في النظام السياسي
في سلسلة الحديث عن (الإحياء السني) ما زلنا نؤكد على أن عقائد الباطنية وما تفرع عنها من فرق لا تصلح لإقامة مدنية أو حضارة، ليس لفساد الاعتقاد وما يداخله من أنواع الشرك والوثنية والأوهام وحسب، بل أيضًا لنفسية التدمير التي يمارسونها إذا تحكموا في رقاب أهل السُّنَّة، وتلك السوداوية والكربلائية التي يحملونها دائمًا.
وفي هذا المقال نريد توضيح قضية مهمة يفترق فيها أهل السنة عن هؤلاء وهي قضية الإمامة الكبرى أو الخلافة والرئاسة العامة، هل تكون بالاختيار والشورى من ممثلي الأمة (أهل الحل والعقد) أم هي وصية مخترعة ونص إلهي إلى النبي بتسمية الوصيّ من بعده؟
ولا يكتفي بهذا، بل لا بد أن يكون هذا الوصي معصومًا عن الأخطاء والذنوب هو وذريته حتى الإمام الثاني عشر.
القرآن واضح، الناس سواء، وأكرمهم عند الله أتقاهم، والأحاديث واضحة: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، و"إن بني فلان ليسوا لي بأولياء" يشير إلى بعض أقربائه، وحديث "الأئمة في قريش" وليس في بطن واحد من بطون قريش. "وسنته في عباده أن لا يجزي أحد إلا بكسبه وعمله، وهذه قضية من أصول الدين العامة التي جاء بها الأنبياء {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وفي أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 36-39]، وإذا لم ينتفع بالأنبياء ذرياتهم الذين لم يقتدوا بهم، فكيف ينتفع بهم أولئك البُعداء، وهل يشبع الولد إذا أكل الوالد دونه..."[1].
إن وجود طبقة دينية خاصة -كما في النصرانية- لا يتفق ومبادئ الإسلام، والقرابة لا تغني إذا لم تكن على الصراط المستقيم، والأمة تجتمع على أساس الدين وليس على أساس قبليّ أو أسرويّ، والأحاديث التي تذكر (العترة) إنما هي توصية من الرسول بالإحسان إليهم، وكأنه يخشى أن يساء إليهم بدون حق، ولا تعني أبدًا الحكم وولاية الأمر. وكان خاتمة ما وصى الله تعالى به هذه الأمة على لسان رسله الأمر باتباع صراطه المستقيم، والبعد عن الاختلاف والتفرق الذي يجعل المسلمين أحزابًا وشيعًا.
وامتناع الرسول عن الوصية بالخلافة إنما قصد به الإشارة الضمنية إلى واجب الأمة في وضع النظم السياسية بطريق الشورى، وإن اختيار المسلمين لأبي بكر هو من دلائل نبوة محمد ، وأنه ليس كالملوك الذين يؤثرون أقرباءهم، وقد أجمع الصحابة على اختيار أبي بكر[2]، وخلافة عمر كانت أيضًا بإجماع الصحابة وليست تولية من أبي بكر، وإنما كانت ترشيحًا منه لعمر ووافق الصحابة كلهم على هذا الترشيح، ولو لم يرضوا به لما كان عمر خليفة، وكذلك كان اختيار عثمان وعلي .
إن أهل السنة لا يرون طريقة للوصول إلى منصب الإمامة الكبرى إلا طريقة واحدة وهي الاختيار، وإذا تخلف التطبيق العملي بعد الخلفاء الراشدين، ولكن لم يتخل علماء أهل السنة -من الناحية النظرية- عن مبدأ الاختيار والأخطاء والانحرافات لا تلغي المبدأ الأساسي، وبقيت الشورى بين العلماء في المذاهب الفقهية والاجتهادات.
ويرى أهل السنة أن منصب الخلافة هو عقد بين الأمة وبين المتولي لهذا المنصب، وأن الأخير وكيل للأمة في تنفيذ شرع الله، يقول الباقلاني عن هذا المنصب: "وهو في جميع ما يتولاه وكيل للأمة ونائب عنها". ويقول الإمام الجويني: "والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام، ولكن مستناب في تنفيذ الأحكام"[3].
وهذا العقد هو فرض كفائي يمكن أن يقوم به بعض الأمة؛ ولذلك لا بد من (أهل الحل والعقد)، فالشورى هي الوسيلة الوحيدة كما قرره اجتماع السقيفة، وقرر أيضًا حق الأمة في تقويم الحاكم، جاء في خطبة أبي بكر : "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم".
وبما أن الأمة الإسلامية شاهدة على الناس، أي أنها تحمل مسئولية تبليغ الدعوة، فلا بد من فتح باب الاجتهاد بالقدر اللازم لمستحدثات كل عصر، وهذا لا بد فيه من الشورى التي هي حوار يجري تحت مظلة المبادئ المستمدة من العقيدة والشريعة، فالقرار هنا يكتسب شرعيته بأنه أقرب للعدل، وأنه تحت سقف الشريعة وليس من (إرادة الشعب) كما في النظم الديمقراطية؛ فالشورى لا تجوز فيما ورد فيه نص قاطع.
وأهل السنة وخاصة في الكتابات المعاصرة يفرقون بين الشورى والاستشارة، ويرون أن الشورى -بشروطها- ملزمة للحاكم؛ لأنها صادرة عن مجلس فيه علماء وفقهاء وخبراء في السياسة والاقتصاد وشئون الناس، أما الاستشارة فغير ملزمة وهي تقع يوميًّا ويمارسها كل الرؤساء العقلاء وفي كل البلدان، وقد استشار الرسول في أمور كثيرة أفرادًا معينين حسب الحادثة؛ كاستشارته لزعيمي المدينة في مسألة إعطاء ثلث ثمار المدينة للأعراب لينفضوا عن حصار الخندق، واستشار بعض الصحابة في حادثة الإفك، وقَبِل مشورة أم سلمة -رضي الله عنها- بعد صلح الحديبية، أما الشورى فهي الشئون العامة التي تهم مصلحة المسلمين كلهم.
وقد مورست هذه الشورى زمن الراشدين فلم يستطع عمر إنفاذ رأيه في عدم توزيع أرض السواد في العراق على الفاتحين إلا بعد أن وافقه على رأيه أكثر الصحابة، وإن تعيينه لستة من الصحابة ليختاروا واحدًا منهم خليفة، دليل على أن رأي الأكثرية هو الذي يقرر المطلوب.
إن الصفات المرعية التي لا بد أن تتوفر في الإمام أو الصفات المطلوبة في أهل الشورى، فهذا كله موجود في كتب السياسات الشرعية، وقد تنقص أو تزيد حسب كل عصر، وأهمها بالنسبة إلى الإمامة الكبرى: العلم والكفاية والتقوى، يقول الإمام الجويني: "فأما التقوى والورع فلا بد منهما؛ إذ لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس، فكيف يُولّى أمور المسلمين كافة، والأب الفاسق -على فرط حدبه وإشفاقه على ولده- لا يعتمد في مال ولده، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى فاسق؟".
وأما عدد أهل الشورى وكيفية اختيارهم، فهذا راجع إلى الاجتهاد ولظروف كل عصر وكل مكان؛ "فالنظام يختلف باختلاف أحوال الأمة في كثرتها وقلتها وشئونها الاجتماعية، فلا يمكن أن تكون له أحكام معينة توافق جميع الأحوال في كل زمان ومكان، ولو وضع لها أحكامًا مؤقتة لخشي أن يتخذ الناس ما وضعه دينًا متبعًا في كل حال"[4].
ويقول الشيخ صبحي الصالح: "لم يرد أن يُدخل على الناس تصورات لا محصل لها في الواقع، وهذه مزية في نظم الحكم، كمثل النحل تبني من إفرازاتها خلاياها"[5].
هذه الشورى المستمدة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مما يساعد على تطور الإنسان ورقيه في حياته الاجتماعية والسياسية؛ لأنه يعتمد على الاجتهاد والقياس في التفاصيل، فيصبح في مقدورهم البحث واكتساب المعرفة والعلم.
اخترعت الشيعة قصة (الوصيّ) وأن الله I أمر محمدًا أن يوصي بعده لعلي بن أبي طالب ؛ لأنهم زعموا أن اللطف واجب على الله (هذه من مقولات المعتزلة وأخذها عنهم الشيعة). وبما أن الإمامة لطف فإقامتها واجب، ومنصب الإمامة عندهم هو منصب إلهي كالنبوة، فكما أن الله سبحانه يختار من يشاء للنبوة والرسالة، فكذلك يختار من يشاء للإمامة، ويأمر النبي بالنص عليه. وهذا الإمام معصوم لا يفعل شيئًا إلا بأمر الله، والنبي قد يخطئ ويسدده جبريل، ولكن الإمام لا يخطئ؛ لأن جبريل لا ينزل عليه فيسدده. والإمامة من أسس الإيمان، فمن لم يؤمن بالأئمة لا يصح إيمانه؛ (ولهذا يكفرون غيرهم)[6].
وإذا كان الإمام لا ينزل عليه الوحي عن طريق جبريل، ولكنه -كما يزعمون- مُعلَّم من الله بعلم لا يعلمه إلا الله[7]، وهذه غنوصية فارسية وهرطقة وزندقة، وهو قريب من قول النصارى أن الرسل الذين كانوا حول المسيح معصومون مثل إبراهيم وموسى[8].
يقول المستشرق (دوزي): "إن الشيعة فرقة فارسية في جوهرها، فالفارسي لم يكن يستطيع أن يتصور خليفة بالانتخاب، فهذه فكرة غير معهودة له، فانتقل البيت النبوي (آل علي) محل بيت (آل ساسان)".
وكيف تكون الإمامة لطف مع ما نشاهده من اختفاء أثر الإمام، فلم يقدم للناس نفعًا في كل هذه العصور، فلم يقم دولة ولا جاهد في سبيل الله وفتح البلدان كما فعل الخلفاء في الدول الإسلامية، ونحن نعلم بالضرورة أن عليًّا والحسن والحسين وأولادهم ما كانوا يدعون العصمة والتنقي من الذنوب، فإن ادعوا هذا مثلاً، فهذا ذنب يجب أن يستغفروا الله منه، ثم كيف تكون العصمة والشيعة يجيزون التقية (الكذب) ويخفون ما يعتقدون؟!
الإمامة ليست من قواعد العقائد كما يدَّعِي الشيعة بل هي ولاية عامة، والإيمان بالله وبرسوله في كل زمان ومكان أهم من مسألة الإمامة، وهذا الادعاء للعصمة والعلم المباشر من الله، الذي هو فوق علم الملائكة والأنبياء أدى إلى ظهور فرق تفرعت عن الشيعة تدعو إلى الإباحية المطلقة، وفسروا الآية {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] بأن الله تعالى جعل للإمام محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق -حسب زعمهم- جنة آدم، وأباحوا جميع ما خلق الله، وأبطلوا كل تحريم؛ ولذلك ورد عن العلاء بن الحضرمي مبعوث رسول الله إلى المنذر بن ساوي العبدي أنه قال له: "يا منذر، إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكرم العرب ولا علم أهل الكتاب".
وإذا حاول الشيعة في العصر الحديث الالتفاف حول الوصية والنص باختراع (ولاية الفقيه)، ونائب الإمام الغائب إلا أن نائب الإمام أعطي من الصلاحيات الخاصة به ما لا يقرُّه عقل ولا شرع، وإن خضوع شعب لفقيه واحد هو نوع من إضفاء العصمة، ولا نتكلم هنا عن فساد العقائد ولا عن الشعوبيَّة الصفويَّة.
إن القواعد العامة التي ترسخت زمن النبوة والخلافة الراشدة هي أن الشورى هي الأسلوب الصحيح للحكم، وأن الأخوة الدينية هي أساس النظام الاجتماعي، والحاكم المسلم مكلف بحماية الدين ورعاية أمور الدنيا لمصلحة المسلمين، والأمة هي التجمع المبنيُّ على العقيدة وليس على أساسٍ آخر اقتصادي أو جغرافي..
والحاكم ليس مشرعًا، بل هو منفذ، والعلماء يجتهدون بما يرونه مناسبًا، وليس لأحد من البشر أن يخضع له الآخرون خضوعًا مطلقًا، فهذه الصفة هي لله I.
د. محمد العبدة