رسول الله في مرضه الأخير (2-2)
الرسول يخرج إلى الناس ليوصيهم
وفاة رسول اللهوفي يوم الأربعاء 7 ربيع أول، قبل الوفاة بخمسة أيام، ارتفعت درجة حرارة الرسول جدًّا، واشتد ألمه حتى أغمي عليه ، فلما أفاق أراد أن يخرج إلى المسلمين حتى يوصيهم، فما استطاع أن يتحرك، فقال لأهله: "هَرِيقُوا عَلَيَّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى، حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ، فَأَعْهَدُ إِلَيْهِمْ".
وإنما أمر بذلك للتداوي ولخفض الحرارة، فأجلسوه في مخضب (إناء لغسل الثياب) وصبوا عليه الماء، واستمروا في ذلك حتى طفق يقول: "حَسْبُكُمْ، حَسْبُكُمْ".
وعند ذلك شعر بالنشاط، فقام إلى المسجد، وهو معصوب الرأس، وصعد المنبر، واجتمع الناس حوله ينتظرون ما يقول في هذه اللحظات الصعبة، وكان رسول الله حتى هذه اللحظة لا يمتنع عن مقابلة الناس، ولا يمتنع عن الصلوات في المسجد مع شدة تعبه، فخطب في الناس، وقال كما جاء في البخاري عن عائشة: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
وقال كما في رواية مالك عن عطاء بن يسار: "اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ".
لقد كانت إشارات شديدة الوضوح باقتراب أجله، وتحذير شديد الوضوح من الوقوع في أخطاء السابقين من الأمم، وقد شاهد الجميع أن زيادة التقديس للأنبياء عن الحد المطلوب أدخل الناس في الكفر والشرك بالله، وصار النصارى يعبدون المسيح من دون الله، أو يجعلونه ابنًا لله ، وكذلك فعل اليهود مع العُزَير، فمع أن المدخل كان التعظيم لنبي إلا أن الخاتمة كانت كفرًا بالله تعالى؛ فيُحذّر رسولنا العظيم : لا يدفعكم توقيري، وإجلالي، وحبي إلى المبالغة التي تُخرج عن الملة.
ثم قال بعد ذلك كلامًا عجيبًا، لقد عرض نفسه للقصاص، فقال كما روى الطبراني في الأحاديث الطوال عن الفضل بن عباس: "مَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا، فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا، فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ".
يقول ذلك وهو الذي لم يظلم في حياته قَطُّ، بل كان دائم التنازل عن حقه، وما غضب لنفسه قَطُّ، ويقول ذلك وهو الذي كان يحب الرفعة في كل شيء، وهو الذي لم يتلفظ بفحش، ولا سوء، ولا طعن، حتى في أشد مواقف حياته صعوبة.
ثم نزل من على المنبر، وكان وقت الظهر قد حان، فصلى الظهر بالناس، ثم صعد المنبر من جديد، وعاد لعرض نفسه للقصاص، ثم أصر على الناس أن يذكروا إن كان لهم حق عنده، فقام رجل، فقال: إن لي عندك ثلاثة دراهم.
فقال: "أَعْطِهِ يَا فَضْلُ". فأعطاه.
ومع اليقين في أن الرجل لا يريد الدراهم الثلاثة، إلا أنه خشي إن كتم ذلك مع إصرار الرسول أن تكون هذه معصية، والرسول يريد أن يترك الدنيا، وليس عليه مثقال ذرة لأحد.
الرسول يوصي بالأنصار
ثم أوصى الرسول بالأنصار، فقال فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك: "أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي (أى: هم خاصتي وموضع سري)، وَقَدْ قَضَوْا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ".
وقال في رواية أخرى في البخاري أيضًا، عن ابن عباس: "إِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ، وَتَقِلُّ الأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرًا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعُهُ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ".
وقد أوصى بالأنصار ؛ لأنه كما فسر يرى أن الأنصار تَقِل مع مرور الوقت؛ لكثرة العرب الذين يسلمون، وقد يهضم حقهم مع مرور الوقت، وخاصة أن من طبيعة الأنصار الحياء والإيثار.
أبو بكر يدرك اقتراب أجل النبي
ثم قال بعد ذلك كلامًا مؤثرًا غاية التأثير، فقال كما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري : "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ".
يقول أبو سعيد : فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
قال أبو سعيد الخدري: فعجبنا له. فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ! يخبر رسول الله عن عبد خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
لم يدرك عموم الصحابة ساعتها، ولم يتخيلوا أن الرسول هو العبد المقصود بالتخيير، ولكن أبا بكر -بما له من حس مرهف، وعلم واسع- أدرك ذلك الأمر، فبكى وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
يقول أبو سعيد الخدري : فكان رسول الله هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا.
وبعد أن ذكر ذلك رسول الله أوصى وصية خاصة بأبي بكر الصديق أفضل البشر بعد الأنبياء، وفيها إشارات واضحة باستحباب خلافته بعد موت الرسول ، قال رسول الله : "يَا أَبَا بَكْرٍ لا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكُرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خليلاً، وَلَكِنْ أُخُوَّة الإِسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ".
هذه شهادة عظيمة حقًّا من رسول الله ، ثم قال: "لا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ، إِلاَّ بَابُ أَبِي بَكْرٍ".
وهي إشارة لخلافته لأنه سيخرج من بابه هذا للصلاة بالناس، وإمامتهم كما كان يفعل رسول الله .
وهكذا انتهى رسول الله من وصاياه المؤثرة، وعاد إلى بيته.
الكتاب الذي أراد أن يكتبه رسول الله
وفي يوم الخميس الثامن من ربيع الأول، وقبل الوفاة بأربعة أيام، حدث موقف مهم، وقد جاء ذكره في البخاري برواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وفيه أن رسول الله قال لما اشتد به الوجع: "ائِتُونِي بِكِتَابٍ (أي بأدوات الكتابة) أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا". وطبعًا المقصود أن يملي على أحد الصحابة أن يكتب؛ لأنه كان أمّيًّا لا يقرأ ولا يكتب . "لا تضلوا بعده". وفي رواية: "لن تضلوا بعده". وكان في البيت رجال من الصحابة فيهم عمر ، قال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا.
أي أن عمر كان يرى ألا داعي لإرهاق الرسول بالكتابة، وقد حفظ الله لهم القرآن، وقال فيه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
فكان يشفق على رسول ويرحمه، ولكن بعض الصحابة اعترضوا على ذلك، وأرادوا أن يكتب لهم الرسول الكتاب الذي يريد، وهكذا اختلف أهل البيت واختصموا وكثر اللغط، فلما حدث ذلك قال رسول الله : "قُومُوا عَنِّي، وَلا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ".
وهناك بعض التعليقات المهمة على هذا الموقف:
أولاً: من الواضح أن الرسول لم يكن يرى أن كتابة هذا الذي كان يريد كتابته أمرًا واجبًا ضروريًّا، إنما هو أمر اختياري تقديري؛ لأنه عاش بعد ذلك أربعة أيام، ولم يطلب الكتاب مرة أخرى ليكتب، ولو كان ضروريًّا لأمر به .
ثانيًا: أن الخلاف في الرأي أمر جائز ومتوقع، وواضح أن كلا الرأيين كان مقبولاً، وحجة كل طرف كانت قوية، ولكن الذي لم يكن مقبولاً، هو ارتفاع الصوت عند الاختلاف، وكثرة اللغط، ولذلك قال : "قُومُوا عَنِّي، وَلا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ".
ثالثًا: هذا الموقف يعتبره كثير من العلماء من موافقات عمر ؛ لأنه اختار رأيًا اجتهادًا منه، وأقره الوحي بعد ذلك، لأنه لو كان الأفضل خلاف اختيار عمر بعدم الكتابة، لنزل الوحي يأمر الرسول بالكتابة، وهي منقبة عظيمة تضاف إلى مناقب عمر .
رابعًا: الله أعلم ماذا كان يريد أن يكتب رسول الله ، وبعض العلماء يعتقدون أنه كان يريد أن يكتب الأحكام حيث لا يبقى بعد الكتاب تأويل لحكم يحتمل أكثر من معنى، والبعض يرى أنه كان يريد أن يكتب اسم الخليفة من بعده، حتى لا يحدث الخلاف، ويستشهدون بحديث في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- في أيام مرضه، عندما قال لها: "ادْعِي لِي أَبَاكَ وَأَخَاكَ، حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى. وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ".
وقال علماء آخرون أقوالاً أخرى، والأولى من كل ذلك عدم الخوض في الظن غير المتحقق، وعدم الولوج إلى أبواب ليس هناك سبيلٌ لتأكيد مرادها، ونوقن تمامًا أنه لو كان في هذا الكتاب فائدة للأمة لا تتحقق بغيره لكتب الرسول هذا الكتاب حتمًا، سواء في ذلك الوقت أو في الأيام التي تلت.
خامسًا: على الرغم من أن كتابة الكتاب لم تكن أمرًا حتميًّا كما بَيَّنَّا، إلا أنه كان بغرض الإيضاح، وكان فيه خير ما، ولكن مُنِع المسلمون هذا الخير بسبب اختلافهم وكثرة لغطهم، وقد منعوا قبل ذلك من معرفة ليلة القدر على وجه التحديد بسبب اختلافهم كذلك، وهكذا الاختلاف دومًا يمنع كثيرًا من الخير، كما أن الرسول ضحى بالخير الذي كانوا سيحصّلونه في سبيل أن يمنع عنهم التنازع، فوحدتهم كانت مقدمة عنده على ما دونها من مصالح.
وفي هذا اليوم أيضًا في الثامن من ربيع الأول أوصى بثلاث وصايا كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما:
أما الوصية الأولى، فكانت: "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ". واختلف العلماء في تحديد جزيرة العرب، وما يقصد منها، فرأى بعضهم أنها الجزيرة بكاملها، والتي تحاط بالبحار من كل جانب أي أنها تشمل اليمن، واستثنى بعض العلماء منها اليمن، وقصر بعضهم الجزيرة على مكة والمدينة المنورة واليمامة واليمن، وغير ذلك من أقوال.
وأما الوصية الثانية، فكانت: "وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ بِهِ". أي أعطوا الوفد جائزة كما كنت أعطيهم، وأكرموهم وأحسنوا ضيافتهم.
وأما الوصية الثالثة، فنسيها أحد رواة الحديث، واختلف العلماء في تحديدها، وليس ذلك على وجه اليقين، فقال بعضهم كالداودي وابن القيم: المقصود بها القرآن.
وقال المهلب وابن بطال: بل الوصية الثالثة كانت بخصوص تجهيز جيش أسامة.
وقال عياض: يحتمل أن تكون: "لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد".
وقال ابن حجر: ويحتمل أن تكون قوله : "الصلاة وما ملكت أيمانكم".
والله تعالى أعلم.
الرسول يأمر لأبي بكر بالإمامة في الصلاة
وكان حتى ذلك اليوم، وبرغم مرضه، يصلي بالناس كل الصلوات، فصلى بهم في ذلك اليوم الصبح والظهر والعصر، ثم صلى بهم المغرب، وقرأ فيها بـ (والمرسلات عرفًا) كما روى البخاري عن أم الفضل بنت الحارث -رضي الله عنها- زوجة العباس ، ثم عاد إلى بيته ، وقد ثقل عليه المرض جدًّا، حتى ما قدر على أي حركة، فسأل وهو شبه غائب عن الوعي، كما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: "أَصَلَّى النَّاسُ؟"
وهو يقصد صلاة العشاء، قال الصحابة: لا، هم ينتظرونك.
قال: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ".
وقد أراد الاغتسال ؛ لتخفيف درجه حرارته، ولبَثِّ النشاط في جسمه، ليخرج لصلاة العشاء.
تقول عائشة رضي الله عنها: ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء (أي: قام بجهد كبير ليذهب للمسجد) فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال : "أَصَلَّى النَّاسُ؟"
قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.
قال: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضِبِ".
قالت: فقعد، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: "أَصَلَّى النَّاسُ؟"
قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.
فقال (للمرة الثالثة): "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ".
فقعد، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه (للمرة الثالثة)، ثم أفاق، فقال: "أَصَلَّى النَّاسُ؟"
فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.
سبحان الله! أرأيتم الحرص على صلاة الجماعة، وعلى الذهاب إلى المسجد مع هذا المرض الثقيل، وهذا الإغماء المتكرر، لقد كان دائمًا يوافق فعله قوله ، وهو الذي قال قبل ذلك -كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -: "لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ، فَيُقِيمَ الصَّلاةَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ بَعْدَ النِّدَاءِ".
ويا حسرتاه على قوم أصحاء مبصرين يتخلفون عن صلاة العشاء، وغيرها من صلوات الجماعة!! والمساجد على بُعد خطوات معدودات من بيوتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بعد هذه المحاولات المضنية من رسول الله أدرك أنه لا يستطيع الخروج لصلاة الجماعة، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكنه ما زال حريصًا على أمته حتى في أشد حالات مرضه، وما زال يردد: أَصَلَّى النَّاسُ؟ أَصَلَّى النَّاسُ؟
تقول عائشة رضي الله عنها: والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي لصلاة العشاء الآخرة.
هنا قرر أن يَنُوب عنه واحد من المسلمين لقيادة المسلمين في الصلاة، وهي إشارة واضحة لرغبته في استخلاف هذا الرجل، وهذا الرجل هو -بطبيعة الحال- أبو بكر الصديق .
قال رسول الله : "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ".
فخافت عائشة -رضي الله عنها- أن يتشاءم الناس بأبيها إذا قام مقام رسول الله ، فقالت: إن أبا بكر رجل أسيف ( وفي رواية: رقيق)، إذا قرأ غلبه البكاء.
فأصر على اختيار أبي بكر لهذا الأمر، فأعادت عليه عائشة -رضي الله عنها- ومن معها من أمهات المؤمنين الاقتراح بتغيير أبي بكر، وفي رواية أنهن أشرن بإمامة عمر، ولما تكرر الأمر ثلاث مرات غضب رسول الله ، وقال: "إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ".
وبالفعل صلى أبو بكر بالناس صلاة العشاء من ذلك اليوم، الخميس الثامن من ربيع أول سنة 11هـ.
وفي يوم الجمعة صلى أبو بكر جميع الصلوات بالمسلمين وخطب بهم الجمعة، ولم يستطع الرسول الحركة مطلقًا، وكان مما أوصى به في ذلك اليوم ما رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد عن جابر -رضي الله عنهما- حيث قال: سمعت رسول الله قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يَمَوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وفي يوم من الأيام التي صلى فيها أبو بكر بالناس، وهي أيام الخميس والجمعة والسبت والأحد وفجر الاثنين، كشف رسول الله ستارة حجرته، والناس صفوف خلف أبي بكر، وذلك كما رواه مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقال وهو معصوب رأسه: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ".
قالها ثلاثًا، ثم قال بعدها مخاطبًا الناس: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ تَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَةُ الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". أي: جدير أن يستجاب لكم.
ولقد كان إعلانًا صريحًا أن النبوة على وشك الانتهاء، ولكنه في الوقت نفسه يطمئن المسلمين أن الرباط بينهم وبين الله لن ينقطع أبدًا، فهناك الرؤيا الصالحة، وهي كما أشار في حديث آخر رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري : "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ".
وهناك أيضًا الدعاء في السجود الذي يربط المسلم دائمًا برب العالمين I.
وفي يوم السبت العاشر، أو الأحد الحادي عشر من ربيع الأول، صلى أبو بكر جميع الصلوات بالناس، لكن في صلاة الظهر شعر رسول الله في نفسه خفة، فقرر محاولة الخروج لصلاة الجماعة مع المسلمين، فخرج يُهَادى بين رجلين العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورجله تخطان في الأرض، حتى وصلا به إلى الصف الأول، فلما أحس أبو بكر بقدوم الرسول أراد أن يتأخر، فأومأ إليه النبي أن مكانك، ثم أُتِي به حتى جلس إلى جنب أبي بكر من ناحية اليسار، فكان الرسول يصلي جالسًا لا يَقْوَى على القيام، وأبو بكر يصلي بصلاته، ويرفع صوته، فيصلي الناس بصلاة أبي بكر، لقد كان مجهودًا هائلاً من رسول الله كي لا تفوته صلاة واحدة مع الجماعة، وقد وصل إلى هذه الحالة التي وصفنا من التعب والمرض والإغماء.
وفي يوم الأحد الحادي عشر من شهر ربيع الأول، وقبل الوفاة بيوم واحد صلى أبو بكر الصديق بالمسلمين كل الصلوات، وتخلص رسول الله من كل بقايا الدنيا التي عنده على بساطتها وقلتها، فأعتق ما تبقى من غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب المسلمين أسلحته، ولم يترك في بيته عند موته من الطعام إلا قليل القليل.
روى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تُوُفِّي رسول الله ، وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفٍّ لي، فأكلت منه، حتى طال عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ ففني.
وكان هذا الشعير قليلاً جدًّا، ولكن كانت فيه بركة رسول الله ، فلما كالته السيدة عائشة ذهبت البركة ففني.
وفي هذا اليوم أيضًا لم تجد عائشة -رضي الله عنها- الزيت لمصباح بيتها، فاستعارت من جارتها، وكذا كان درع الرسول مرهونًا عند يهودي بثلاثين صاعًا من الشعير؛ لافتقاره تمامًا إلى الشعير، ليس في بيت عائشة فقط، ولكن في كل بيوت زوجاته، روى البخاري عن أنس أنه مشى إلى النبي بخبز شعير وإهالة سنخة -متغيرة الريح- ولقد رهن النبي درعًا له بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه شعيرًا لأهله.
يقول أنس : "ما أمسى عند آل محمد صاعُ بُرٍّ، ولا صاعُ حبٍّ، وإن عنده لتسع نسوة".
والحكمة في رهن درعه ليهودي وليس لأحد الصحابة، هو بيان جواز التعامل مع اليهودي المعاهد، وكذلك لأنه خشي أن يعطيه الصحابي الشعير بلا ثمن، أو بثمن أقل من ثمنه الطبيعي حياءً من الرسول .