اختراعًا واحدًا، وفي سنة 2002م كان نصيبها في براءات الاختراع أيضًا اختراعًا واحدًا، وفي سنة 2003م زاد هذا العدد - بفضل الله - ليصل إلى 12 اختراعًا، وكانت سنة 2004م قائمة الإنجاز بوصول عدد براءات الاختراع إلى 78 اختراعًا.. وهو تطور طيب يدعو إلى التفاؤل.
وتعتبر مصر بذلك ثاني دولة إسلامية في تسجيل براءات الاختراع، أما الدولة الإسلامية الأولى في ذلك فهي تركيا، وحصيلتها من عدد براءات الاختراع في سنة 2004م هو 104 اختراعٍ [8].
لكن الحقيقة أن هذه النسبة -سواء التي في مصر أو التي في تركيا- هي قليلة جدًّا إذا ما قورنت بغيرها من الدول الأخرى، وخاصة حين نعلم أن الكيان الصهيوني (إسرائيل) وحدها بلغ نصيبها في تسجيل براءات الاختراع في نفس العام 1222 اختراعًا، محتلة بذلك المركز رقم 15 بين دول العالم في عدد براءات الاختراع المسجلة سنويًّا!!
أما المركز الأول فكان -بالطبع- من نصيب أميركا، والذي وصل نصيبها فيه من براءات الاختراع في نفس العام أيضًا 41.870 اختراعًا!! وتلتها في ذلك اليابان بنحو 19.982 اختراعًا، ومن بعدها فرنسا، ثم إنجلترا [9].
وحتى تتضح الصورة بعض الشيء، فليس معنى تسجيل براءة اختراع الاقتصار فقط على اختراع شيء لم يكن موجودًا أصلاً، مثل التليفزيون أو الكمبيوتر أو ما شابه، وإنما تمنح براءة الاختراع عن كل إضافة علمية جديدة ناشئة عن فكرة جديدة وجهد في الابتكار، وتكون قابلة للاستغلال الصناعي بما فيها الفلاحة. ويدخل في ذلك تطوير اختراع قائم، أو تحسينه بإدخال بعض التعديلات عليه، مما من شأنه أن يرفع من كفاءته، أو يقلل من مضاعفاته الجانبية، أو يساعد على تخفيض سعره، أو غيره.
أي أن أيّ إضافةٍ على هذا الشيء ولو صغيرة يُعد اختراعًا، يستطيع صاحبه أن يُسجله باسمه في براءات الاختراع، ويكون بذلك قد أضاف للإنسانية شيئًا جديدًا.
وإنه لما كانت هناك دول قليلة السكان ودول أخرى كثيرة السكان، فإن العلماء استحدثوا طريقة أخرى أدق لحساب براءات الاختراع للدول، وذلك بحساب عدد براءات الاختراع فيها بالنسبة إلى عدد السكان، وكان من نتيجة ذلك أن احتلت دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) المركز الثامن بين دول العالم في تسجيل براءات الاختراع، وسبقت في ذلك أميركا واليابان وفرنسا وإنجلترا، ودولا أخرى كثيرة؛ لأن عدد السكان بها قليل!!
وتوضيح ذلك أن بمثل هذه الطريقة يكون هناك اختراعًا لكل 5000 صهيوني، في حين أن ذلك الاختراع في أميركا هو لكل 6700 أميركي، وفي اليابان لكل 6300 وعلى هذا القياس أيضًا فإن النسبة في مصر هي اختراع واحد لكل 900.000 مصري[10]!!
وغير تصنيف الدول، فإن للشركات على مستوى العالم تصنيفًا أيضًا في تسجيل براءات اختراع خاصة بها، وكانت الشركة الأولى في تقديم أكبر عدد من البراءات هي شركة "فيلبس" الهولندية، محتفظة بهذه الصدارة للسنة الثانية على التوالي. ومن بعدها تأتي شركة "ماستوشيتا" التي منها "باناسونيك"، ثم "سيمنز" الألمانية، ثم "نوكيا" الفلندية، ثم شركة "بوش" الألمانية، ثم "إنتل" الأميركية، ثم "بُسّ" الألمانية، ثم "ثري إم" الأميركية، ثم "موتورولا" الأميركية، ثم "سوني" اليابانية [11].
وتجاوز مكتب براءات الاختراع في الصين (177 391) نظيره الياباني (598 344) من حيث عدد الإيداعات ليصبح ثاني أكبر مكتب تسلم لطلبات براءات الاختراع في عام 2010.
وفي العقد الماضي شهد مكتب البراءات بالصين أعلى نسبة زيادات في عدد طلبات براءات الاختراع، فقد بلغ متوسط النمو السنوي بين عامي 2001 و2010م نسبة 22.6% وارتفعت إيداعات الملكية الفكرية من 450 63 في عام 2001 إلى 177 391 في عام 2010م.
شركات كثيرة -وللأسف- ليس بينها واحدة إسلامية. فكل براءات الاختراع لدينا إنما هي من نصيب الأفراد، وهذا يعني -في أهم ما يعنيه- غياب العمل الجماعي أو العمل المؤسسي وعمل الفريق الواحد، والذي يعتمد عليه الإبداع كلية في القرن الحادي والعشرين!!
ولا شك أن هذه الاختراعات تنعكس على طبيعة المواد المصدرة من كل دولة، والدول الكبرى هي التي تصدر مواد مصنعة أكثر من غيرها، وكلما ازدادت المواد المصنعة تعقيدًا، كلما ازداد تقدير العالم لقيمة هذه الدولة علميًّا.
والسؤال الآن:
أليس العلم الذي يتحصل به التصنيع والحصول على براءات الاختراع بدلاً من أن نكون في ذيل الدول الأخرى -أليس ذلك علمًا شرعيًّا؟!
أليس العالِم الذي يصنع الأسلحة –مثلاً- أو يساعد في تصنيعها عالمًا نافعًا لأمته، مثابًا على علمه وعمله هذا من ربه إن أخلص فيه نيته؟!
أليس هذا الطريق من الطرق الموصلة إلى الجنة؟
وقس على ذلك كل العلوم والفروع الأخرى.
فإن تخلف المسلمين في هذه العلوم الحياتية يعني أنهم إنما يُسلمون رقابهم لسيوف أعدائهم. ولا ريب في أن الأمة التي تعثرت فيها العلوم الطبية أو العسكرية أو الهندسية أو الفلكية أو غيرها من العلوم الحياتية، أو تلك التي يرتبط تقدمها في هذه العلوم بقرار من أعدائها. لا ريب أن هذه الأمة على حافة هاوية عظيمة.
والواقع أنه لا نجاة من ذلك ولا مفر إلا بفقه قيمة هذه العلوم في حياة الأمة، وفي ميزان الإسلام.