المساجد والمعلمون في صقلية الإسلامية
صقلية والصلات الثقافية
كانت صقلية تهتدي بالأنوار المنبعثة من القيروان، وكان لكل حادث أفريقي هام صدى فيها، وسر هذا ليس في أن صقلية قريبة في موقعها من شمال أفريقية فحسب، ولكن لأن أهل أفريقية هم الذين افتتحوها، ومن ثم ظلت العلاقات قائمة بين المهاجرين وإخوانهم في الوطن الأصلي، وزاد هذه العلائق توثقًا تجدُّد الهجرة من أفريقية إلى صقلية ورحلة الصقليين إلى القيروان في طلب العلم، وهي ظاهرة نراها موجودة حتى بعد أن أصبح لصقلية في النواحي العلمية اسم مذكور.
وفي أيام الكلبيين تمتعت صقلية بشيء من الاستقلال الذاتي مصحوب ببعض السيطرة العبيدية الفاطمية، وكان هذا الوضع السياسي ذا مظهرين: أما أولًا: فقد تبلورت في صقلية جهود علمية خاصة، وأصبح الجيل الناشئ من أبناء الفاتحين صقلي الروح والإنتاج، إلى حد ما، وأما ثانيًا: فقد أصبحت القاهرة تشارك القيروان في توجيه الحياة الثقافية في الجزيرة.
وفي هذه الفترة أعلنت بلرم (بالرمو Palermo عاصمة صقلية) عن وجودها الثقافي والعقلي، وأصبحت تذكر مع القاهرة والقيروان وقرطبة، وأضحى لها علماء وأدباء يهاجرون إلى الأندلس ومصر وشمال إفريقيا.
كثرة المساجد في صقلية
وفيما كتبه ابن حوقل عن صقلية ما ينقل إلينا شيئًا عن النشاط الثقافي فيها أثناء فترة معينة، فقد سجل هذا الرحالة حينما زار بلرم ظاهرتين كانتا متلازمتين تقريبا هما كثرة المساجد وكثرة المعلمين، فعرف أن في بلرم ما يزيد على مائتي مسجد، وقرر أنه لم ير مثل هذا العدد في بلد من البلدان الكبار ولا سمع به إلا فيما يتذاكره أهل قرطبة. قال: "ولقد كنت واقفًا ذات يوم بها في جوار دار أبي محمد القفصي الفقيه الوثائقي، فرأيت من مسجده في مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصري، ومنها شيء تجاه شيء وبينها طريق".
وعلة هذه الكثرة فيما استطاع أن يتعرفه من سؤال الناس: "أن القوم لشدة انتفاخ رؤوسهم كان يحب كل واحد منهم أن يكون له مسجد مقصور عليه، لا يحب أن يشركه فيه غير أهله وحاشيته، وربما كان أخوان منهم متلاصقة دارهما متصاقبة الحيطان، فعمل كل واحد منهما مسجداً لنفسه ليكون جلوسه فيه وحده".
وربما كان هذا التعليل الذي يقول به ابن حوقل صحيحا؛ لأن فيه ما يصور تلك الروح الفردية التي كانت تغلب على الحياة الإسلامية هنالك. غير أنا لا ننسى أن المسجد لازم استيطان المسلمين في كل بلد من بلدان صقلية، حتى كان القائد يبني المسجد والمنبر توًا إثر استيلائه على بلد أو حصن، وهي ظاهرة صاحبت الفتح الإسلامي في أقطار أخرى، ولكنها كانت في صقلية أشد وأعنف، لرسوخ المسيحية فيها عند الفتح، فالإكثار من بناء المساجد خير ما يقنع الجماعة الإسلامية بانتصارها على كل موروث صقلي، وخير ما يطمأن الأذهان إلى تثبيت الصبغة الإسلامية في تلك البلاد، وهي طمأنينة لازمة في بلد مجاور للعدو المتربص.
وثمة شيء آخر وهو أن ابن حوقل إنما دهش لكثرة المساجد في بلرم وحدها؛ لأنه لم يزر من صقلية بلدًا آخر فيما يظهر، وكانت بلرم يومئذ هي العاصمة ومجتمع أهل الأدب ومنتجع طلاب العلم من سائر أنحاء صقلية، فنشاط الحركة التعليمية فيها كان سبباً في الاستكثار من المساجد، وانضاف إلى هذا ما قاله ابن حوقل من التكاثر بها، وأصبح غرض كل واحد من بناء المسجد: "أن قال: مسجد فلان لا غير" [1].
التعليم والمعلمون في صقلية
في هذه المساجد وفي المكاتب كثر المعلمون، حتى كان منهم في بلرم ما لا يقل عن ثلاثمائة معلم، وفكرة ابن حوقل عن المعلم مستمدة من الصورة الساخرة التي رسمها الجاحظ، وهي فكرة وجدت سبيلها أيضًا إلى الأندلس حيث نجدها عند أبي عامر بن شهيد حين يقول في تصويره ثقافة المعلم: "وقوم من المعلمين بقرطبتنا ممن أتى على أجزاء من النحو وحفظ كلمات من اللغة، يحنون على أكباد غليظة وقلوب كقلوب البعران، ويرجعون إلى فطن حمئة وأذهان صدئة، سقطت إليهم كتب في البديع والنقد فهموا منها ما يفهمه القرد اليماني من الرقص والإيقاع" [2].
ويغلو ابن حوقل في حملته على المعلمين حتى ليراهم يمثلون الجنون والصرع، ويعتقد أن الناس أجمعوا على أن المعلم محكوم عليه بالنقص والجهل والخفة وقلة العقل، غير أن معلمي صقلية في نظرة يتفوقون في هذه الصفات على معلمي كل بلد.
ومما كثَّر المعلمون في صقلية: "فرارهم من الغزو ورغبتهم عن الجهاد، وذلك أن بلدهم ثغر من ثغور الروم وناحية تحاد العدو، والجهاد فيهم لم يزل قائما والنفير دائما مذ فتحت صقلية"، ولذلك لم يكن يعفى من الجهاد إلا المعلمون، أو من بذل الفدية عن نفسه، أو تخلف مع رابطة السلطان، فكان من السهل على من يخشى لقاء العدو أن يتخذ التعليم حرفة له، ولذلك نزع إلى التعليم بلههم وحسنه لديهم جهلهم".
هذه الكثرة في عدد المعلمين والمساجد والمكاتب تشير إلى نشاط تعليمي واسع، ومهما تكن الأسباب التي أدت إلى كثرة المعلمين، وما ذكره ابن حوقل لا يعدو الحق، فالذي لا شك فيه أن المعلم في هذا العصر كان شخصية طاغية الأثر في حياة الناس.
وكان أهل صقلية يخالفون ابن حوقل في نظرتهم إلى المعلمين، كانوا يرون أنهم: "أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم ومحصلوها وأرباب فتاويهم وعدولهم، وبهم عندهم يقوم الحلال والحرام وتعقد الأحكام وتنفذ الشهادات وهم الأدباء والخطباء".
وقد رأى ابن حوقل من هؤلاء المعلمين من يتولى خطبة الجمعة، وعرف منهم العدول، وسمى من توصل من بينهم إلى منصب القضاء، فكان هؤلاء المعلمون هم الذين يوجهون الرأى العام في أمور الدين والدنيا، ولعل تدخلهم في الأمور السياسية هو الذي جعل ابن حوقل يصب عليهم نقمته المريرة، ويرميهم بكل نوع من أنواع الخسة والنذالة، دل على ذلك قوله فيهم: "حتى إنهم المتكلمون على السلطان في سيره واختياراته، والإطلاق بالقبائح من ألسنتهم بمعايبه وإضافة محاسنه إلى مقابحه".
فمن هو السلطان الذي يعنيه ابن حوقل؟ أهو حاكم صقلية أم الخليفة الفاطمي؟ سواء أكان هذا أم ذاك ففي كلمات ابن حوقل دلالة على المقاومة التي كان يقودها جماعة المعلمين في وجه المذهب الشيعي.
رواتب المعلمين في صقلية
ويفهم مما ذكره ابن حوقل أن حرفة التعليم لم تكن تدر خيرًا كثيرًا على أصحابها، حتى كان فيهم من لا يصيب من طلابه على كثرتهم أكثر من عشرة دنانير في السنة. ويريد ابن حوقل أن يثبت منذ ذلك أن المعلم قد قنع باليسير هربًا من الجهاد، وأن الهرب من الجهاد نقص في الرجولة والمروءة، ولكن ابن حوقل نفسه يتحدث في مكان آخر عن فقر أهل صقلية، على كثرة خيراتها، وأنه ليس فيهم رجل تملك بدرة عين ولا رآها قط إلا عند سلطان إن كان ممن يدخل إليه ومحله من يؤذن له عليه.
وهذا الفقر العام يفسر قلة ما كان يحصله المعلم، فإذا أضفت إلى الفقر كثرة المتنافسين في صنعة واحدة عرفت سر الضآلة في المحصول. ولقد كان عبد الحق الفقيه إمامًا من أئمة صقلية لا مدرسًا في كتاب، ومع ذلك فلم يجد بيده من المال ما يشتري به كتابًا، واضطر أن يبيع بعض ما يملك في سبيل شرائه. وربما كان النقد في أيدي الناس قليلا لتعاملهم بالمقايضة والبدل، وهذا يجعلنا نظن أن المعلمين لم يكونوا يأخذون أجرهم نقدًا دائمًا، وإنما كان يصلهم من طلابهم محاصيل متنوعة على طريق الجر أو الهدية.
ومع كل ذلك فقد كان يزاول مهنة التدريس كثير من أعيان البلاد، ويتخرج في المدارس كثير من أولاد السراة.
الكتاتيب في صقلية
وقد أطلعنا ابن حوقل على صورة راقية من صور الكتاب، حين حدثنا عن واحد منها لم يكن ينفرد بالتعليم فيه معلم واحد، بل يدرس فيه خمسة معلمين لهم من بينهم رئيس هو مدير الكتاب [3].
ولم تعجب هذه الصورة ابن حوقل ووصفها بأنها: من أرث ما رآه في صقلية وأغثه، وتهكم بأشخاص المعلمين فيه، وأزرى على خلقهم، وضحك من بكائهم على أحدهم حينما مات وخرج زملاؤه يشيعونه.
وفي هذه المكاتب وفي حلقات الشيوخ بالمساجد كان الصقلي يتلقى علومه الأولى، فإذا نزعت به في مستقبل حياته نزعة علمية، غادر صقلية إلى المشرق فدرس على أساتذة مشهورين، ورجع يحمل إجازات كثيرة، أو كاتب هؤلاء الأساتذة دون أن يرحل، واستجازهم كتبهم، أو طمح إلى زيارة الكعبة فالتقى في رحلته بالشيوخ المشهورين، فسمع منهم وتلقى عنهم، وعاد إلى بلده، فزادت الرحلة من مكانته، واعتقد الناس أنه قد أصبح عَلَمًا يقصد لعلمه. وكانت مصر مهبط كثير من هؤلاء الراحلين في طلب العلم لعلاقتها بصقلية، ولنشاطها العلمي، ولأنها على الطريق إلى الحجاز.
وإذا استأنسنا بما رواه المازري عن نفسه في تأليف كتاب "المعلم"، قدرنا أن المدرسين كانوا يلقون العلم إلى الطلبة إملاء، وأن الطلبة كانوا يدونون ما يلقى إليهم من محاضرات، ثم يكون من بعد ذلك كتاب ينتشر باسم الأستاذ الذي أملاه [4].
وقد أشار ابن حوقل إلى أن صبيان المكتب كانوا كثيرين [5]. وتحدثنا إحدى الروايات الموسومة بشيء من التفصيل أن عدد الطلبة كان يصل أحيانًا إلى ثمانين طالبًا في الحلقة الواحدة، وأن هذا العدد كان يضم طلبة من بلدان مختلفة [6]، وهو عدد ضئيل إذا قارناه بما روى عن مجالس بعض الأعلام كالجويني، فقد كان يجلس في حلقة درسه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة [7].
ولم تكن علاقة التلميذ بأستاذه دائما نوعًا من العرفان بالجميل، فقد كان الطالب أحيانًا ينشق على أستاذه، وينبه على أوهامه، ويعيب عليه بعض آرائه، أو يسيء الأدب معه ويتتبع سقطاته [8].