لماذا يستهدف التاريخ الإسلامي؟
إن المتتبع للكتابات في الصحف والمجلات في هذه الأيام، والمتتبع للندوات الثقافية والسجالات العامة والخاصة، لا بد أن يلاحظ أن بين هؤلاء فئة تدَّعي لنفسها شيئًا تسمِّيه (التجديد)، والمقصود التجديد في التراث والتاريخ. ومصطلح التجديد له وقع حسن وله صدى مقبول، ولكن التجديد عند هؤلاء لا يعني إلا شيئًا واحدًا يلازمهم ويلازمونه، ألا وهو تحطيم التراث؛ وذلك لإظهار العصرنة والحيادية -كما يزعمون- وهي حيادية ممجوجة، كما لا يخفى أثر الشعوبية الحاقدة والتي تعمل من وراء الستار، وبما أن هذا التحطيم لا بد أن يكون صعبًا، إذن فليبدءوا بالتاريخ فهو أسهل الأمرين، وأحرى أن يصدق الناس ما يثيرونه من شكوك وشبهات وخاصة أصحاب العقول الضعيفة[1].
لا نستطيع في هذه العجالة أن نبين لهؤلاء الطاعنين كل تفاصيل تاريخ المسلمين، بحلوه ومره، وصعوده وهبوطه، والجانب السياسي والجانب الحضاري، وما فيه من نشر الإسلام ونشر العدل والرحمة للشعوب التي وصلها الإسلام، فهذا شيء يطول ويحتاج إلى مجلدات، ولكن نقول لهؤلاء من ناحية المنطق وبديهيات الأمور: هل يعقل أن تنشأ حضارة وتمتد لتغطي أكثر المعمورة يومها، وتستمر حتى اليوم وإلى أن تقوم الساعة، أن تكون نتاج أمة ممزقة غارقة في الدماء كما يحاولون تصويرها؟! وهل يمكن أن تستمر أمة رغم ما أصابها من ويلات ودمار من أعدائها إذا لم تكن تستند إلى دين وخلق ومدنية؟ هل الإسلام لم يطبق إلا زمن الخلفاء الراشدين كما يقولون، وكأن الدول الكبار: الأموية والعباسية والعثمانية لم تقم فيها شريقة ولم يكن فيها حضارة على أساس الدين؟ هل ننسف تاريخا بأكمله، تاريخًا يموج بأحداث كبار، وانتصارات دعوية وعلمية؟
لقد قبل المسلمون بهذه الدول كبيرها وصغيرها؛ لأنها حافظت على الحد الأدنى المطلوب لشرعيتها، رغم وقوع الظلم وأكل الأموال بغير حق عند بعض حكامها، ورغم الاستبداد السياسي الذي أضعف هذه الدول، ولا نبرِّر هذه الأخطاء، بل تذكر كما هي بعد التحقيق العلمي؛ ليعتبر من يعتبر.. ولكن رغم هذه الأجواء الملبدة بالغيوم كان هناك أمراء وملوك صالحون مجاهدون، أهل علم وتقوى، كان هذا في الأندلس وفي زمن دول الطوائف، وكان ذلك في الدول الكبيرة كالمرابطين والموحدين. هناك تشويه متعمد لهذا التاريخ، وذلك "بالتعميم الجائر الظالم الذي يلقي ظلاًّ كثيفًا قاتمًا كئيبًا على العصور الأولى، يدفع إلى الاستخفاف والتحقير والغلو في التهزؤ بأهل هذه العصور والشك في أمورهم، ويعمي عن معرفة الحقائق"[2].
واللافت للنظر بعد الهجوم على التاريخ الإسلامي كله أن هناك تركيزًا على دولة بني أمية في دمشق، وهي دولة إسلامية لها وعليها، فيها ملوك صالحون، وفتوحات كبيرة بلغت الأندلس والصين. وفيها أمراء وقادة للجيوش، فهذا قتيبة بن مسلم الباهلي القائد المجاهد زمن الوليد بن عبد الملك يخطب في الناس ويقول لهم: "إن الله قد أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذبُّ بكم عن الحرمات، ويزيد لكم المال استفاضة والعدو قمعًا، ووعد نبيّه النصر بحديث صادق وكتاب ناطق {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، ووعد المجاهدين أحسن الثواب، فتنجزوا موعود ربكم، ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم، وإياي والهُوَينى".
وهذا أشرس بن عبد الله السلمي عامل هشام بن عبد الملك على خراسان أرسل لأول عهده إلى أهل سمرقند وما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس هناك إلى الإسلام، وحين كتب إليه أمير سمرقند أنهم لم يسلموا إلا تعوذًا من الجزية قال له: "من أقام الفرائض وقرأ سورة من القرآن، فارفع خراجه...".
يقول الشيخ رشيد رضا منتقدًا ومنصفًا لبني أمية وبني العباس: "خرج بنو أمية بالخلافة عن حدها، وبعدوا بها عن عهدها، وانغمسوا في الترف وأسرفوا في النفقات، إلا أنهم أعطوا الملك حقه من الفتوح والتغلُّب والعدل في القضاء وحفظ الأمن، وكيف لنا بمثل ذلك اليوم!! ولذلك كان الفقهاء يعتبرون خلافتهم شرعية، ثم دالت الدولة إلى العباسيين، فساروا سيرة حسنة إلى عهد أبناء الرشيد، وقام المأمون على علمه ينتصر للمعتزلة، وغالى بعده المعتصم في الاعتزال، وظهر بعد ذلك مذهب الباطنية، واضمحلت الخلافة العباسية بما اضمحلت به الخلافة الأموية بالخروج عن العدالة، وكثرة الفتن والبدع..."[3].
نعم، هناك أخطاء وهناك ظلم واستبداد ولكن ليس بمعنى الاستبداد المتعارف عليه اليوم؛ لأن تطبيق الشريعة وقيام العلماء بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع الاستبداد الذي يراه الناس اليوم من بعض الحكام، وهو الذي وصف في الحديث بـ(ملك وجبرية).
والسؤال الكبير: من يقف وراء هذه الحملة الظالمة على تاريخنا وتاريخ بني أمية خاصة[4]، والقول بأن تاريخنا كله دماء ومؤامرات، هذه الحملة التي ظهرت في هذا العصر الذي تحطمت فيه القيم الإنسانية؟ ومن أين جاءتهم هذه الجرأة؟
ربما يكون بعض الكُتَّاب لا يذكرون هذا عن تعمُّد، ولكن المتتبع لأخبارهم يدرك أن هناك أصابع خفية تثير هذا الشغب وهذه الشكوك، فيتلقفها بعض الناس الذين يريدون الظهور بمظهر (الناقد) وبمظهر الفهم الجديد للإسلام، فهم يمارسون تحطيمًا للتراث وهم لا يشعرون.
إن من حقنا أن نسأل: لماذا في هذا الوقت الذي انتفشت فيه الباطنية والشعوبية، وأصبح لها قوة إعلامية، ما دام الإعلام اليوم لا يحتاج إلا إلى المال والألسنة الحداد والصدور الممتلئة حقدًا، ولا يردعهم دين ولا أخلاق، ولا يمارسون أي تحقيق علمي تاريخي؟
إن جرأة الذين يكتبون في التاريخ في هذا العصر جاءت من اعتدادهم بأنفسهم، والإفراط في الثقة بفرضيات لم توضع موضع التحقيق العلمي، وخاصة عندما يتعلق الحديث عن تاريخنا الذي يختلف في بعض الأمور عن تاريخ الأمم الأخرى؛ بسبب نشأته بالدين ومن الدين مباشرة. ومع ذلك فإنه لا يخلو تاريخ أمة أو حضارة من واجهة قاتمة لبعض السياسات الظالمة، ويبقى هناك الوجه الإنساني من نبل الرجال وبعض الأسر والحياة الاجتماعية الراقية وعطايا الخير والإحسان.. يقول المؤرخ (ول ديورانت): "الحضارة نهر ذو ضفتين، يمتلئ النهر أحيانًا بالدماء والظلم، ولكننا نجد على الضفتين في الوقت ذاته أناسًا يبنون الحضارة، ولكن المؤرخين متشائمون؛ لأنهم يتجاهلون الضفاف ويتعلقون بالنهر..."[5].
لا نمنع أحدًا من نبش التاريخ إذا كان المقصود بيانًا لحقائق أو تصحيحًا لأخطاء، ولكن ليس للجرأة المتقحمة ولا للتغلغل الباطني الذي يريد إفساد حياتنا وتاريخنا، حتى يكون اليأس والإحباط والنظرة الحاقدة على أجيال محمودة من التابعين ومن بعدهم. يقول الشيخ رشيد رضا: "وكتب التاريخ فيها الصحيح والضعيف والحق والباطل، وكان أستاذنا الشيخ حسين الجسر ينشد:
من طـــالع التاريخ مع أنه *** لم يتمسـك باعتقـاد سليم
أصبـح شيعيًّا وإلا فقـــل *** يخرج عن نهج الهدى المستقيم
ما هو الميزان الذي نستطيع من خلاله أن ننصف أنفسنا، وننصف غيرنا في أمور معقدة من نوازع البشر واختلاف الطبائع والسجايا؟ لا يوجد إلا ميزان واحد هو الذي ذكره القران الكريم {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
وهو الذي جاءت به السنة في تزكية أصحاب رسول الله ، وتزكية الجيل الثاني والجيل الثالث (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم)، ورسول الله لا ينطق عن الهوى ولا يداهن في دين، ولا يأمر الناس بما يعلم أن الحق خلافه، ولا ينعت أحد بصفة إلا بما علَّمه ربه وبما أنبأه"[6]. إنه الإنصاف الذي تميزت به أجيال من العلماء والمؤرخين الذين أنصفوا أعتى أعدائهم، والذين يتتبع ما كتبه الذهبي وابن كثير وأمثالهم سيرى مصداق ذلك.
ليس هذا موضع الدفاع عن أحد ولا تبرير أخطاء وقعت، ولكنه موضع الكشف عن أهواء الذين ينقضون غزلهم بعد قوة أنكاثًا، ويتبعون خبث الباطنية من إثارة الأحقاد والشغب على الأصحاب والعرب الذين أزالوا الإمبراطورية الفارسية، وهو ما يفسِّر هذا الحقد الخاص على الخليفة العظيم عمر بن الخطاب ، وعلى كل من اسمه (عمر)! والعجيب أن الذين يشنعون على هذه الفترة من التاريخ الإسلامي (عصر الراشدين وبني أمية) هم من آثار فتوحات هذه الفترة إن كانوا ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، أو يعتزون بالإسلام الذي جاء به محمد .
د. محمد العبدة