القضاء والقضاة في صقلية الإسلامية
منزلة القاضي في صقلية
كان القاضي أكبر شخصية في جزيرة صقلية بعد الوالي، وانفصل القضاء عن الإمارة منذ أول الأمر، ولقضاة صقلية في العهد الأول صورة واضحة قائمة على المثالية والصدوف عن متاع الدنيا فالقاضي رجل زاهد، أو إن شئت فقل: إنه يختار عمدًا من بين الزاهدين الذين صدقت ظواهرهم وبواطنهم، أو من الفقهاء الصالحين كابن أبي محرز وميمون بن عمرو وسليمان بن سالم الكندي.
وكثيرًا ما كان القاضي يجمع بين القضاء والتدريس، وكان بعض المتعففين لا يتقاضى راتبًا فقد خرج أبو عمرو ميمون بن عمرو المعلوم من سوسة للقضاء بصقلية، فلم يخرج معه إلا كساء وفروة وخرج فيه كتبه وجارية سوداء تخدمه ومعها جبة وكساء، وكانت السوداء تغزل وتبيع غزلها وتنفق عليه من فضل ذلك.
ولما مرض ميمون بن عمرو ودخل عليه الناس يعودونه وجدوا كل ما لديه من أثاث وسادتين محشوتين تبنا وحصيرة من البردي، وعاد إلى سوسة بما خرج به منها ولم يزد عليه شيئًا. ومن أمثلة هؤلاء القضاة المتقشفين سليمان بن سالم الكندي وكان يقضي ويدرس، ونقرأ أنه لما مات لم يوجد له مال، وهذه إشارة قد يفهم منها أنه كان يتقاضى راتبًا.
وقد لحظنا من قبل أن القاضي كان يجيء صقلية من الخارج وظل ذلك كذلك مدة طويلة في أيام الدولة العبيدية الفاطمية، وفي أيام الخليفة الحاكم بأمر الله أضيف إلى قاضي القضاة بمصر أحكام صقلية مع بلدان غيرها [1].
وصف ابن حوقل للقضاة الصقليين
ولا نسمع عن قاض من صقلية نفسها إلا في أيام ابن حوقل، ونحن مدينون له بمعرفة قاض ورع من صف القضاة الأولين ليس له في المصادر الأخرى ذكر، وذلك هو عثمان بن الخزاز، وقد أراد ابن حوقل -كما هي طريقته في الذم- أن ينفذ إلى الحط من الجماعة الصقلية في حديثة عن القضاء فيها.
فصور لنا القضاء في حال انحطاط حين انحدر إلى أيد صقلية، فالقاضي ممن له سابقة في قبض الرشا، والشهود الصقليون يستسهلون شهادة الزور حتى إن ابن الخزاز لم يكن يقبل شهاداتهم: "وصارت أكثر أحكامه جارية على الصلح، وشك فيهم، فلم تثنه إليهم رغبة ولا رهبة، إلى أن هلك بينهم وحضرته المنية، فقال ليس بجميع البلد من يوصي إليه، ودفع ديوانه إلى رجل كان بها من الغرباء يعرف بالغضائري من أهل القيروان وكان يزكيه".
أما ابن الماجلي القاضي الصقلي الأصل فهو في نظره معلم برقجاني، لم يكن ممن يستحق تولي القضاء وله فصول فيه مضحكة، وكثيرًا ما كان يمد يده إلى الخصوم بالضرب.
وربما استنتجنا من هذا أن صقلية كانت قد سئمت استقدام القضاة من الخارج وأخذت تشعر أنها مسلوبة السلطان فنزعت إلى أن تعهد بالقضاء لأناس منها، كما أنفت مصر ذات يوم أن يكون قاضيها غريبًا عنها [2]، حين شاءت الدولة العباسية أن تعاملها بقريب من معاملة العبيديين الفاطميين لصقلية.
وكان للقضاء كتبة ودار خاصة في بلرم (بالرمو Palermo عاصمة صقلية) منذ عهد مبكر، ونسمع أن ميمون بن عمرو لما وصل المدينة قيل له: هذه دار القضاء تنزل فيها، فقال: "هذه دار عظماء إيش أعمل فيها"، فنزل في دويرة لطيفة [3].
من قضاة صقلية
وقد جمعت أسماء أربعة عشر من قضاة صقلية، هم:
أسد بن الفرات (213هـ)، ابن أبي محرز (221هـ)، سليمان بن سالم (289هـ)، محمد بن محمد خالد القيسي الطراطري (آخر دولة الأغالبة)، أبو القاسم الطرزي كان موجودًا في أول ظهور المهدي وقد أهانه بالضرب، والطرزي بقي قاضيًا في صقلية مدة عشر سنين، إسحق بن المنهال وهو أول قاض أرسله المهدي لصقلية.
ابن الخامي قاضي ابن قرهب، أبو عمرو ميمون بن عمرو (316هـ)، محمد بن أبي صبيح (334هـ) وقد حمل معه الملح إليها تورعًا، عثمان بن الخزاز، إسحاق الماجلي (كان في القضاء سنة 362هـ)، أبو إسحاق إبراهيم بن مالك المعافري (كان في القضاء سنة 375هـ)، أبو الفضل الحسن بن إبراهيم الشامي الكناني (في القرن الخامس الهجري)، محمد بن قاسم بن زيد اللخمي الكاتب القاضي في أيام أمراء الطوائف، عاصر ابن الحواس ومدحه، وليس هناك ما يؤيد أنه زاول القضاء وربما كانت لفظة القاضي لقبًا[4].