إسلام عكرمة بن أبي جهل وفضالة بن عمير
عكرمة بن أبي جهل يحاول الهروب
الصحابةكان عكرمة من أشد أعداء رسول الله ضراوةً في التاريخ كله، وشرب عكرمة بن أبي جهل العداوة -طوال هذه المدة الطويلة- من أبيه أشد أعداء الإسلام فرعون هذه الأمة، ولكن عكرمة استمر وزاد في العداوة للدرجة التي جعلت الرسول يريق دمه، فقد أراق الرسول دَمَ مجموعة من المشركين، وقال: "اقْتُلُوهُمْ وَلَوْ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ"[1].
وكان من هؤلاء عكرمة بن أبي جهل، وكان ممن قاتل في الخَنْدَمَة ضد خالد بن الوليد ، ولكنه بعد هزيمته فرَّ من مكة المكرمة، وحاول أن يصل في فراره إلى اليمن. وذهب بالفعل إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق بها إلى اليمن، إنه طريق طويل في الكفر، وهو مطلوب الدم، وإذا وجده الرسول سيقتله.
زوجة عكرمة تشفع له عند الرسول
كانت زوجة عكرمة هي أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فهي ابنة عمه، فذهبت هذه المرأة بعد أن أسلمت في يوم الفتح على جبل الصفا مع من أسلم من أهل مكة، فذهبت إلى الرسول لتستشفع عنده لعكرمة بن أبي جهل أن يعود إلى مكة المكرمة آمنًا كما أمَّن صفوان بن أمية. وموقف عكرمة مختلف؛ فهو مراق الدم، وقالت أم حكيم للرسول : قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمِّنه. فقال الرسول في يسرٍ وسهولة: "هُوَ آمِنٌ".
ولم يذكر لها أنه مُهدر الدم، ولم يذكر لها التاريخ الطويل له، فخرجت أم حكيم الزوجة الوفية تبحث عن زوجها، وذهبت حتى وصلت في رحلة طويلة إلى عكرمة بن أبي جهل وهو يحاول أن يركب سفينة في ساحل البحر الأحمر متجهًا إلى اليمن، وعكرمة يتجادل مع رُبَّان السفينة التي سيركبها؛ لأن ربان السفينة كان مسلمًا، فقال له قبل أن يركب: أخلص.
فقال عكرمة بن أبي جهل: أيُّ شيء أقول؟
فقال الربان لعكرمة: قل: لا إله إلا الله.
فقال عكرمة: ما هربتُ إلا من هذا.
وهو ما يزال في هذا الحوار مع ربان السفينة، إذْ بأم حكيم -رضي الله عنها- تأتي في هذه اللحظة، فقالت: يابن عم، قد جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس، لا تُهلك نفسك، إني اسْتأمنتُ لك محمدًا .
فقال لها: أنتِ فعلتِ هذا؟
قالت: نعم[2].
وعكرمة بن أبي جهل في ذلك الوقت يرى الدنيا كلها قد ضُيِّقت عليه، فأين يذهب؟ هو يريد أن يذهب الآن إلى اليمن، واليمن بكاملها مسلمة، وبقاع الأرض تتناقص من حوله، والجميع الآن يدخلون في حلف ودين محمد ، فأخذ عكرمة قرارًا سريعًا بالعودة معها دون تفكير طويل.
عكرمة بن أبي جهل يعود إلى مكة
عاد عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، وقبل أن يدخل مكة المكرمة إذا برسول الله يقول لأصحابه كلمات جميلة، قال: "يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلاَ تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلاَ يَبْلُغُ الْمَيِّتَ".
فأيُّ أخلاق كريمة كانت عند رسول الله !!
فأبو جهل كان فرعون هذه الأمة، ومع ذلك فالرسول يأمر الصحابة بألاَّ يلعنوا أبا جهل فرعون هذه الأمة أمام ابنه عكرمة؛ لكي لا يؤذوا مشاعر عكرمة ، مع أن عكرمة حتى هذه اللحظة لم يسلم بعد. ودخل عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، ومن بعيد رآه الرسول ، وانظروا إلى ما حدث! فقد وثب إليه الرسول ، وما عليه رداء فرحًا به، وانظروا إلى أسارير الرسول كيف انبسطت عندما رأى عكرمة بن أبي جهل يعود إليه ويأتي إليه، وهو على أبواب الإسلام، برغم أن عكرمة كان أحد الذين عادوا الرسول قبل ذلك وقاوموه ومنعوه! ومع ذلك يستقبله الرسول هذا الاستقبال الحافل، وصدق الله : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
عكرمة يعلن دخوله في نور الإسلام
جلس عكرمة بين يدي رسول الله ، وقال: يا محمد، إن هذه أخبرتني بأنك أمَّنتني. فقال الرسول : "صَدَقَتْ، فَأَنْتَ آمِنٌ".
فقال عكرمة: إلامَ تدعو يا محمد؟
بدأ عكرمة يسأل الرسول عن الإسلام، فقال له: "أَدْعُوكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَأَنْ تُؤْتِيَ الزَّكَاةَ" وتفعل وتفعل، وأخذ يعدِّد عليه أمور الإسلام، حتى عدَّ له كل خصال الإسلام. فقال عكرمة: ما دعوت إلاَّ إلى الحق، وأمر حسن جميل[3].
القلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ففي هذه اللحظات شعر عكرمة بن أبي جهل أن كل ما ذكره حق، وأن كل ما تحدث عنه قبل ذلك أيام مكة، وبعد مكة كان صدقًا، وكان حقًّا، وكان من كلام النبوة والوحي، وهنا قال عكرمة بن أبي جهل: قد كنت والله فينا تدعو إلى ما دعوت إليه، وأنت أصدقنا حديثًا، وأبرُّنا بِرًّا. ثم قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. وفي لحظة واحدة انتقل عكرمة من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان. إنها حسن المعاملة، والرفق بالناس.
وهكذا امتلك الرسول قلبه في لحظات، وانظروا إلى جهده بعد ذلك مع المسلمين في هذه اللحظات، قال عكرمة لرسول الله بعد أن أسلم: يا رسول الله، علمني خير شيء.
فقال الرسول : "تَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
فقال عكرمة: ثم ماذا؟
قال: "أَنْ تَقُولَ: أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنِّي مُسْلِمٌ وَمُهَاجِرٌ وَمُجَاهِدٌ".
فقال عكرمة هذه الكلمات، فقال وهو يعرف أن عكرمة ما زال حديث عهد بالإسلام، ويحاول قدر المستطاع أن يقرِّبه إلى الدين، فقال له الرسول : "لاَ تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا إِلاَّ أَعْطَيْتُهُ لَكَ". فلم يطلب عكرمة بن أبي جهل مالاً أو سلطانًا أو إمارة، وإنما طلب عكرمة المغفرة، فقال: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسير وضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو أنت غائب عنه.
فقال : "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلَّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إِلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُ فِي هَذَا الْمَسِيرِ إِطْفَاءَ نُورِكَ، فَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالَ مِنِّي مِنْ عِرْضٍ فِي وَجْهِي، أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ".
فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله.
ثم قال -وهو صادق-: لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
ثم اجتهد في القتال طوال حياته، سواء في حروب الردة أو في فتوح الشام، حتى قُتل شهيدًا في اليرموك. وانظروا كيف بدَّل الله حياته كاملة بحسن استقبال الرسول له، وبتأمينه إياه، وبغفرانه كل التاريخ الأسود الذي كان له مع المسلمين؛ لأنه هو القائل: "لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"[4].
فهذا رجل من أعظم شهداء المسلمين، رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
إسلام فضالة بن عمير
كان فضالة بن عمير من أشد أعداء الرسول ، وهذا الرجل من شدة عدائه للرسول قرَّر أن يقتل الرسول في وقت الفتح، والرسول في وسط هذا الجيش الكبير (عشرة آلاف من الصحابة رضوان الله عليهم). وإذا قتل فضالة بن عمير الرسولَ فلا شك أنه مقتول، ومع ذلك ضحَّى بنفسه ليقتل الرسول ؛ فمر بجوار الرسول وهو يطوف بالبيت، فلما دنا من الرسول وهو يحمل السيف تحت ملابسه، قال له : "أَفُضَالَةُ؟"
قال: نعم، فضالة يا رسول الله.
كان يدَّعِي الإسلام في ذلك الوقت، فقال : "مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟".
قال: لا شيء، كنت أذكر الله.
فضحك الرسول وقال: "اسْتَغْفِرِ اللَّهَ".
ثم وضع يده على صدر فضالة فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خَلْقِ الله شيء أحب إليَّ منه [5].
وأسلم فضالة ، بل حسن إسلامه من أول لحظة من لحظات إسلامه، ولا نقول من أول يوم، ولكن من أول لحظة، حتى إنه عاد من عند الرسول إلى أهله، فمرَّ بامرأة كان يتحدث إليها في الجاهلية، فقالت له المرأة: هَلُمَّ إلى الحديث.
فقال: لا، يأبى عليك الله والإسلام[6].
لقد تغير تغيرًا كاملاً بعد هذا الإسلام. وهكذا الإسلام يصنع الرجال والنساء على نهجه بصورة تكاد تكون مختلفة تمام الاختلاف عن حياته قبل الإسلام.
[1] العسقلاني: فتح الباري، تحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومحب الدين الخطيب، دار الفكر - بيروت، 8/13.
[2] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ- 1993م، 5/252، 253.
[3] المصدر السابق 5/253.
[4] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن (3498). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب (2406).
[5] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص417.