علوم الحضارة الإسلامية ودورها الإنساني
الحضارة (Civilization) في اللغة تعني الإقامة في الحضر والحضارة ضد البادية، ولهذا فقد تعددت تعريفات الحضارة وتنوعت تبعًا لذلك دلالاتها بتنوع تعريفاتها، فرأى بعض الباحثين أنها مدى ما وصلت إليه أمة من الأمم في نواحي نشاطها الفكري والعقلي من عمران وعلوم وفنون وما إلى ذلك، وهذا يعني أن الحضارة حسب هذا التعريف تختص بالجانب المادي فقط. وعرفها آخرون بأنها المظاهر الفكرية التي تسود أي مجتمع، وهذا يعني أن الحضارة مرادفة للثقافة ومقتصرة على الجانب الفكري أو المعنوي فقط.
وعلى هذا يمكننا أن نعرف الحضارة الإسلامية (The Islamic Civilization) بأنها: ما قدمه المجتمع الإسلامي (social Islamic) للمجتمع البشري من قيم ومبادئ، في الجوانب الروحية والأخلاقية، فضلاً عما قدمه من منجزات واكتشافات واختراعات في الجوانب التطبيقية والتنظيمية، وما يخدم المجتمع الإنساني من الوسائل والأسباب التي تمنحه سعادة التعاون والإخاء، والأمن والطمأنينة والرخاء، وتمنحه سيادة النظام والعدل والحق، وانتشار الخير والفضائل الجماعية، ويدخل في هذا أنواع التقدم الاجتماعي الشامل للنظم الإدارية، والحقوقية، والمادية، والأخلاق والتقاليد، والقيم، والعادات، وسائر طرق معاملة الناس بعضهم بعضًا في علاقاتهم المختلفة، وكل أنواع العلوم والثقافات.
فتعاليم الدين الإسلامي عالمية لأنها تُعد الإنسان لمستقبل خالد، فالاعتقاد بإله واحد، يقود إلى إذابة كل مبدأ عرقي، أو شعور قومي، من أجل ذلك كانت رسالة الحضارة الإسلامية يشترك في تحقيقها العملي وبنائها التطبيقي كل من استجاب لها من كل عرق ولون ولغة. ولهذا جدير بكل مسلم أن يفخر بتاج المجد الذي صنعه بناة الحضارة الصادقون من المسلمين في كل بلد من بلاد الإسلام، في سالف العصور الإسلامية التي استجابت للإسلام، وأحسنت تطبيق تعاليمه، فإذا كانت الحضارة الإسلامية عالمية وإنسانية فإن مقتضى ذلك أن تكون صالحة للتطبيق في كل البيئات الإنسانية، وأن تكون كذلك صالحة على مر الأزمان باعتبارها رسالة السماء الخاتمة لكل الرسالات.
ولما كانت رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات السماوية، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فمن الضروري أن تكون الحضارة القائمة على هذه الرسالة حضارة متطورة، تستطيع أن تسع كل تطورات الحياة الإنسانية؛ وتحقق ما يخدم المجتمع الإنساني (Social Humanities) ، بحيث تواجه ما يجدّ في حياة البشر من تطورات في شتى المجالات، ولا تقف جامدة أمام متغيرات الحياة البشرية في واقعها الفردي والاجتماعي، ولذلك أقامت أساس تشريعاتها، وقوانينها، وآدابها على أصلين ثابتين هما: الكتاب والسنة، فنرى المبادئ والأصول الكلية جميعها تعود إليهما.
لقد اعتنى المسلمون بالعلوم الطبيعية؛ حيث قاموا بترجمة المؤلفات اليونانية، ولكنهم لم يكتفوا بنقلها، بل توسعوا فيها، وأضافوا إليها إضافات هامة؛ تعتبر أساس البحث العلمي الحديث، وقد قويت عندهم الملاحظة، وحب التجربة، فأضاف الأطباء المسلمون إلى ما ترجموه وورثوه عن اليونان وغيرهم، فألفوا وابتكروا منجزات جديدة من أهمها: اعتمادهم المشاهدة والتجربة، وتجريبهم المنهج التجريبي، والتشخيص، والنظر إلى تاريخ المريض الطبي، وانتباههم للعدوى، والأمراض المعدية، وبراعتهم في علم الجراحة والتشريح، واكتشافهم الدورة الدموية الصغرى.
ولهذا فقد اتفق الباحثون المنصفون على أن الحضارة الإسلامية كانت لها آثار بالغة في الحضارة الغربية، تتمثل في: تأثير مبادئ الحضارة الإسلامية تأثيرًا كبيرًا في حركات الإصلاح الدينية التي قامت في أوروبا منذ القرن السابع الميلادي حتى عصر النهضة الحديثة، فالإسلام الذي أعلن وحدانية الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وتنزيهه عن التجسيم والتشبيه والتعطيل، كما أعلن استقلال الإنسان في عبادته وصلته مع الله وفهمه لشرائعه دون وساطة مخلوق أيًا كانت منزلته، كان عاملاً كبيرًا في تفتيح أذهان شعوب أوروبا إلى هذه المبادئ السامية والتأثر بها مع فتوحات الإسلام في الشرق والغرب، إذ قام في القرن السابع الميلادي في الأوروبيين من ينكر عبادة الصور، ثم قام بعدهم من ينكر الوساطة بين الله وعباده، ويدعو إلى الاستقلال في فهم الكتب المقدسة بعيدًا عن سلطان رجال الدين ومراقبتهم، ويؤكد كثير من الباحثين أن لوثر في حركته الإصلاحية كان متأثرًا بما قرأه عن العلماء المسلمين من آراء في العقيدة والوحي، وقد كانت الجامعات الأوروبية في عصره لا تزال تعتمد على كتب العلماء المسلمين التي ترجمت إلى اللاتينية.
ولم يقتصر أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية (European Civilization) على العقيدة والدين والعلوم التطبيقية واللغة، بل تعداه ليشمل مجال التشريع، حيث كان لاتصال الطلاب الأوروبيين بالمدارس والجامعات الإسلامية في الأندلس وغيرها أثر كبير في نقل مجموعة من الأفكار الفقهية والتشريعية إلى لغاتهم، ففي عهد نابليون في مصر ترجم أشهر كتب الفقه المالكي إلى اللغة الفرنسية، ومن أوائل هذه الكتب كتاب الخليل الذي كان نواة للقانون المدني الفرنسي، وقد جاء متشابهًا إلى حد كبير مع أحكام الفقه المالكي.
في الفترة الذهبية من تاريخ الإسلام، أنشئت المدارس والجامعات في مختلف البلاد الإسلامية شرقًا وغربًا، وكثرت المكتبات وامتلأت بالمؤلفات في شتى العلوم من طب ورياضيات وكيمياء وجغرافيا وفلك، اجتذبت هذه المدارس والجامعات والمكتبات الباحثين الأوروبيين عن المعرفة، وكانوا شديدي الإعجاب والشغف بكل ما يدرسون ويقرأون من هذه العلوم في جو من الحرية لا يعرفون له مثيلاً في بلادهم، ففي الوقت الذي كان علماء المسلمين يتحدثون في حلقاتهم العلمية ومؤلفاتهم عن دوران الأرض وكرويتها وحركات الأفلاك والأجرام السماوية، كانت عقول الأوروبيين تمتلئ بالخرافات والأوهام عن هذه الحقائق كلها، ومن ثم ابتدأت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وغدت كتب علماء المسلمين تدرس في الجامعات الأوروبية.
وكذلك تأثر الأوروبيون وخاصة شعراء الأسبان بالأدب العربي تأثرًا كبيرًا، فقد دخل أدب الفروسية والحماسة والمجاز والتخيلات الراقية إلى الآداب الأوروبية عن طريق الأدب العربي في الأندلس على الخصوص.
من هنا يتبين أن الحضارة الإسلامية تمثل حلقة مهمة في سلسلة الحضارة الإنسانية (Civilization Humanities) التي لا يمكن بناؤها بعيدًا عن أسس ومبادئ تلك الحضارة المجيدة، فقد أسهمت في وضع أساس الحضارات الحديثة (Modern civilization) بنصيب موفور، وأن فضلها عليها واضح غير منكور، وفي الحق، إن الحضارة الإسلامية قد أحدثت ثورة علمية عَمَّ خيرها العالم الإنساني كله، وقد اعترف بذلك كثير من المفكرين المنصفين الأوروبيين.
ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي يقدمها الدكتور خالد حربي ليتناول علوم الحضارة الإسلامية ودورها في الحضارة الإنسانية، من خلال محاولة الإجابة على مجموعة من التساؤلات التي طرحها في مقدمته وتتمثل في:
هل شهد المجتمع العلمي الإسلامي اهتمامًا بالعلوم إبان ازدهار حضارته؟ وما طبيعة هذه العلوم؟ وكيف تعامل العلماء مع تلك العلوم التي انتقل معظمها من الأمم الأخرى؟ وهل ابتكروا علومًا جديدة لم يكن لها وجود لدى أسلافهم؟ وهل قدم العلماء العرب والمسلمون إضافات أصلية في العلوم التي بحثوا فيها عملت على تطورها وتقدمها وأثرت في الحضارة اللاحقة وفي بقية الإنسانية عمومًا؟ أسئلة منهجية وجوهرية يحاول المؤلف الإجابة عليها من خلال عشرة فصول تناولت علوم الرياضيات، والفلك، والجغرافيا، والكيمياء، والطب، والطب النفسي، والميكانيكا، والهيدروليات، والتكنولوجيا، والبصريات، وعلم الطفيليات والأحياء المجهرية.
ففي الفصل الأول الخاص بالخوارزمي كمدرسة رياضياتية أفادت الإنسانية بين الدكتور حربي كيف بدأ تكوين الخوارزمي العلمي، ومدى أثر هذا التكوين في إنجازاته العلمية، ثم وقف بصورة موجزة على التطور العلمي والتاريخي للرياضيات حتى عصر الخوارزمي، وذلك بغرض معرفة أبعاد الإنجاز الذي تم على يديه باعتباره أهم علماء الرياضيات في القرن الثالث الهجري، وقاد ذلك إلى التعرف على أبعاد إنجازات علماء المسلمين خلال عصر الخوارزمي، لكي نقف على مدى تأثر هؤلاء العلماء بالخوارزمي، واتضح أن تأثير الخوارزمي لم يمتد إلى علماء الرياضيات المسلمين في العصور اللاحقة فقط، بل امتد إلى العالم الغربي إلى الدرجة التي جعلت العلماء الأوروبيين يعترفون بأن الخوارزمي هو المسؤول بصورة أساسية عن تأسيس علم الجبر، وجاءت معرفة الغرب لكتاب الجبر والمقابلة عن طريق الترجمات اللاتينية التي وضعت له، فلقد ترجمه جيرارد الكريموني، وروبرت الشستري في القرن الثاني عشر الميلادي، ليصبح أساس لدراسات كبار علماء الرياضيات الغربيين.
ثم خصص الفصل الثاني للرياضيات بعد الخوارزمي حيث تحدث عن ستة علماء رياضيات أتوا من بعده وهم أبو كامل، ثابت بن قرة، الكوهي، أبو الوفاء البوزجاني، عمر الخيام، الكاشي، وبينت الدراسة كيف أن الحضارة الإنسانية لم تتوقف على الإفادة من الحضارة الإسلامية في الرياضيات على الخوارزمي فحسب، بل اعتبر علماء الغرب ثابت بن قرة أعظم هندسي على الإطلاق، ثم كيف استخرج أبي سهل الكوهي حلولاً للفروض التي عجز أرشميدس عن إثباتها، وكيف اعترف علماء الغرب بأن أبا الوفاء البوزجاني هو أول من وضع النسبية المثلثية، وأوجد طريقة لحساب جداول الجيب، ليؤسس ويضع بذلك الأركان التي قام عليها علم حساب المثلثات الحديث، ثم كيف توصل عمر الخيام لحلول معادلات الدرجة الثالثة ليعد في نظر علماء الغرب أول من أبدع فكرة التصنيف، ثم اتفاقهم على أن غياث الدين الكاشي هو الذي ابتكر الكسر العشري، كما وضع قانونًا خاصًا بتحديد قياس أحد أضلاع المثلث انطلاقًا من قياس ضلعيه الآخرين، وقياس الزاوية المقابلة له، وقانون خاص بمجموع الأعداد الطبيعية أو المتسلسلة العددية المرفوعة إلى القوة الرابعة، وهو قانون لا يمكن التوصل إليه إلا من شخصية تمتلك مميزات عقلية وعلمية خاصة.
وفي الفصل الثالث الذي خصصه المؤلف لعلم الفلك تناول أهم أعلام الفلك الإسلامي وأثرهم في الحضارة الإنسانية، ومنهم: الفزاري، وأبو معشر البلخي، الفرغاني، إبراهيم بن سنان، البتاني، نصير الدين الطوسي، فبين كيف أفادت الإنسانية منهم ومن علمهم، فأوضح كيف أفاد الطوسي الإنسانية باهتمامه بالهندسة اللاإقليديسية الفوقية، تلك التي تلعب دورًا حاليًا في تفسير النظرية النسبية، كما أنه برهن بكل جدارة على المصادرة الخامسة من مصادرات إقليدس، وبذلك يكون الطوسي قد وضع أساس الهندسة اللاإقليديسية الحديثة، والتي تقترن بأسماء علماء غربيين.
وأوضحت الدراسة كيف اهتم المسلمون بالفلك كعلم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيزة، ويستدل من تلك الحركات على أشكال وأوضاع الأفلاك التي لزمت عنها هذه الحركات المحسوبة بطرق هندسية، وبنى علماء الفلك المراصد الفلكية، ووضعوا آلات الرصد، التي كانت تصنع بمدينة حران في العصر العباسي، ثم انتشرت صناعتها في جميع أنحاء الخلافة العباسية منذ زمن المأمون، وعكف علماء الفلك في المراصد على الدراسة والرصد والتأليف، فجاءوا بآراء ونظريات أصلية عبرت بحق عن روح الإسلام وحضارته، وأفادت منها الإنسانية جمعاء.
وجاء الفصل الرابع ليوضح أثر علماء الجغرافيا الإسلاميين في نهوض علم الجغرافيا فبين كيف أدت الفتوح الإسلامية إلى زيادة اهتمام الخلفاء بعلم الجغرافيا لمعرفة حدود خلافتهم ومدنها وقراها، والطرق المؤدية إليها، وذلك لتسهيل الاتصال والبريد بين عاصمة الخلافة المركزية وبقية أرجائها، وساعد على ذلك أيضًا انتشار ظاهرة الرحلة في طلب العلم، فضلاً عن كثرة الرحلات التجارية نتيجة للتطور الاقتصادي، كل ذلك أدى إلى التوسع في البحوث الجغرافية فنشط التأليف الجغرافي المعتمد على الدراسات الميدانية، فبرز عدد من الجغرافيين العرب أثروا في الحضارة الإنسانية، منهم: اليعقوبي، ابن خردذابة، الإصطرخي، ابن حوقل، المقدسي، البكري، الإدريسي، ابن جبير، ياقوت الحموي، القزويني، أبو الفداء، ابن بطوطة.
فقد أفاد الغرب من كتاب اليعقوبي «البلدان»، ومن كتاب «المسالك والممالك»، لابن خردذابة، والذي عد أول مصنف عربي في الجغرافيا الوصفية، ولهذا فقد أثر في الجغرافيين اللاحقين على ابن خردذابة، وامتد هذا التأثير حتى العصر الحديث، أما كتاب «المسالك والممالك»، للإصطرخي، فقد امتاز بخرائطه التي أفرد منها لكل إقليم خريطة على حده، وجاء كتاب «المسالك والممالك» لابن حوقل، ليعد من المؤلفات الجغرافية العربية التي أفادت منها الإنسانية جمعاء، وكشفت الدراسة النقاب عن أن أول معجم جغرافي عربي مرتب بحسب حروف الهجاء هو معجم «ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع»، للبكري، والكتاب فريد لا يمكن مقارنته بشيء آخر، ويمثل مرجعًا أساسيًا لمن يبحث في الجغرافيا، وامتاز كتاب الإدريسي «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» بشموله لجميع أقاليم العالم، وبما احتواه من خرائط كثيرة ودقيقة موضحة للأماكن التي يتحدث عنها، ليستخرج منه أحد العلماء الغربيين خريطة جامعة للعالم كما رسمه الإدريسي.
وفي الفصل الخامس تحدث المؤلف عن جابر بن حيان كمدرسة كيميائية أفادت الإنسانية، فتناول نشأته وأثرها على توجهه العلمي، وأوضح كيف أن الفكر اليوناني، ومدرسة الإسكندرية والثقافة الإسلامية كانت بمثابة البنية المعرفية التي انطلق منها، لكنه انتهى إلى نتائج علمية جديدة مبتكرة، فأسهم في بناء المنهج التجريبي في مقابل المنهج التأملي العقلي الذي برع فيه اليونانيون، ثم أوضح بنية مدرسته التعليمية، والمبادئ والقواعد التي رأى أنها تحكم علاقة أعضاء المدرسة وتشكل البنية الأساسية التي تقوم عليها، ثم تناول منهجه البحثي وإنجازاته ومؤلفاته العلمية وأوضح أثرها في الإنسانية، فبين أثرها في الكيميائيين اللاحقين له سواء على المستوى العربي أو الغربي، وخاصة عملياته الكيميائية كالتبخير والتقطير والترشيح والتكليس والإذابة والتبلور والتصعيد، فكان أول من استحضر حامض الكبريتيك بتقطيره من الشبة، واستخرج حامض النيتريك، وأول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة، وثاني أكسيد الزئبق، واستحضر كربونات الصوديوم، وكربونات الرصاص القاعدي، والزرنيخ، والكحل (كبريتيد الأنتيمون)، وغيرها من الإنجازات التي جعلت جابر بن حيان صاحب مدرسة كيميائية مميزة لها إنجازاتها العلمية الهامة التي كانت بمثابة الأسس التي عملت على تطور الكيمياء العربية فيما بعد عصر جابر، وساعدت على تأسيس وقيام علم الكيمياء الحديث، كدور للحضارة الإسلامية كحلقة من حلقات الحضارة الإنسانية في مجال علم الكيمياء.
ثم خُصص الفصل السابع لعلم الطب بعد الرازي حيث تحدث عن ستة أطباء أتوا من بعده وهم ابن الجزار، علي بن العباس، الزهراوي، ابن سينا، ابن زهر، ابن النفيس، وبينت الدراسة كيف أن الحضارة الإنسانية لم تتوقف على الإفادة من الحضارة الإسلامية في الطب على الرازي فحسب، بل أثر علماء المسلمين اللاحقين على الرازي في الحضارة الغربية الحديثة، فكتاب «زاد المسافر» لابن الجزار ترجم إلى اللغات الأوروبية واستفاد منه الأطباء الغربيون، واشتهر كتاب «كامل الصناعة» لعلي بن العباس في اللاتينية بالكتاب الملكي، حتى ظهور كتاب «القانون» لابن سينا، وأوضحت الدراسة أن كتاب الزهراوي «التصريف لمن عجز عن التأليف» الموسوعة في عمليات ربط الشرايين، واستئصال حصى المثانة، وتفتيتها، والتهاب المفاصل، وشق القصبة الهوائية.
وبينت الدراسة أن كتاب «القانون في الطب» لابن سينا يعد من أهم موسوعات الطب العربي الإسلامي، وقد أفادت منه الحضارة الإنسانية في عمومها، ويدلنا على ذلك ترجماته الكثيرة، فقد ترجم في القرن الخامس عشر الميلادي أكثر من ستة عشر مرة، وعشرين مرة في القرن السادس عشر، وأفادت الحضارة الغربية الحديثة من إنجازات بني زُهر، كما قدم ابن النفيس اكتشافه للدورة الدموية الصغرى للعالم أجمع، ولم يتم الكشف عن هذا الاكتشاف إلا في بداية القرن العشرين.
أما الفصل الثامن، الذي جاء بعنوان «إبداع الطب النفسي العربي الإسلامي وأثره في الإنسانية»، فأوضح دور كل من: الرازي، وجبرائيل بن بختشيوع، وابن سينا، أوحد الزمان البلدي البغدادي، سكرة الحلبي، رشيد الدين أبو حليفة، في الإسهام في الطب النفسي، فتصدوا لمعالجة الأمراض النفسية وقدموا لها ما ساعد على شفائها، فكان الرازي أول طبيب فكر في معالجة المرضى الذين لا أمل في شفائهم، فعالج الأمراض التي اعتبرها سابقوه مستحيلة البرء، كالصرع والمنخوليا، كما عالج جبرائيل بن بختشيوع الفصام التشنجي، أو الفصام التصلبي، الذي يتميز سلوك صاحبه بالتيبس النفسي والجسمي، وكان ابن سينا أول من ربط وظائف الإحساسات والخيال والذاكرة بشروطها الفسيولوجية، وبهذا لم يسبقه أحد في إلقاء الضوء الساطع على علم النفس التجريبي، وعالج مرض الوعي بالذات، كما عالج الطبيب أوحد الزمان مرض الهلاوس، واستخدم الطبيب سكرة الحلبي نظرية العلاج المعقود على المريض، إلى غير ذلك من الأمراض النفسية التي اكتشفها وعالجها الأطباء العرب الإسلاميون، كان لها أكبر الأثر في قيام وتطور علم النفس الحديث.
وعند الحديث في الفصل التاسع عن علوم الميكانيكا والهيدروليات والتكنولوجيا والبصريات، تناول بنو موسى بن شاكر كجماعة علمية أفادت الإنسانية، وكنموذج للأسر العلمية التي شهدها تاريخ العالم العربي، فبين كيف استطاع الأخوة الثلاثة أبناء موسى بن شاكر أن يكونوا جماعة علمية متآزرة نبغت في كافة هذه العلوم، فوقف في سياق البحث على أهم الأعمال العلمية النظرية والتطبيقية التي قومتها الجماعة، فقدموا منظومة علمية ومعرفية هامة شغلت مكانًا رئيسيًا في تاريخ العلم بعامة، وتاريخ التكنولوجيا بخاصة، فأرانا كيف قدمت جماعة بني موسى من خلال مؤلفاتها إسهامات جليلة في العلوم التي بحثوا فيها، ومنها: نظرية ارتفاع المياه، واختراع الساعة النحاسية الدقيقة، وقياس محيط الأرض، وتأسيس علم طبقات الجو، إلى غير ذلك من الابتكارات والاختراعات التي ضمنوها كتبهم، فأسهموا في تطور العلوم التي ألفوا فيها.
ثم أوضحت الدراسة دور علماء آخرون مثل: الحسن بن الهيثم، والبيروني، والخازن، وبديع الزمان الجزري، وكمال الدين الفارسي، فبينت أن أعظم مآثر الحسن بن الهيثم تأثيرًا في العالم نظريته في الإبصار، ثم أوضحت كيف اعترف علماء الغرب بأن البيروني أول من فكر في علم الجاذبية، وليس نيوتن، وانتهت الدراسة إلى أن أبا الفتح عبدالرحمن الخازن بحث في كتابه «ميزان الحكمة» ظاهرة الضغط الجوي قبل توريتشلي بخمسمائة عام، فكان كتابه الركيزة الأساسية في قيام العلم الطبيعي الحديث، وكذلك فعل الجزري فجمع بين العلم والعمل، ولهذا حق لعلماء الغرب أن يصفوه بأعظم المهندسين في التاريخ، وفي كتابه «تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر» درس كمال الدين الفارسي كيفية انعكاس الضوء والإبصار، ومظاهر الخداع البصري، وطور نظرية قوس قزح، فسبق ببحوثه ابن الهيثم وغيره من علماء الغرب والمسلمين، كما سبق بحوث ديكارت ونيوتن بقرون طويلة.
وفي الفصل العاشر والأخير زعم المؤلف أنه يؤصل لعلم جديد من العلوم الإبداعية المهملة في الحضارة الإسلامية، ألا وهو علم الطفيليات والأحياء المجهرية، مقدمًا من المبررات ما يعزز دعوته بأن أبا بكر الرازي يعد أول عالم في العالم يتطرق لبحث ودراسة واكتشاف مرض الجدري والحصبة، والذي يدخل في صميم علم الأحياء المجهرية الحديث، وفي القانون في الطب لابن سينا ولأول مرة في تاريخ الطب يكتشف ويعترف ويصف ابن سينا مرض الجمرة الخبيثة، والطفيل المسبب لها، وما ينتج عنها من حمى أطلق عليها الحمى الفارسية، والعجيب أن المصطلح المعبر عن الجمرة الخبيثة يعبر حرفيًا عن الاسم الذي أطلقه ابن سينا على هذه الجمرة وهو «الجمرة الفحمية»، كما قدم ابن سينا وصفًا لمرض السل ولأول مرة في تاريخ الطب في كتابه القانون، كذلك عد ابن زهر أول من اكتشف جرثومة الجرب وسماها «صؤابة» وهو اكتشاف مثير يأخذ به علم الطفيليات والأحياء المجهرية إلى اليوم.
خلاصة القول: إن العمل العلمي الذي قدم في هذا الكتاب يدل بصورة قوية على أن الحضارة الإسلامية تشغل مكانًا مرموقًا بين حضارات العالم المختلفة، وذلك بفضل ما قدمته للإنسانية من علوم أفادت منها، وكانت بمثابة الأساس القوي المتين الذي قامت عليه الحضارة الغربية الحديثة، وفي النهاية قدم المؤلف توصية للباحثين لكشف أسرار معظم هذه المؤلفات التي مازالت مخطوطة، فهي تستحق أن ننفض عنها غبار السنين بالدراسة والاستيعاب والفهم والتحقيق، لعلنا نكشف عما تحتويه من كنوز مازالت فاعلة حتى اليوم، وتلك هي النتيجة النهائية التي نبهت لها الدراسة، التي تستحق القراءة والتعمق لما قدمته من نتائج جديدة على المكتبة العربية.