عكرمة بن أبي جهل
كان عكرمة من أشد أعداء رسول الله ضراوة في تاريخ السيرة النبوية كلها، وقد شرب العداوة جُلَّ هذه المدة الطويلة من أبيه فرعون هذه الأمة وألدِّ أعداء الإسلام «أبي جهل»، ولكن عكرمة استمر وزاد في العداوة للدرجة التي جعلت الرسول يريق دمه عند فتح مكة باعتباره من مجرمي الحرب آنذاك.
كان عكرمة من القليل الذي قاتل في الخندمة ضد خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولكنه بعد هزيمته فرَّ من مكة المكرمة وحاول أن يصل في فراره إلى اليمن، وذهب بالفعل إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق بها إلى اليمن.
بر الرسول مع عكرمة
إن طريقه في الكفر طويل، وهو مطلوب الدم، وإذا وجده الرسول سيقتله بلا جدال.
وقد أرادت زوجة عكرمة «أم حكيم بنت الحارث بن هشام» -رضي الله عنها- أن تنقذ زوجها، فذهبت -بعد أن أسلمت- إلى الرسول لتشفع عنده لعكرمة بن أبي جهل في أن يعود إلى مكة المكرمة آمنًا، وقالت: «قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمِّنْهُ».
فردَّ الرسول في يسر وسهولة: «هُوَ آمِنٌ»!!
لم يذكر لها أنه مهدر الدم، ولم يذكِّرْها بتاريخه الطويل، ولم يقُلْ لها: أنتِ حديثة الإسلام جدًّا، فكيف تشفعين لغيرك؟!
لم يقل لها أيًّا من ذلك، ولم يشترط عليه أو عليها شروطًا، وإنما قال: «هُوَ آمِنٌ»!
وخرجت أم حكيم الزوجة الوفية تبحث عن زوجها، وذهبت حتى وصلت في رحلة طويلة إلى عكرمة وهو يحاول أن يركب سفينة في ساحل البحر الأحمر متجهًا إلى اليمن، فقالت له: «يا ابن عم، قد جئتك من عند أَوْصَلِ الناس، وأبرِّ الناس، وخيرِ الناس.. لا تُهلِك نفسك، إني استأمنت لك محمدًا ».
فقال لها: أنتِ فعلتِ هذا؟!
قالت: نعم.
وعكرمة بن أبي جهل في ذلك الوقت يرى الدنيا كلها قد ضُيِّقَتْ عليه، فأين يذهب؟ إنه يريد أن يذهب الآن إلى اليمن، واليمن بكاملها مسلمة، وبقاع الأرض تتناقص من حوله، والجميع الآن يدخلون في دين محمد وحِلفه، فأخذ عكرمة قرارًا سريعًا بالعودة معها دون تفكير طويل.
وعاد عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، وقبل أن يدخلها إذا برسول الله يقول لأصحابه كلمات جميلة..
قال: «يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ، وَلا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ».
فأيُّ أخلاق كريمة كانت عند رسول الله هذه؟!!
لقد كان أبو جهل فرعون هذه الأمة، ومع ذلك فالرسول يأمر الصحابة –رضي الله عنهم- بألاَّ يلعنوا أبا جهل أمام ابنه عكرمة؛ لكي لا يؤذوا مشاعره، مع أن عكرمة لم يُسلِم حتى هذه اللحظة.
ودخل عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، ومن بعيد رآه الرسول ، فماذا فعل..؟!
هل تذكَّرَ أبا جهل؟!
هل استعاد بذاكرته الغزوات التي شارك فيها عكرمة صادًّا عن سبيل الله؟!
هل فكر في قتال عكرمة للمسلمين منذ أيام عند الخندمة؟!
هل نظر إلى حالة الضعف والهوان الشديد التي جاء بها عكرمة، فأراد أن يُلَقِّنَهُ درسًا يعرف به قوة الدولة الإسلامية؟!
إنه لم يفعل أيًّا من هذا الذي يتوقعه أي سياسي!!
لقد وثب رسول الله إلى عكرمة وما عليه رداء فرحًا به، وانبسطت أساريره وهو يرى عكرمة بن أبي جهل يعود إليه، مع أنه لم يسلم بعدُ، لكن هذه هي طبيعة رسول الله دون تكلُّف..
وجلس عكرمة بين يدي رسول الله ، وقال: يا محمد، إن هذه (وأشار إلى زوجته) أخبرتني بأنك أمَّنتني..!!
فقال الرسول دون تفصيلات ولا شروط: «صَدَقَتْ، فَأَنْتَ آمِنٌ».
فقال عكرمة: إلامَ تدعو يا محمد؟
فقال له: «أَدْعُوكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلاةَ، وَأَنْ تُؤْتِيَ الزَّكَاةَ» وتفعل، وتفعل... وأخذ يعدِّد عليه أمور الإسلام، حتى عدَّدَ له كل الخصال الحميدة.
فقال عكرمة: ما دعوتَ إلا إلى الحق وأمر حسن جميل!!
والقلوب بين أصابع الرحمن يقلِّبُهَا كيف يشاء، ففي هذه اللحظات فقط شعر عكرمة بن أبي جهل أن كل ما ذكره النبي كان حقًّا، وأن كل ما تحدَّثَ عنه قبل ذلك أيام مكة وبعد مكة كان صدقًا، وكان من كلام النبوة والوحي..!!
وهنا قال عكرمة بن أبي جهل : قد كنتَ -والله- فينا تدعو إلى ما دعوت إليه، وأنت أصدقُنا حديثًا، وأَبَرُّنَا بِرًّا، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
وفي لحظة واحدة انتقل عكرمة من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان!!
ثم قال عكرمة رضي الله عنه: يا رسول الله، علمني خير شيء.
فقال الرسول : «تَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
فقال عكرمة رضي الله عنه: ثم ماذا؟
قال: «أَنْ تَقُولَ: أُشْهِدُ اللهَ، وَأُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ أَنِّي مُسْلِمٌ وَمُهَاجِرٌ وَمُجَاهِدٌ».
فقال عكرمة رضي الله عنه هذه الكلمات..
فقال الرسول وهو يعرف أن عكرمة رضي الله عنه ما زال حديث عهد بالإسلام، ويحاول قدر المستطاع أن يقرِّبه إلى الدين: «لا تَسْأَلُنِي الْيَوْمَ شَيْئًا أُعْطِيهِ أَحَدًا إِلاَّ أَعْطَيْتُهُ لَكَ».
فلم يطلب عكرمة بن أبي جهل مالاً، أو سلطانًا، أو إمارة، وإنما طلب المغفرة فقال: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتُكَهَا، أو مسيرٍ أوضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو أنت غائب عنه.
فقال : «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، وَكُلَّ مَسِيرٍ سَارَ فِيهِ إِلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُ فِي هَذَا الْمَسِيرِ إِطْفَاءَ نُورِكَ، فَاغْفِرْ لَهُ مَا نَالَ مِنِّي مِنْ عِرْضٍ فِي وَجْهِي، أَوْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ».
فقال عكرمة رضي الله عنه: رضيتُ يا رسول الله.
ثم قال صادقًا: لا أدع نفقةً كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدٍّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
ووهب عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه حياته للجهاد في سبيل الله ، سواءٌ في حروب الردة أو في فتوح الشام، حتى قُتِلَ شهيدًا رضي الله عنه في اليرموك.
ولننظر كيف بدَّل الله حياته كاملة بحسن استقبال الرسول له، وبتأمينه إياه، وبغفرانه له كل التاريخ الأسود الذي كان له مع المسلمين، وصدق رسول الله القائل: «لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ». وفي رواية: «خَيْرٌ لَكَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ».
وكما فعل رسول الله مع أبي سفيان رضي الله عنه وعكرمة رضي الله عنه فعل مع كثيرٍ غيرهما، وكان موقفه مع صفوان بن أمية رضي الله عنه من أروع مواقف التاريخ قاطبة.