سوق المربد .. عكاظ الإسلام
لم تستجد في الإسلام سوق لم تكن في الجاهلية، إلا ما كان من أمر المربد الذي ورث عكاظ، وقضى على ما كانت تتمتع به من ميزات، منذ عصر الراشدين، وأخذ أمر المربد "عكاظ الإسلام" بالازدياد حين بدأ شأن عكاظ الجاهلية بالخمول فالانتقاص فالموت.
موقع سوق المربد
نزلت العرب البصرة سنة 14هـ, ومصَّرتها سنة 17هـ على تخطيط وضعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرسل من يقف على تنفيذه، وكان المربد على الجهة الغربية من البصرة إلى البادية, ليكون أول ما ينزلون إذا قصدوا البصرة، وآخر ما يتركون إذا رحلوا عنها؛ ليقضوا فيه متاعا لهم ومرافق يتبلغون بها في ظعنهم وإقامتهم.
ومعنى المِرْبَد [1]: محبِس الإبل ومربطها، والمربد أيضا: بيدر التمر؛ لأنه يربد فيه فيشمس. والرُّبدة: لون إلى الغبرة.
سوق المربد واتساع شهرته
ومربد البصرة هذا متسع للإبل تربد فيه للبيع، وكان في الأصل سوقا للإبل، حتى إذا كان عهد الأمويين صار سوقا عامة تتخذ فيه المجالس ويخرج إليها الناس كل يوم، كل إلى فريقه وحلقته وشاعره، وتتعدد فيه الحلقات يتوسطها الشعراء والرجاز ويؤمها الأشراف, وسائر الناس يتناشدون ويتفاخرون ويتهاجون ويتشاورون، وقد وجدوا فيه مستجما لأبدانهم وأرواحهم التي نهكتها الفتوحات، وحنت إلى سابق عهدها في عكاظ فجددت منه ما سمح به الدين الجديد.
بل غضت النظر فتسامحت أحيانا وأحيت ما أمات الإسلام من حمية جاهلية وإحن وثارات وأثارت عداوات، كان يبعثها الناس من تلقاء أنفسهم، أو بتشجيع خفي من بعض خلفاء الدولة الأموية؛ ليشغلوا الناس بعضهم ببعض عن الخلافة وما يأتي الخلفاء من هنوات.
فسوق المربد معرض لكل قبيلة تعرض فيه شعرها ومفاخرها كما تعرض عروضها، وهو مجتمع العرب ومتحدثهم ومتنزه البصريين، يؤمه منهم من عاف رخاوة المدن، وما زال يعلو شأنه وتستجيب له أسباب الكمال, حتى اشتد ولوع الناس به وارتيادهم له.
ويظهر أن الأمر زاد على ما نعرف للمنازه اليوم من خطر، فقد بنيت فيه الدور الجميلة، وتفاقم أمره حتى صار من الضروري لكل أحد في عصر العباسيين أن يغشى المربد، إن لم يكن لحاجة فلترويح النفس وتمتيع البصر وترويض البدن، وحتى قال جعفر بن سليمان الهاشمي جملته المشهورة: "العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق, والمربد عين البصرة، وداري عين المربد" [2].
المربد وما حل به من الخراب
وما زال المربد في مجده هذا حتى خرب وخربت البصرة وتقلص العمران بينهما، إلى أن صار بين المربد والبصرة ثلاثة أميال خراب على عهد ياقوت الحموي (626هـ) الذي ذكره في معجمه, فقال: "مربد البصرة من أشهر محالها، وكان يكون سوق الإبل فيه قديما ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وبه كانت مفاخرات الشعراء والخطباء، وهو الآن بائن عن البصرة نحو ثلاثة أميال وكان ما بين ذلك كله عامرا وهو الآن خراب, فصار المربد كالبلدة المنفردة في وسط البرية".
نقلت قول ياقوت الحموي في البصرة ومربدها؛ لأقول: إن الذي طرأ عليها من الخراب والتأخر طرأ على العراق كله؛ فمن يقرأ وصف العراق وبلدانه وجنانه ونعيمه وسكانه وعمرانه وخيراته في كتب الأدب، وخاصة في المائة الثانية والثالثة والرابعة للهجرة، ثم يرحل إليه أول هذا القرن، لا يجد وصفا للعراق أصدق من قول ياقوت في تلك الأميال الثلاثة التي كانت عمرانا متصلا بين البصرة ومربدها, وأصبحت على عهده خرابا يبابا أفرد المربد من أمه وكان سوقا من أسواقها، وجعله قرية بائنة لا خطر لها.
المربد وأثره في اللغة العربية
ولئن كان لسوق عكاظ ذلك الأثر في اللغة العربية: ألفاظها وأساليبها، فإن المربد كان له أيضا في اللغة أثر بعيد يختلف بعض الاختلاف عن أثر عكاظ؛ لما بين الزمانين والمكانين من التباين، فعكاظ في قلب الجزيرة العربية يحج إليها أشراف العرب وفصحاؤها، لا عجمة فيها ولا أثر لأعجميين البتة.
والأمر في المربد على العكس: هو في طرف الجزيرة على الخليج الفارسي, وبينه وبين الفرس قرب قريب، وزاد الإسلام والفتوح اختلاط العرب بالعجم فتطرق إلى اللغة الفساد والعجمة واللحن وغشي هذا الضعف مجالس الخاصة من العرب, وأزرى بلهجات الفصحاء حتى صرت تسمع الأمير على المنبر في المواسم يلحن على ملأ من الأعراب والبلغاء والأشراف، فعِيب على الحجاج بن يوسف لحن وأُثر عن عبيد الله بن زياد مثله، وكذلك نقلت لحنات عن أشراف العرب [3].
فكان المربد يعجُّ بأعلام اللغة والأدب والشعر والنحو، معهم محابرهم ودفاترهم يكتبون عن فصحاء الأعراب فيه، وهذه الظاهرة لم تكن في عكاظ قط، فهذا أبو عمرو بن العلاء يسأل الأصمعي: "من أين أقبلت؟ " فيجيبه: "جئت من المربد"، فيقول: "هات ما معك"، فيقرأ عليه الأصمعي ما كتب في ألواحه، فإذا ستة أحرف "كلمات" لم يعرفها أبو عمرو، فيخرج يعدو في الدرجة ويقول للأصمعي: "شمَّرت في الغريب" أي: غلبتني [4].
المربد وحلقات الشعر والشعراء
ويشبه المربد عكاظ في أمر الشعر وحلقاته، بل يزيد عليه, فلكل شاعر حلقة، ولكل متهاجيين مجلس، ولكل قبيلة نادٍ وشاعر يذود عنها, ويرد عدوان قريعه من القبيلة الثانية، فللعجاج ولرؤبة حلقة، ولأبي النجم العجلي حلقة، ولجرير والفرزدق وراعي الإبل وذي الرمة، لكل منهم حلقة.
وكثر هذا المحصول من الرجز والشعر والنكات الأدبية كثرة ملأت أمهات كتب الأدب بأخبارها، ولا شك في أن المربد في هذا فاق عكاظ مراحل واسعة, وفاته بعدد الشعراء والرجَّاز وكثرة الروَّاد وطلاب الأدب.
وفي المربد أطفئت ثالثة جمرات العرب، أطفأها جرير بقصيدته الدمَّاغة، وكان لكل من الشعراء رواة ينقلون له ما قاله خصمه وينشرون في الناس جواب شاعرهم عليه، وكان اهتمام الناس بالشعر والأدب من أقوى الأسباب العاملة في غزارته, وكثرة المقبلين على تعلمه وروايته.
المربد وأثره في النحو العربي
ويتفرد المربد بأمر علمي محض لم يكن له في عكاظ من أثر، وهو أنه أرفد اللغة بمادة كثيرة، عليها أسس النحاة قواعدهم وأصلحوها، وذلك بما كانوا يقصدون له فصحاء الأعراب يسألونهم فيما فيه يختلفون، ويأخذون عنهم مستفيدين ومتعلمين، وحسبك أن تقرأ أيا شئت من كتب الأدب الأصول كالأغاني والأمالي والبيان والتبيين والكامل، ولتجد أن أكثر مادتها فيما يتعلق بالعصر الأول والثاني للهجرة، كان المربد ميدانه وينبوعه.
وخذ إن أردت كتب التاريخ الكبرى كتاريخ الطبري مثلا ثم أبلغ في فهرس أماكنه إلى المربد، يأخذك العجب من كثرة المواطن التي ورد ذكر المربد فيها مع أن الكتاب كتاب سياسة وأخبار ملوك لا كتاب عامة وأدب.
فمن المربد, وعلى هامشه غُذِّي الأدب بقصص وأساطير كما غذي التاريخ بالأخبار الواقعة، ووضع من وضع من الرواة والأخباريين أحاديث حاكوا بها ما وقع، وفي حلقاته اصطرعت الأهواء المتباينة والنزعات المتضاربة، استغلها الشعوبيون والمنافحون عن الحقائق على السواء، وشهدت هجوما من أولئك ودفاعا من هؤلاء.
المربد كذلك ميدان سياسة وحرب
والغريب أن هذا المربد لم يكتف بأن يستأثر بكل ميزة كانت لعكاظ، بل جمعها وضم إليها ميزات جديدة أفادها من خصائص عصره وطبيعة اجتماعه، فإن كانت في عكاظ حروب موضعية بين قبيلتين, فإن المربد كان ميدانا لأكبر فتنة وأشد حرب داخلية وقف فيها المسلم أمام المسلم يكافحه بسيفه ويشرع إليه رمحه.
كان المربد ميدانا لإحدى مواقع الجمل، أول حرب فرقت كلمة هذه الأمة المخيفة وجعلت بأسها بينها، وكانت حلقة أولى في هذه السلسلة الطويلة التي نخرت الجسم الإسلامي ومكنت عدوه منه, وكانت أفتك به من كل حرب صليبية وغارة تترية ووحشية أوروبية.
في المربد أو مواقع معركة الجمل
وهذه الحادثة شهدت قدوم السيدة عائشة رضي الله عنها -وفي جيشها طلحة والزبير رضي الله عنهما- إلى سوق المربد، في مواجهة جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه،, واستمرت حتى انتهت حرب الجمل باندحار أصحاب عائشة رضي الله عنها.
فقد كانت مأساة فادحة كانت وما بعدها سببا في فُرقة المسلمين وحدوث طوائف ونحل يلعن بعضها بعضا ويحمل بعضها على بعض، تتناكر وتتقاذف وترى كل منها أن غير المسلم أقرب إليها من أهل الطائفة الثانية، وكثيرا ما استعان بعضها على بعض بالأجنبي عدوهما معا، بل كثيرا ما عمل الدخيل على توسيع الشقة بينهما وقوَّى بعضا على بعض وأمد الفريقين من وراء وراء، بالسلاح والمال ليفنيا جميعا.
سطوة الحجاج بن يوسف
وتمضي عشرات السنين ويصلى العراق بسطوة الحجاج بن يوسف الثقفي وإرهابه، وتشتد الوطأة فلا يكون المتنفس إلا في المربد، حيث يخطب الناسَ الزعيمُ الثائر عبد الرحمن بن الأشعث قائلا:
"أيها الناس! إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذَنَب الوَزَغة، تضرب به يمينا وشمالا فلا تلبث أن تموت"، فتقوى بهذا الكلام نفوس الثائرين إلا رجلا من بني قشير لا يعجبه كلام ابن الأشعث فيقول: "قبَّح الله هذا، يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ويعدهم الغرور" [5]، فيكون أشد على الحجاج من ابن الأشعث، إذ أراد التي هي أحزم.
المربد في عصور الإسلام
كان في المربد إذن أدب وتجارة وحرب [6] وسياسة كما كان في عكاظ، وأستطيع أن أقسم الكلام على المربد أقساما ثلاثة كان شأنه في كل منها مختلفا.
المربد في عهد الراشدين
أما الأول فعلى عهد الراشدين, إذ كان يقتصر أمره على التجارة غالبا، وإن لم يعدم يوما أن كان ساحة حرب ومسرح مآسٍ، وقد عرفنا مما ذكر الطبري أن به موضعا للدباغين، فالمربد إذن سوق البصرة أيام الراشدين وأغلب ما يتاجر فيه التمر وما إليه والإبل والسلاح والغنائم مما كان يقسم على المحاربين، فيبيعه هؤلاء في المربد.
المربد في عهد الأمويين
ثم يأتي العهد الثاني أيام الأمويين وقد اتسعت السوق وكثر قاصدوها من الأطراف, وازدهت بالشعراء والأدباء والعلماء ووفود القبائل، مما لم يكن في العهد الأول؛ لانشغال الناس آنئذ بالجهاد والفتوح، وعدم فراغ لهذه الألوان من الأدب التي لا تغزر وتتهيأ إلا بعد استتباب حال الدولة، ولم نعهد حركة أدبية نشأت إبان الفتوح حين تتأسس الدول.
وازدان هذا العهد بأفحل رجاز وشعراء أخرجهم العهد الأموي, وأخص بالذكر جريرا والفرزدق والأخطل والبعيث وراعي الإبل وذا الرمة، ومن الرجاز رؤبة وأباه العجاج وأبا النجم العجلي وهذا الفريق.
المربد في القرن الثاني الهجري
أما في العهد الثالث, أي: بين آخر العصر الأموي والقرن الثاني للهجرة، فقد نضجت حركة المربد الأدبية والعلمية نضجا يتسق هو وما وصلت إليه الدولة من حسن الحال وسعة الأفق ومرافق الحضارة وبسطة العلم وسعة السلطان، وكان من أبطال المربد أكابر النحاة ورواة الشعر والأدب والشعراء.
والذي كان جديدا في هذا العهد ولم يكن قبل، الناحية العلمية, وأعني بها ما كان يصنعه أبو عمرو بن العلاء والأصمعي وقبيلهما من غشيان لفصحاء [7] الأعراب وصبر على لوثتهم وجفائهم، وتلقف لما ينطقون به وإثبات له في الصحف، يروونه ليبنى عليه الأساس في وضع القواعد العربية.
قال صاحب ضحى الإسلام، وفي قوله إجمال ما قدمت:
"كان المربد في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين مركزا سياسيا وأدبيا، نزلت فيه عائشة أم المؤمنين بعد مقتل عثمان تطالب بدمه وتؤلِّب الناس على عليٍّ، وكان المربد مركزا للمهاجاة بين جرير والأخطل والفرزدق، وأنتج ذلك نوعا من أقوى الشعر الهجائي كالذي نقرؤه في النقائض، وكان لكل من هؤلاء الشعراء حلقة ينشد فيها شعره، وحوله الناس يسمعون، جاء في الأغاني: "وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد في البصرة".
المربد في العصر العباسي
واستمر المربد في العصر العباسي، ولكنه كان يؤدي غرضا آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي؛ ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب، وأحس العرب بما هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، ولكنهم لم يستطيعوا المقاومة، فقوي نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم.
وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس منها إلى حياة العرب، وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والأخطل، وظهرت العلوم تزاحم الأدب والشعر، وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام، وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم، فتحول المربد يؤدي غرضا يتفق "هو" وهذه الحياة الجديدة.
أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا ليتهاجوا، ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية يحتذونهم ويسيرون على منوالهم، فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون عن أهله ويدوِّنون ما يسمعون.
روى القالي في الأمالي عن الأصمعي، قال: "جئت إلى أبي عمرو بن العلاء فقال لي: "من أين أقبلت يا أصمعي؟ " قلت: "جئت من المربد"، قال: "هات ما معك" فقرأت عليه ما كتبت في ألواحي، فمر به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال: "شمَّرت في الغريب" أي: غلبتني.
والنحويون يخرجون إلى المربد يسمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم؛ فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصب كل لمذهبه، وكان أهم مدد لمدرسة البصرة هو المربد [8].
وفي تراجم النحاة نجد كثيرا منهم كان يذهب إلى المربد يأخذ عن أهله. ويخرج الأدباء إلى المربد يأخذون الأدب، من جمل بليغة وشعر رصين وأمثال وحكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم، كما فعل الجاحظ: "إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش، وأخذ الكلام عن النظَّام، وتلقَّف الفصاحة من الأعراب شفاها بالمربد" ا. هـ.
وكما كانت عكاظ يؤمُّها كل من أراد أن يفتخر أو يعلن أمرا تفرد به أو يشيع في الناس مأثرة أو خبرا، كان المربد كذلك منشرة للمحامد والمساوئ، مسرة الصديق وغيظ العدو، فكل من أراد أن يكبت خصما أو يحقر قبيلة أو يشهر محمدة طلب لها المربد يجعلها فيه؛ لتكون أشيع وأسير وأبلغ في الإرضاء والإغاظة، وقد كان المربد مسرحا لدعوات سياسية ودينية واستغاثات وشكوى ورثاء وفخر كما كانت عكاظ.
وأحفل ما كان المربد، في النصف الثاني لعهد الأمويين والثلث الأول لعهد العباسيين.
[1] المربد على وزن منبر, هذا هو المشهور، وكان الأخفش يقول: المربد كمسجد. انظر شرح مقصورة ابن دريد، الطبعة الثانية، مصر 1328هـ، ص41. هذا وللكوفة سوق تعرف بـ "الكناسة" ليس لها ذلك الشأن.
[2] الثعالبي: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، ص128.
[3] انظر كتابنا في أصول النحو، مطبعة الجامعة السورية سنة 1957م، ص8- 14.
[4] أبو علي القالي: الأمالي - شذور الأمالي - النوادر، ص182.
[5] المبرد: الكامل في اللغة والأدب، 1/ 159.
[6] ثم كان مسرحا لفتن قبلية, يذكر إحداها الفرزدق مفتخرا:
عشية سال المربدان كلاهما *** عجاجة موت بالسيوف الصوارم
والمربد واحد لا اثنان, وإنما أراد الفرزدق: المربد وما يليه مما جرى مجراه, والعرب تفعل هذا في الشيئين جريا في باب مجرى واحدا. المبرد: الكامل، طبعة ليدن، ص82.
[7] كان المربد مدرسة عملية تعلم الفصاحة, ويُهرع إليه طلابها من كل وجه ونبغ منهم عدد غير قليل, والنظام والجاحظ من مشهوريهم, فقد ذكر المؤرخون أن الثاني تلقف الفصاحة شفاها بالمربد، وأهل البصرة في الجملة من أفصح أهل الأمصار.
بل إن الجاحظ ليذهب أبعد من ذلك, فيزعم أنهم أفصح أهل الأمصار عامة، ولسنا نستطيع أن ننسب هذا منه إلى عصبية لبلده. جاء في كتابه البيان والتبيين (1/ 33): "قال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: "ليست لكم -معاشر أهل البصرة- لغة فصيحة، إنما الفصاحة لنا أهل مكة" فقال ابن مناذر: "أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن، وأكثرها له موافقة، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم: أنتم تسمون القدر: بُرمة، وتجمعون البرمة على برام، ونحن نقول: قدر ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، وأنتم تسمون البيت إذا كان فوق البيت علية، وتجمعون هذا الاسم على علالي ونحن نسميه غرفة ونجمعها على غرفات وغرف، وقال الله تبارك وتعالى: {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]، وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]، وأنتم تسمون الطلع: الكافور والإغريض، ونحن نسميه الطلع, وقال الله عز وجل: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 148]، "فعدَّ عشر كلمات, ولم أحفظ أنا منها إلا هذا".
[8] قلت: أقام الكوفيون "سوق كُناسة" بالكوفة؛ لتقوم لهم بما يقوم المربد للبصريين, فلم يفلحوا ولم تذكر سوقهم قط ولا قصدها مثل من يقصد البصرة من فصحاء العرب وخطبائهم وشعرائهم ورجازهم، بل كانت إلى إفساد اللغة أقرب. انظر كتابي: في أصول النحو، طبعة ثانية، ص190.