خلق الأمانة
الأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، وهي ترمز إلى معانٍ شتَّى مناطها جميعًا شعور المرء بتبعيَّته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربِّه؛ لذلك قال: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"[1].
وإذا كان بعض العوامِّ يقصرون الأمانة في أضيق معانيها، وهو "حفظ الودائع"؛ وهي بذلك تعني الضمير اليقظ الذي تُصان به الحقوق، وتُؤَدَّى به الواجبات على أحسن وجه، وبضياع الأمانة يضيع الدين؛ فإنه "لاَ دِينَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ"[2].
وعند حديثنا عن أمانة الولاة الذين يُناط بهم تسيير أمور الناس على أحسن الوجوه، فإن الإسلام يُقَرِّر حقيقة مهمَّة، وهي أنه ينبغي ألاَّ يُسْنَد منصب إلاَّ لمن هو حقيق به، ولا تملأ وظيفة إلاَّ بمن ترفعُه كفاءتُه إليها، ولا يصحُّ أن يميل أحد عن هذا الأمر لهوًى، أو رشوة، أو قرابة؛ فتكون الخيانة الفادحة، وهذا أبو ذَرٍّ عندما طلب من الرسول أن يستعمله رفض ذلك، وقال له: "إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ"[3].
والأُمَّة التي لا أمانة فيها هي الأُمَّة التي تعبث فيها الشفاعاتُ بالمصالح المقرَّرة، وتطيش بأقدار الرجال الأكْفَاء؛ لتهملهم وتُقَدِّم مَنْ دونهم.. وقد قال : "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"[4].
وعلى المرء أن يحرص على أداء واجبه كاملاً في العمل الذي يُناط به، وأن يستنفذ جهده في تجويده؛ فإنَّ استهانة الفرد بما كُلِّفَ به -وإن كان بسيطًا- تستتبع شيوع التفريط في حياة الأُمَّة كلِّها؛ ومن ثَمَّ استشراء الفساد، فليس أعظم خيانة ولا أسوأ عاقبة من رجل تولَّى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعها. وعلى الإنسان أيضًا ألاَّ يستغل منصبه في منفعة شخصيَّة؛ فإن التربُّح من المال العامِّ جريمة نكراء، وهو اكتساب للسُّحْتِ، واختلاس لمال الجماعة، الذي يُنْفَقُ على الفقراء والضعفاء، قال : "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ"[5].
ونِعَمُ الله الكثيرة من المال والصحة والولد أماناتٌ يجب أن تُستخدَم في مرضاة الله، وأن يُقابِل صاحبُها بالرضا والقبول والصبر إن أراد أن يستردها في أي وقتٍ شاء؛ فهو امتحان للعبد، وإن بقيت تلك النعم فهو اختبار؛ هل يشكر الإنسان أم يكفر!!
وعلى المرء ألاَّ يُفْشِيَ سرًّا، أو يسردَ خبرًا استأمنه عليه صاحبُه، قال: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ"[6]؛ إلاَّ أن يؤَدِّيَ هذا الحفظ للسرِّ إلى ضرر أو فساد؛ فيجب الحذر إذن. وفي العَلاقات الزوجية كذلك حرَّم الإسلام إشاعة ما يَحْدُثُ بين الزوجين من عَلاقة خاصَّة، فلا يُطْلَع على ذلك أحدٌ أيًّا كان؛ لذلك قال: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا"[7].
وكذلك الودائع -التي تُدفع إلينا لنحفظها حينًا ثم نردُّها إلى ذويها حين يطلبونها- من الأمانات التي نُسْأل عنها، واعتبارها غنيمة باردة هو ضربٌ من السرقة الفاجرة.
إن الأمانة فضيلة ضخمة لا يستطيع حملها الرجال المهازيل[8]، بل إنها تُثقِل كاهل الوجود كله، ومن ثَمّ فلا ينبغي لإنسان أن يستهين بها، أو يُفْرِط في حقِّها، {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72].