تاريخ التبادل الثقافي والحضاري بين الهند والعرب
إن الهنود والعرب قد أثّر الشعب الواحد منهما في الآخر عبر التاريخ في مجالات الحياة المختلفة (الاجتماعية والفكرية). على هذا فقد نتجت عن ذلك صور معينة للشعب الأوّل وانعكست على الآخر.
العرب والهند .. رؤية كل منهما الآخر
فالصورة التي كانت عند العرب للهند هي صورة احترام وإكبار، لما كان عند الهنود من فلسفة وعلوم وآداب، ولما كانوا يتصفون به من ذكاء وحصافة وحكمة، ولما كان لهم من فضل كبير في تقدم الحضارة. ومن جهة أخرى فإن العرب كانوا يرونهم في الفرق والنحل الدينية والتقسيم الاجتماعي (الطبقات)، أمور لا تليق بالشعب العربي. وقد أوجد العرب وحضارتهم واتساع نطاق تفكيرهم وتسامحهم الديني وعنايتهم بالعدل صورة طيبة في نفوس الهند.
العلاقات السياسية بين العرب والهند
وفي مجال السياسة كانت العلاقات على العموم ودية وسليمة، باستثناء الحملات العربية على شمال غرب الهند في الفترة المبكرة من تاريخ الإسلام، وقد منح العرب الذين استقروا في الهند حرية دينية وإدارية تامة وحتى السلطة من قبل بعض الحكام الهنود. والتجار العرب الذين كانوا يزورون جنوب الهند والمناطق الساحلية كانوا موضع ترحيب، قدَّموا التسهيلات الكثيرة للتجارة والعبادة.
التأثير الإسلامي الديني في الهند
ودخل الإسلام إلى الهند عن طريق السند وملتان، وكان ذلك حينما قدمت إليها الجيوش الإسلامية العربية يقودها شاب لم يتجاوز عمره سبعة عشر عاما وهو عماد الدين محمد بن القاسم، فقد تقدمت جيوش هذا البطل العربي المسلم بطريق شيراز ومكرن سنة 94 من الهجرة (711م). وكانت هذه أول علاقة بين الهند والعرب بعد ظهور الإسلام.
والهند تعتز بحضارة أصيلة عربية في القدم، وفلسفة عميقة، وعلوم رياضية دقيقة، وخيرات لم يكن تأثيرها بعيد المدى، وبعد ذلك مرت الهند بتقلبات عديدة إبان الحكم الإسلامي بالهند. والمسلمون حملوا معهم محصول عقول كبيرة كثيرة، ونتاج حضارات متنوعة متعددة، يجمعون بين سلامة ذوق العرب ولطافة حس الفرس وفروسية الترك. وكانوا يحملون للهند وأهلها غرائب كثيرة وطرفا غالية، وكان أغرب ما كانوا يحملون في الدين، توحيد الإسلام النقي، الذي لا يرى الوساطة بين العبد وربه في العبادة والدعاء. فكان أعجب ما حمله المسلمون معهم هي المساواة الإنسانية التي لم يكن للهند عهد بها، فلا عند المسلمين نظام طبقات ولا منبوذ ولا نجس بالولادة ولا جاهل يحرم عليه التعليم، ولا تقسيم على أساس الحرف والصناعة، يعيشون معا ويأكلون معا، ويتعلمون سواء، ويختارون ما يشاءون من الحرف والصناعة.
وقد كانت صدمة عنيفة للذهن الهندي والمجتمع الهندي، وقد قرر هذه الحقيقة التاريخية جوهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند سابقا إذ قال: "إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شمال غرب الهند ودخول الإسلام، له أهمية كبيرة في تاريخ الهند، إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي، إنه قد أظهر انقسام الطبقات ولمس المنبوذ وحب الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند، إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها ويعيشون فيها أثرت في أذهان الهندوس تأثيرا عميقا، وكان أكثر خضوعا لهذا التأثير البؤساء الذين حرم عليهم المجتمع الهندوكي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية" [1].
احترم العرب المسلمون المرأة واعترفوا بحقوقها وكرامتها، كعضو محترم من أعضاء الأسرة الإنسانية وشقيقة الرجل، ولكن في الهند كانت السيدات يحرقن أنفسهن بالنار على وفاة أزواجهن، ولا يرين ولا يرى المجتمع لهن حقا في الحياة بعد الأزواج. ويقول السيد غلام على آزاد البلكرامي: "إن المرأة في دينهم لا تنكح إلا زوجا واحدا فحظّ عيشها منوّط بحياة الزوج، وإذا مات فالأولى في دينهم أن تحرق نفسها بعد، فإنهم يحرقون موتاهم. والمرأة التي تعرّض نفسها مع زوجها على النار يسمونها (ستي) نسبة إلى (السَّتة بفتح السين المهملة وتشديد الفوقانية وهو العفاف وياء النسبة عندهم ساكنة" [2].
صور من الأثير في العربي في الحضارة الهندية
وكذلك نقلوا إلى الهند علوما جديدة، ومنها علم التاريخ. فقد كانت الهند فقيرة في التاريخ، وليس في مكتبتها كتاب تاريخ بالمعنى الصحيح، إنما هنالك صحف دينية أو ملامح مقصورة على حروب، أما المسلمون فقد كونوا في التاريخ مكتبة هائلة من أوسع المكتبات التاريخية في العالم.
وقد اكتسبت الهند من المسلمين بصفة عامة توسعا في الخيال وجدة في التفكير ومعاني جديدة في الأدب والشعر. وكان تأثير المسلمين في المدنية والصناعة وأساليب الحياة أبرز وأقوى منه في نواح أخرى، فقد أدخلوا في هذه البلاد حياة جديدة تختلف عن الحياة القديمة في هذا القطر؛ بنوا مصانع كثيرة للنسج والوشي والتطريز والنحت، ومصنوعات العاج والمنسوجات الحريرية وصناعة الورق. وأنشأوا الحدائق والبساتين وحفروا الآبار والعيون، وأسسوا المستشفيات والمؤسسات الخيرية والمشاريع المدنيّة.
وبالإضافة إلى هذا، فقد كان مما أدخله المسلمون العرب ونقلوه إلى الهند النظافة والأناقة، والاحتفاظ بأصول الصحة، وتهوية البيوت وتنويرها والتأنق في الأواني، وقد أحدث المسلمون انقلابا عظيما في المجتمع وفي الحياة المنزلية وفي نظام تأثيث البيوت، وكان عندهم من العوائد الهدية بالزهور والرياحين يتهادونها أيام المواسم والأعياد.
فن الموسيقي عندهم فن أصيل عريق، اكتسب أصالته من صدق العاطفة وعراقته من سماحة الفطرة، ولا يزدهر فن الموسيقي أو الغناء إلا حيث صفاء النفس ونقاء السريرة ورفاهة الحس. بدأت الموسيقى عندهم بالدف والمزهر والمزمار. وكانت القبيلة التي يظهر فيها مغن أو موسيقي تتقاطر عليها شتى القبائل للتهنئة . فتقام الولائم وتضرب المزاهر وتدق الطبول احتفاء بالوفود المهنئة وتعيش القبيلة مع ضيوفها المهنئين ليالي عدة في أفراح متتالية . وكان لفلاسفة العرب المرموقين الدور الكبير في إرساءهم فن الموسيقى حتى أنهم وضعوا له القوانين والأسس التي يسير عليها هذا الفن إلى اليوم وأدخلوا الآلات الموسيقية لأول مرة في تاريخ فن الموسيقي .
ومن مظاهر تأثير العرب في ثقافة الهند وحضارتها تأثير اللغة العربية التي تخصهم والتي حملوها إلى هذه البلاد في لغات الهند ولهجاتها وأدبها وحضارتها. وغزت الثقافة الهندية وحضارتها حتى امتزجت بلحمها ودمها وأصبحت جزءا من أجزاءها . وقامت في الهند مدرسة حضارية فكرية علمية ذات شخصية خاصة وطابع خاص أنجبت عددا كبيرا من النوابغ، وأئمة الفنون الإسلامية وأصحاب الإبداع والابتكار، والأصالة العلمية.
كانوا أصحاب مدارس خاصة وفاتحي آفاق جديدة، ليس في العلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه والعقائد فحسب، بل في علوم اللغة والآداب العربية، عدت كتبهم من المراجع الرئيسية في العلوم، بعضها فريد لا نظير له في المكتبة الإسلامية العالمية. إن دراسة اللغة والأدب العربي والعلوم الإسلامية التقليدية والعلوم العقلية التي جاءت من التراث العربي أنجبت كمية كبيرة من الأدب العربي في الهند. وقد استخدم أهل مليبار في جنوب الهند الخط العربي لكتابة "المالايالم" لغتهم المحلية. وقد وضعت فيها مؤلفات متعددة تعالج شتى المواضيع ولا تزال موجودة حتى الآن. والمسلم المليباري ينطق العربية كما ينطقها العربي تماما.
واستوطن التجّار العرب سواحل كيرلا للتجارة والدعوة الإسلاميّة وتزوّجوا من نسائها. وهم الذين أطلقوا على هذه البقعة اسم "مليبار"؛ وكانت مكتظة بسكّان متديّنين بأديان مختلفة؛ وكان الهندوكيون أجناسا شتّى يختلف بعضها عن الآخر في العقائد والتقاليد والعبادات. وهذه الطبقات استوطنتها في القرون المختلفة قديما، ولمّا دخلت فيها الأديان الأخرى مثل اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام اعتنقوها. والهندوكيّون اعتنقوا دين الإسلام في عصور مختلفة وامتزجت ثقافتهم وحضارتهم بتقاليد العرب وعاداتهم، واستقبلوا العرب ودين الإسلام استقبالا حارّا، فتراث مسلمي كيرلا عربيّ خالص. والبراهمة من الطبقات الهندوكيّة؛ يرى بعض المؤرّخين أنهم أتباع إبراهيم عليه السلام وكلمة "البراهمة" تمّ اشتقاقها من إبراهيم عليه السلام. والبراهمة يلبسون خيطا يتقلّدون به كحمالة السيف وهذه عادة تشبه ارتداء المسلمين بثوب الإحرام إذا أحرموا للحجّ الذي أذَّن به إبراهيم عليه السلام. وبعض المؤرّخين على رأي أن "البراهمة" أقبلوا على كيرلا للتجارة واستوطنوها منذ القدم.
وكنتيجة طبيعيّة لهذه العلاقات تسارع انتشار اللغة العربيّة ورواجها، وتوغّلت فيها جذورها وترعرعت في تربتها الخصبة. إن العلاقة الودّيّة بين أهل مليبار والتجّار العرب فتحت آفاقا جديدة لتبادل الأفكار والخواطر وإيجاد التفاهم بين الثقافات واللغات. واعتبرت اللغة العربيّة قبل قدوم الإسلام لغة للتبادل التجاري بين الشعبين ونالت قبولا حسنا. دخل الناس في الدين الجديد أفواجا، ولجأوا إلى واحة الحرّيّة والمساواة في الإسلام من دينهم الذي يقسّمهم على فئات وطبقات، وقد كانت دراسات اللغة العربيّة، لغة القرآن، عند الأقدمين مرتبطة بالعامل الدّيني، فشرع الإسلام يسير مع اللغة والثقافة العربيّة جنبا إلى جنب منذ بزوغ قمر الإسلام في ديار مليبار. ومنذ بدأ الأهالي يدخلون إلى حظيرة الإسلام، وجدت اللغة العربيّة مجالا واسعا حيث كانوا يمارسون مناسك دينهم ويقرءون القرآن.
ومما امتدح به الهنود عامة هو إقامتهم للعدل وإعادة الحقوق إلى الأشخاص المنكوبين. وعلى ما رواه القاضي الأندلسي فإن الهند هي منبع العدل. ويقول القاضي رشيد بن زبير أن الهنود يحبون العدل والعدالة -وأن هذا من صفاتهم الخاصة، يزخر الأدب العربي المتحدر إلينا من العصور الوسطى بالحديث الممتع عن حكمة الهنود وحصافتهم. فالهنود من أقدم الأجناس البشرية على سطح الأرض، ويعتبرهم المسعودي واحدا من الأجناس السبعة العظيمة على سطح الأرض.
وقد نقل الشهرستاني أن بعض أهل العلم قسّم سكان العالم إلى أربعة أجناس: العرب، والفرس، واليونان، والهنود، ثم قابل بين العرب والهنود وقال إنهم متقاربون في العبادات، وهم حريصون على التثبت من خصائص الأشياء والحكم على أصولها وحقائقها، وفي الاعتماد على الوسائل الروحية، يبدو فيها الذكاء والظرف والأناقة والثقافة. والاحترام البالغ للوالدين ومبادئ الأدب والحياة الخاصة أمامها، ومبالغة النساء في التستر، والقوانين الخاصة لحياتهن، هذه خصائصهم، يجهل كثيرا منها مسلمو الدول الأخرى، وهي من معطيات شئون الهند الخاصة ومصالح الطبقة الحاكمة وتأثيرات الهند القديمة بصورة عامة.
الحرص على المصاهرة من نفس الأسرة وذوي أنسابهم وأكفائهم، وعدم خروجهم عن نطاق الأسرة الخاصة ومعاييرها من ميزات الحضارة الإسلامية في الهند، أثرت فيها كثيرا العادات الهندية والتمايز بين الأسر والسلالة والقبائل بصورة دائمة، والمسلمون في خارج الهند الذين لا يهتمون في العلاقات العائلية إلا بالشرف والمنزلة ولا يلتزمون بالتزوج من نفس الأسرة والعشيرة ينظرون إلى المسلمين في الهند بنظرة يملؤها الإعجاب والدهشة ويرونها ميزة الهند، إن الاعتناء المفرط بمواسم الزواج والحزن، والاحتفالات، والإنفاق في مناسبات وأعياد فوق الطاقة، والحشمة والبذخ تعد كذلك من خصائص الحضارة الهندية والمجتمع الهندي، تأثر بها المسلمون في هذه البلاد، رغم أن المنهج الإسلامي يقتضي بالبساطة في مثل هذه الأمور.
التأثير الهندي في الثقافة العربية
كانت علوم الهند وفنونهم القديمة منها والتي ظهرت في العصور الوسطى، معروفة لدى معاصريهم من العرب المتعلمين، وذلك عن طريق ترجمة الكتب الهندية إلى العربية أو عن طريق وصفها في الكتب العربية التي تعني بتاريخ العلم . ثمة إشارات مبعثرة في الكتب العربية الأدبية وغيرها من تلك الفترة التي تلقي الضوء على الاطلاع للفنون الهندية الجميلة التي أنتجت في العصور الوسطى، وثمة إشارات في الأدب العربي إلى الموسيقى الهندية والآلات الموسيقية الهندية التي عرفها العرب.
يقول الدكتور سيد مقبول أحمد: "ويوجد اليوم تعاون وثيق بين الهند وعدد من الدول العربية في الحقول التربوية والفنية . ثمة عدد من المعلمين والطلاب والفنيين الهنود في كثير من الأقطار العربية مثل مصر والعراق والمملكة العربية السعودية وليبيا والكويت وغيرها. ومثل ذلك فإن عددا من الطلاب العرب يدرسون في الجامعات الهنديّة. وهذا بحد ذاته دليل على رغبة نامية في اتجاه التعاون العلمي والفني. والعالم العربي رقعة واسعة تمتد من المغرب غربا إلى العراق شرقا، ونحن في الهند نعرف الشيء القليل عن المغرب أو تونس أو الجزائر أو ليبيا بالرغم من أنه، في حقيقة الأمر ثمة تشابه بين عدد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها تلك البلاد وتلك التي نواجهها نحن، وإذن فإنه من الضروري لنا أن نتعرف بالأساليب التي يتبعونها في حل مشاكلهم كما أنه ضروري لهم أن يتعرفوا بالوسائل التي نتبعها نحن في حل مشاكلنا.والسبيل الوحيد الواضح لتحقيق ذلك هو أن يكون بيننا من التبادل الثقافي أكثر مما يمكن إقامته وأن تنقل الآثار العربية الحديثة التي تعالج الحياة العربية إلى الهندية أو غيرها من اللغات الهندية، وأن تنقل المؤلفات والكتابات الهندية إلى العربية. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن لنا بواسطتها أن نعكس التراث الهندي والثقافة الهندية الحديثة على العالم العربي، والتي يمكن لهم بواسطتها أن يعكسوا ما عندهم علينا . أما الثقافة العربية فلا يزال الشعب الهندي متمسكا بها ومحافظا عليها ومنتجا فيها. وتدل الآثار والقرائن تكوّن مدرسة أدبية خاصة فيها، في الأدب العربي والكتابة الإسلامية، تجمع بين البراعة الأدبية والإشراف الروحي، والإيمان العميق والدعوة الصريحة القوية" [3].
ونفحت الهند وتراثها الحضاري والتمدني للمسلمين بهدايا ثمينة، لا تنفك عن الحضارة الإسلامية الهندية وإنها ملك تفتخر به ولا نجد نظيرا في الدول الإسلامية الأخرى. وهي مقاومة مسلمي الهندي لتيارات الحضارات الغربية، وصمودهم في وجه غزوها العدواني بنجاح وقوة وحفظهم لكيانهم وشخصيتهم الممتازة، وتفكيرهم العميق وتصوفهم، وكل ذلك نتيجة مختلف العوامل الاجتماعية والفكرية والحضارية التي ظلت تستمر جذورها في هذه البلاد منذ قرون، فوضعوا أساسا لحضارة هندية إسلامية بديعة، وأوجدوا طبيعة كانت عصارة الحضارة الإسلامية العالمية والحضارة الهندية وفلسفتها في وقت واحد، فإن الحياة الإنسانية تعترف بالمبادئ النبيلة للأخذ والعطاء، وفي ذلك يكمن سر تقدمها وارتقاءها وسعتها وتنوعها.