سوق عكاظ .. مفخرة العرب
سوق عكاظ أشهر أسواق العرب وأعرفها، وهي سوق تجارة وسوق سياسة وسوق أدب، فيها كان يخطب كل خطيب مصقع، وفيها علقت القصائد السبع الشهيرة افتخارًا بفصاحتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل, على ما يذكره بعض أهل الأخبار، وكان يأتيها قريش وهوازن وسليم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب, وكانت تقوم للنصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر.
أين تقع عكاظ ؟
عكاظ نخل في وادٍ بين مكة والطائف على مرحلتين من مكة ومرحلة من الطائف، وموقعها جنوب مكة إلى الشرق، هذا زبدة ما يستخلص من تعاريفهم المتضاربة في عكاظ، تقوم السوق في مكان منه يعرف بالأثيداء فيه مياه ونخل، وهو مستوٍ لا علم فيه ولا جبل إلا ما كان من الأنصاب التي كانت لأهل الجاهلية، وبها من دماء البدن كالأرحاء العظام، كانوا يطوفون حول صخور فيها، وربما كان ذلك شعيرة من شعائرهم, فقد ذكروا أنهم كانوا يحجون إليها. وبالأثيداء كانت أيام الفجار.
والظاهر أن ما يطلق عليه "عكاظ" من الأرض متسع فسيح فيه حرار, وفيه أرضون مسقية ذات نخيل، وقد مر في حروب الفجار أن "شربا" من عكاظ، وأن "العبلاء" إلى جنب عكاظ، وأن "شمطة" موضع في عكاظ, وأن "الحريرة" حرة إلى جانب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، وعرفت أن بني نصر صبروا مع ثقيف؛ لأن عكاظ بلدهم وذلك الذي أحماهم.
ولا شك أن أرضا اتسعت بعض أجزائها لمعارك عدة أرض فسيحة واسعة، وبذلك نفهم كيف كانت السوق تتنقل في عكاظ, فلا تلازم بقعة واحدة لا تحيد عنها يمينا ولا شمالا على مدى السنين المتطاولة، وهي وما جاورها ديار قيس عيلان وهوازن منهم خاصة.
وقد عرفت من حرب الفجار أن قريشا بادرت من عكاظ مسرعة إلى الحرم؛ خوفا من هذه القبائل بعد قتل البراض، إذ كانت عكاظ في ديارهم، وهم بها أكثر ما يكونون منعة وعددا.
اشتقاق كلمة عكاظ
أما اشتقاق عكاظ ولِمَ سميت بهذا الاسم، فق د ذهب اللغويون فيه مذاهب، وقلبوا الكلمة على معانيها المختلفة: فالقهر والحبس وردِّ الفخر والتجادل والتحاج، كل هذا معانٍ للعكظ وكلها صالحة لأن يعلل بها التسمية.
فيقول قوم: سميت عكاظ؛ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا في المفاخرة أي: يقهره ويعركه، وقال آخرون: إنها من تعكَّظ القوم, إذا تحبسوا لينظروا في أمورهم، وذهب غيرهم إلى أنها من التعاكظ بمعنى التفاخر [1].
تاريخ سوق عكاظ
ذكر بعض أهل الأخبار مثل الألوسي في بلوغ الأرب أن سوق عكاظ موسم عظيم من المواسم، وقد اتخذت سوقًا بعد عام الفيل (570 - 571م) بخمس عشرة سنة، مع أن هناك حديثا صحيحا يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبل على أعمامه في حروب الفجار وعمره أربع عشرة سنة أي: بعد الفيل بأربع عشرة سنة, فتكون الفجار ونبل الرسول فيها قبل وجود عكاظ بسنة وهو تناقض بيِّن،
وإذا تأملنا بعض الأحداث التي وقعت في سوق عكاظ, عرفت أن بعضها يرتفع إلى ما قبل جميع هذه التواريخ التي ذكروها: فالمرأة التي باعت أنحاء السمن بعكاظ وتزوجت بعد ذلك بعبد شمس، وعمرو بن كلثوم الذي أنشد قصيدته في عكاظ عاش حول سنة 500م. وإذا أضفت إلى هذا ما فطن له الأستاذ أحمد أمين في كتابه "الرسالة", في بحوثه عن عكاظ والمربد، من أن المرزوقي عد عشرة ولوا القضاء بعكاظ قبل الإسلام، استظهرت أن السوق مضى على إنشائها زمن قبل أن تصير فيه هذه الأحداث كلها. من كل ذلك تعرف صحة ما ذهبنا إليه من أنها كانت قبل سنة 500م حتما.
وعكاظ من أعظم أسواق العرب على الإطلاق في الجاهلية وفي الإسلام, ثم تضاءل شأنها وخربت بعد سنة 129هـ، عندما ظهر الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف في مكة، فنهبت هذه السوق، وخاف الناس على أنفسهم من الذهاب إليها، فتُرِكَتْ.
فلو أخذنا بالرواية الأولى، نكون قد جعلنا مبدأ هذه السوق سنة 585م أو 586م تقريبًا, أي: إن تأريخ سوق عكاظ لم يكن بعيد عهد عن الإسلام, فهو قبله بنحو ربع قرن، وقد أقيمت وعمر الرسول آنذاك 15 عامًا. وإذا أخذنا بالرواية الثانية –التي نميل إليها- تكون هذه السوق قد عمرت أكثر من قرنين ونصف القرن في الجاهلية والإسلام [2].
متى كان يقام سوق عكاظ ؟
عكاظ: نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليالٍ، وبه كانت تقام سوق العرب، وقيل: عكاظ: ماء ما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له: الفنق، كانت موسمًا من مواسم الجاهلية, تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يومًا، وكانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي: يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، يقيمون على ذلك شهرا، يتبايعون ثم يتفرقون، فلما جاء الإسلام هدم ذلك [3].
وذهب فريق من أهل الأخبار إلى أن انعقاد سوق عكاظ إنما كان يقوم بهلال شهر ذي القعدة ويستمر لمدة عشرين يومًا، وهم يخطئون رأي من يذهب إلى أن انعقاد السوق كان في شهر شوَّال، وحجتهم أن انعقاد السوق كان في الأشهر الحرم؛ ليراعي الناس حرمة تلك الأيام فلا يعتدون على من يقصد السوق, وشهر شوال لا يدخل في جملة الأشهر الحرام؛ لذلك فلا يمكن أن يكون انعقاد السوق فيه.
ويستدلون بدليل آخر، هو تقاتل بعض العرب في أيام عكاظ، ونظرًا لوقوع ذلك القتال في شهر حرام، أطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار، وهي أربعة أيام: يوم شمطة، ويوم العبلاء، ويوم الحريرة، ويوم شرب، وهذه الأسماء هي أسماء أماكن في عكاظ، وما كان العرب ليطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار, لو لم تكن قد وقعت في أيام حرم.
ويمكن جمع الأقوال المتقدمة بأن عكاظ قد تحفل بالناس في شوال ويتم تقاطرهم إليها في ذي القعدة؛ الزمن الرسمي للسوق، وحين تذهب جماعاتهم إلى مجنة في العشرين من ذي القعدة يتخلف كثير ممن لم يكن أنهى بيعه وشراءه فلا يتم خلو السوق تماما إلا في غرة ذي الحجة عند اقتراب الحج [4].
سوق عكاظ المعرض العام في الجاهلية [*]
عكاظ هي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، معرض بكل ما لهذه الكلمة من مفهوم لدينا نحن أبناء هذا العصر، فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكّمون تضرب عليهم القباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وأدبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف.
وحول هذه القباب الرواة والشعراء من عامة الأقطار العربية، فما ينطق الحكم بحكمه حتى يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، وتلهج بها الألسن في البوادي والحواضر، يحمل إلى هذه السوق التهامي والحجازي والنجدي والعراقي واليمامي واليمني والعماني، كل ألفاظ حيه ولغة قطره، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلا واصطفاء حتى يتبقى الأنسب الأرشق, ويطرح المجفوّ الثقيل.
وهي السوق التجارية الكبرى لعامة أهل الجزيرة، يحمل إليها من كل بلد تجارته وصناعته كما يحمل إليها أدبه، فإليها يجلب الخمر من هجر والعراق وغزة وبصرى، والسمن من البوادي، ويرد إليها من اليمن البرود الموشّاة والأدم، وفيها الغالية وأنواع الطيب وأدوات السلاح، ويباع فيها الحرير والوكاء والحذاء والمسيّر والعدني، يحملها إليها التجار من معادنها، وفيها من زيوت الشام وزبيبها وسلاحها ما اعتادت قريش أن تحمله في قفولها إلى مكة.
فكان يعرض للبيع وللشراء في سوق عكاظ كل أنواع البضاعات، إلى بضاعة حية ناطقة هي الحيوان أو الإنسان، حيث يعرض الرقيق في السوق, وقد كان شراء خديجة بنت خويلد زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ"زيد بن حارثة" من سوق عكاظ.
ويعرض فيها كثير من الرقيق الذي ينشأ عن الغزو, وسبي الذراري فيباع فيها بيع المتاع التجاري، من ذلك أم عمرو بن العاص، فقد كانت سبية بِيعت في عكاظ، عرفنا أمرها في خبر طريف يقصه ابن عبد ربه: خاطر رجل إلى أن يقوم إلى عمرو بن العاص وهو في الخطبة فيقول: "أيها الأمير، من أمك؟ " ففعل، فقال له: "النابغة بنت عبد الله, أصابتها رماح العرب فبِيعت بعكاظ، فاشتراها عبد الله بن جدعان للعاص بن وائل، فولدت فأنجبت، فإن كانوا جعلوا لك شيئا فخذه!" [5].
ويبيع فيها كل غازٍ سَلَبه, وكثيرا ما يكون هذا البيع سببا في قتل صاحبه إذا أبصر السلاح أحد من ذوي المقتول فعرفه، فإنه يضمرها في نفسه وينتظر أن يظفر بالرجل ليثأر منه، وقد كانت تجارة فارس يصل منها أشياء إلى عكاظ: فإن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق عكاظ كل عام لطيمة "وهي في الأصل: العير المحملة مسكا" في جوار رجل شريف من أشراف العرب يجيرها له ويحميها من كل معتدٍ حتى تصل سالمة إلى عكاظ فتباع هناك, ويشرى بثمنها ما يحتاج إليه من أدم "جلود" الطائف وسائر المتاع في عكاظ, من حرير وعصب مسيّر، وبيعت فيها حلة ذي يزن فاشتراها حكيم بن حزام ليهديها رسول الله [6]، بل إن عكاظ نفسها مشهورة بما يعرض فيها من جلود حتى قالوا: "أديم عكاظي" نسبة إليها.
وهي معرض لكثير من عادات العرب وأحوالهم الاجتماعية: فههنا "قس بن ساعدة" يخطب الناس، يذكر الخالق ويعظهم بمن كان قبلهم ويأمرهم بفعل الخير [7]. وهناك خالد بن أرطاة الكلبي تتبعه قبيلته وقد جاء لينافر جرير بن عبد الله البجلي ومع هذا حيه أيضا, وقد ساق كل منهما مالا عظيما ينافر عليه، وعرضا الحكومة على رجالات قريش فأبوا أن يحكموا خوف الفتنة بين الحيين, فالرجلان في عكاظ ينتظران الأقرع بن حابس ليقوم بهذه الحكومة وقد ساقا الرُّهُن فوضعوها عند عتبة بن ربيعة [8] دون جميع من شهد على ذلك المشهد.
وههنا عمر بن الخطاب في الجاهلية يصارع [9]، وثمة كاهن وعراف وعائف وقائف، وقرد، وغنم، وصحيفة وكاتب. وهناك أناس من غواة الشهرة: هذا يمد رجله وينشد شعرا ويقول: "من كان أعز العرب فليقطع رجلي". وآخر يأتي عكاظ ببناته ترويجا لزواجهن، وأناس قدموها ليختاروا من يتزوجون إليه.
قال المرزوقي:
"كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب: كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد، والحلة الحسنة، والمركوب الفاره، فيقف بها وينادي عليه: "ليأخذه أعز العرب" يريد بذلك معرفة الشريف والسيد, فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته".
وكان كسرى يبعث في ذلك الزمان بالسيف القاطع والفرس الرائع والحلة الفاخرة فتعرض في تلك السوق, وينادي مناديه: "إن هذا بعثه الملك إلى سيد العرب" فلا يأخذه إلا من أذعنت له العرب جميعا بالسؤدد, فكان آخر من أخذه بعكاظ حرب بن أمية، وكان كسرى يريد بذلك معرفة ساداتهم؛ ليعتمد عليهم في أمور العرب, فيكونوا عونا له على إعزاز ملكه وحمايته من العرب [10].
عكاظ ندوة سياسية
وهي أيضا ندوة سياسية عامة، تقضى فيها أمور كثيرة بين القبائل؛ فمن كانت له إتاوة على قبيلة نزل عكاظ فجاءوه بها, ومن أراد تخليد نصر لحيه فعل فعل عمرو بن كلثوم فرحل إلى عكاظ وخلده فيها شعرا، ومن أراد إجارة أحد هتف بذلك في عكاظ حتى يسمع عامة الناس، ومن أراد إعلان حرب على قوم أعلنه في عكاظ.
حتى "جمعية الأمم" أو "هيئة الأمم المتحدة" وما قامتا به من مجهود "رسمي" في سبيل السلم الخاص، كان لها صورة مصغرة تشبههما بحسب الظاهر "لا في الحقيقة؛ لأن عكاظ لم تكن ترائي فتستغل الدعاية الشريفة لتسيغ للقوي أكل الضعيف"، فقد روى الأصفهاني أنه: "اجتمع ناس من العرب بعكاظ منهم قرة بن هبيرة القشيري والمخبل وهو في جوار قرة، في سنين تتابعت على الناس فتواعدوا وتوافقوا ألا يتغاوروا حتى يخصب الناس"، ولا يخفى علينا أنه كانت تكون في عكاظ "وقائع مرة بعد مرة" [11].
وكانت هذه السوق تقوم من العرب يومئذ مقام الجريدة الرسمية في أيامنا هذه، فمن أتى عملا شائنا تأباه مروءة العربي شهروا أمره بعكاظ, ونصبوا له راية غدر [12]، فعرفوه فلعنوه واجتنبوه، ومن أراد أن يستلحق امرأ بنسبه استلحقه وأعلن ذلك للناس في عكاظ.
ومن أراد التبرؤ من قريب لسبب ما، تبرأ منه علنا، فإذا أتى بعد ذلك جريمة أو خيانة كان المتبرئ -في عرف العرب يومئذ- في حل مما أتى قريبه، ذكروا "أن قيس بن الحدادية من شعراء الجاهلية، كان شجاعا فاتكا صعلوكا خليعا، وقد جر على قومه خزاعة عنتا وإرهاقا كبيرا، فخلعته خزاعة بسوق عكاظ وأشهدت على نفسها بخلعها إياه, فلا تحتمل جريرة له ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه" [13].
وإذا أطلق لقب على أحد في عكاظ عرف صاحبه به، وجرى له مجرى اسمه واسم أبيه، فقد قاتل أبو ربيعة بن المغيرة من قريش يوم شرب "وهو من أيام عكاظ" برمحين فسمي ذا الرمحين وبه يعرف، وثبت في هذه الحروب من قريش أولاد أمية بن عبد شمسالستة وهم: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو فسموا "العنابس" والعنبس: الأسد, وأمثال ذلك.
وغني عن البيان أيضا ما يدخره الصغار الذين يصطحبهم أهلوهم إلى عكاظ من ذكريات عن تلك السوق لا تنسى، هذه خولة بنت ثعلبة تستوقف عمر بن الخطاب في خلافته, فيقف لها فتقول: "إيهًا يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ تزع الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ولم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين! " [14].
وأشد ما يثير الاستغراب، هذا الشبه الكبير بين عكاظ ومعارض هذا العصر، بل إن عكاظ لأوسع مدى فيما يعرض؛ فإنه لا يقتصر على مواد التجارة والصناعة بل يتعداهما إلى الأدب والشعر والحرب والسلم والعادات ..، فإذا أنا أفضت في وصف عكاظ وما فيها، فإن ذلك إفاضة في وصف سائر أسواق العرب أيضا، فليس فيهن سوق تساميها.
وما جرى في عكاظ جرى قريب منه في بقية الأسواق مع مراعاة صغر هذه واقتصارها أحيانا على أهل ناحية واحدة، فليكن تاريخ عكاظ إذًا تاريخا لكل أسواق العرب، وتاريخا لكثير من عاداتهم الاجتماعية أيضا.
والظاهر أن احتفال الناس بعكاظ لم يكن واحدا دائما، فقد كان في بعض السنين يربي على الغاية في الازدحام والحركة، حتى تضيق السوق بمن فيها, وحتى يربح التاجر والجالب إليه ربحا عظيما لا يتأتى إلا في الفرط النادر، قال المرزوقي: "فلما دخلت سنة خمس وثلاثين من عام الفيل, حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد, وابتاعوا أمتعة مصر والعراق والشام ...".
هي إذًا معرض عام للجزيرة العربية، فيها عرض لتجارات جميع الأقطار وعرض للبيوع وعرض للعادات والأديان واللغات والآداب، وللسياسة ..، وفيها لجان رسمية على نحو ما نألف في معارضنا اليوم، تحكم للمتفوق بتفوقه حكما نافذا من أقصى الجزيرة إلى أقصاها، وتزيد على معارضنا بميزة جليلة، وهي صهرها لعادات القبائل ولغاتها ومواضعاتها لتنتقي منها أحسنها وأخلقها بالبقاء.
سوق عكاظ في الإسلام [**]
كانت سوق عكاظ عامرة مقصودة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام هدم ذلك [15]. وورد في كتب الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها، فأنزل الله: "ليس عليكم جناح في مواسم الحج", قرأ ابن عباس كذا" [16].
وورد في تفسير الطبري: "قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية, فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج". وورد: "كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
وتفسير ذلك كما جاء في كتب التفسير والحديث، أن الجاهليين كانوا يتأثمون من الاتجار في الحج، فلا يحجون ولا يتجرون، وتكون تجارتهم في الأسواق المذكورة قبل الحج أو في مكة بعد الحج، وبقوا على ذلك حتى رفع عنهم الحرج بنزول الوحي: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}، فرخَّص لهم في المتجر والركوب والزاد، وأحل الله لهم الاتجار في الحج [17]، فصاروا يتبايعون بمكة.
وكان تحديد مواقيت الحج, وانتشار الإسلام، ومنع التعرض والتحرش بالناس طيلة أيام السنة، في جملة العوامل التي قللت من أهمية تلك الأسواق، فلم يعد الحجاج في حاجة إلى الذهاب قوافلَ إليها؛ استغلالًا لحرمة الأشهر، بل صاروا يتجهون إلى المواقيت المعينة للحج رأسًا، فيتجرون بمكة ويعودون إلى ديارهم، فقلت بذلك أهمية تلك الأسواق حتى ماتت.
وسبب آخر, هو في نظري أهم من كل ما ذكرت, هو أن هجرة الرسول إلى المدينة، وانتصار الإسلام على مكة، ثم وفاته صلى الله عليه وسلم بالمدينة، واتخاذ الخلفاء الثلاثة الأول إياها قاعدة لهم ولبيت مال المسلمين، ثم خروج سادات مكة إليها في حياة الرسول، وانتقالهم إلى الأمصار المفتوحة لإدارتها سياسيًّا وعسكريًّا، أو للاشتغال بها بالزراعة والتجارة وبالأعمال الأخرى المربحة، كل هذه العوامل وأمثالها جعلت مكة في الدرجة الثانية بعد "المدينة".
حتى إن من بقي بالمدينة من الصحابة ولم يغادرها كما غادرها غيرهم إلى الأمصار المفتوحة، وجدوا أن من أدب الصحبة ملازمة قبر الرسول، والثوى بها في الحياة وفي الممات، ولم يقيموا بمكة إلا فترات؛ لحج أو لزيارة، فأثر ذلك على وضعها المالي، وأزال مكانها القديم في التجارة، فتغير بذلك كل شيء.
[1] سعيد بن محمد الأفغاني: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، ص286- 289.
[2] صفي الدين ابن شمائل القطيعي: مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، 2/ 953، الفيروزآبادى: القاموس المحيط، 2/ 396، الأزرقي: أخبار مكة وما جاء فيها من الأثار، ص129، القلقشندي: صبح الأعشى، 1/ 410 وما بعدها، البلاذري: البلدان، 3/ 704، المرزوقي: الأزمنة والأمكنة، 2/ 165، اليعقوبي: البلدان، 1/ 236.
- أحمد أمين: الرسالة, السنة الأولى, العدد 13، ص25.
- سعيد بن محمد الأفغاني: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، ص342- 343.
[3] الأزرقي، أخبار مكة، ص129 وما بعدها، البكري: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع ، 3/ 959 وما بعدها، ابن منظور: لسان العرب، 7/ 447.
- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الناشر: دار الساقي،الطبعة: الرابعة 1422هـ/ 2001م، 14/ 68.
[4] أخبار مكة، 132، الأصفهاني: الأغاني، 9/ 176، 10/ 9، ابن عبد ربه: العقد الفريد، 3/ 377، ابن الأثير: الكامل، 1/ 358 وما بعدها.
- هناك من نقل: أن لعكاظ غير تلك السوق السنوية التي تجتمع بها القبائل، لها أيضا سوق أسبوعية تقوم كل يوم أحد للبيع والشراء. انظر: محمد رشدي: مدنية العرب في الجاهلية والإسلام، ص59.
- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 14/ 66.
[*]سعيد بن محمد الأفغاني: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، ص277- 343. بتصرف.
[5] ابن عبد ربه: العقد الفريد، طبعة سنة 1940م، 1/ 63.
[6] انظر تفصيل هذا الخبر في تهذيب تاريخ ابن عساكر ص414، 415.
[7] 2 زعم أحد الكتاب أنه كان بعكاظ "أسقفية" للنصارى. انظر مجلة المشرق "السنة 35"، ص84.
[8] انظر تفصيل ذلك في رسائل الجاحظ، ص102، وبلوغ الأرب 1/ 301-305 وغيرهما.
[9] طبقات ابن سعد 1/ 235.
[10] ابن الجوزي: مثير العزم الساكن في فضائل البقاع والأماكن، مخطوطة بدار الكتب الظاهرية "أدب 46"، الكراس الخامس عشر.
[11] أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني، 14/ 37. النويري: بلوغ الأرب، 1/ 368.
[12] حسين بن غنام: العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين، ص31.
[13] الأغاني، 12/ 20.
[14] خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها التي سمع الله كلامها من فوق سبع سماوات وأنزل فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}.
- وانظر ابن قيم الجوزية: اجتماع الجيوش الإسلامية، ص68.
[**] جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 14/ 72- 74.
[15] الزبيدي: تاج العروس 5/ 254، مادة: عكظ.
[16] القسطلاني: إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، 4/ 37.
[17] تفسير الطبري: 2/ 164، 165.