استعدادات المسلمين لغزوة أحد
رسول الله يتأهّب للمعركة
سيف عربيوصلت أنباء الاستعدادات القرشية للمدينة المنورة، فكان أول ما فعله رسول الله مع أصحابه الشورى، وانبثق عنها عدة أمور:
أولاً: تأمين المدينة المنورة، فكانت هناك فرقة لحماية رسول الله ، فهو بلا شك مستهدف، وربما تحدث أيّ جريمة اغتيال، وهذا سيؤثر حتمًا على المدينة المنورة، وكان على رأس هذه الفرقة التي تحمي الرسول كبار الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، وكانت هذه فرقة من أقوى الفرق الإسلامية، وبدأت مهمتها بإحاطة بيت الرسول والمسجد النبوي، والسير معه في كل وقت وفي كل مكان.
ثانيًا: عمل فرق لحماية مداخل المدينة المنورة، حتى لا يباغت المسلمون ليلاً أو نهارًا.
ثالثًا: عمل دوريات مراقبة حول المدينة المنورة؛ لاستطلاع مكان وخطوات وتحركات جيش المشركين.
رابعًا: الجميع في المدينة المنورة، سواء من المهاجرين أو الأنصار (الأوس والخزرج)، كانوا لا يتحركون إلا بالسلاح، وفي أثناء الصلاة أيضًا يكون معهم سلاحهم، وهذا الأمر يوضح صفة في غاية الأهمية من صفات الجيش المنتصر، وهي الإعداد الجيد؛ مخابرات قوية ومتمكنة أتت بالأخبار، حماية قوية للقائد ، حماية قوية للمدينة واستعداد كامل للقتال.
قرار القتال خارج المدينة
بدأ المسلمون في التفكير في الأمر ماذا يصنعون، هل يخرجون لملاقاة الجيش القادم خارج المدينة المنورة، أم ينتظرون قدومه إليهم؟ هل يحددون أرض المعركة أم يتركون ذلك لعدوهم؟
وقبل أن يحددوا موقفهم من هذا الأمر قصَّ رسول الله عليهم رؤيا، وقال لهم : "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ خَيْرًا؛ رَأَيْتُ بَقَرًا يُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثُلْمًا[1]، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ"[2].
فرسول الله رأى ثلاثة أشياء:
1- رأى أن بقرًا يُذبح، وأوَّلَ ذلك أن نفرًا من أصحابه يُقتلون.
2- رأى أن في سيفه كسرًا، فأوَّلَ ذلك بأن رجلاً من أهل بيته يُصاب.
3- رأى أنه أدخل يده في درع حصينة، وأوَّلَ ذلك بالمدينة المنورة، أي أنه يقاتل في داخل المدينة المنورة.
وهو عندما قصَّ للمسلمين هذه الرؤيا لم يقصها على أنها قرار يجب عليهم أن يأخذوا به، ولكنه عرضها عليهم في صورة رأي يستأنسون به، ولأنه لو كان وحيًا ما جاز له أن يستشيرهم فيه، فهو يشير من بعيد إلى أنه يفضل أن يقاتل في داخل المدينة المنورة، وقد صرَّح بعد ذلك بهذا الرأي فقال: "يُقَاتِلُ الْمُسِلْمُونَ عَلَى أَفْوَاهِ الأَزِقَّةِ، وَالنِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ". أي أنهم لو ظلوا في المدينة المنورة سيضطر جيش مكة إلى دخول المدينة، وستكون الحرب حرب شوارع، وهذه الحرب سوف تكون صعبة جدًّا على الجيش المهاجم.
لكنَّ معظم المسلمين وخاصةً من لم يشاركوا في بدر، كانوا في شوق إلى قتال المشركين خارج المدينة المنورة، حتى قال قائلهم: "يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم". وكان من أشد المتحمسين للخروج حمزة بن عبد المطلب ، وقد قال كلمة عجيبة لرسول الله : "والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم طعامًا حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة"[3].
وكان معظم الناس على هذا الرأي، ولم يكن على رأي الرسول إلا القليل من الصحابة جميعًا.
وممن كان على رأي الرسول أيضًا زعيم المنافقين عبد الله بن أُبيّ بن سلول، ولم يكن هذا لاقتناعه برأي الرسول ، ولكن ليسهل عليه الفرار في داخل المدينة المنورة، لكن الرسول في نهاية الأمر نزل على رأي الشورى، حتى وإن كان مخالفًا لرأيه، وإن كان يتأوَّل في رؤياه أن نفرًا من أصحابه سوف يقتلون، وأن واحدًا من أهل بيته سيُصاب، وأنه من الأفضل أن يقاتل داخل المدينة، لكنه لما رأى أن ذلك ليس وحيًا من الله I، تنازل عن رأيه لصالح رأي الأغلبية، وقرَّر الخروج من المدينة المنورة لقتال المشركين.
استنفار المدينة للقتال
صلَّى رسول الله بالناس يوم الجمعة ووعظهم وأمرهم بالاجتهاد والجد، وبشرهم بالنصر إن هم صبروا، وإن هم ساروا على نهج الله وعلى نهج نبيه ، وقد فرح الناس بالخروج وتجهّزوا بنشاط، وبعد أن صلَّى الرسول العصر في ذلك اليوم الجمعة 6 من شوال، حشد أهل العوالي وأهل المدينة المنورة، وجمع أصحابه أجمعين، وبدأ هو شخصيًّا يستعدّ للخروج للقتال؛ فأخذ معه أبا بكر وعمر ودخل بيته ليجهّزاه بعُدَّة الحرب، ولبس العدة الكاملة للحرب، فلبس درعين، وحمل سيفه، وقبل أن يخرج من بيته اجتمع الأنصار مع المهاجرين، وقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: "استكرهتم رسول الله على الخروج، فرُدُّوا الأمر إليه".
إذن، فعموم الصحابة يشعرون أن الأمر على غير رأي الرسول ، ويعلمون أن رأيه هو الأحكم والأعلم والأنسب لأنه رسول الله، فقرروا أن يردوا إليه الأمر مرة ثانية، فلما خرج وهو يرتدي عدة الحرب قالوا له: "يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل". لكن الرسول قد أخذ القرار واستعد واستعد معه الناس للخروج، فقال لهم كلمة جميلة: "مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ -درع الحرب- أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ"[4].
وهذا الأمر يوضح لنا أهمية الحسم وعدم التردد، وهي صفة مهمة من صفات الجيش المنتصر.
وكان قد حفَّز الجيش بالجنة في خطبة الجمعة، وكذلك عندما خرج بعد صلاة العصر، وعندما سمع الناس بعد ذلك نداء الجهاد في سبيل الله خرج الجميع للجهاد، حتى خرج حنظلة بن عامر وكان حديث عهد بعرس، ولكنه خرج مباشرة دون تردد، فالناس في أُحُد خرجوا لله رب العالمين، وكان هذا عموم الجيش المسلم، إلا طائفة المنافقين الذين كانوا في داخل جيش المسلمين، وسوف نرى ما كان من أمرهم.
الإعداد القوي لغزوة أحد
بدأ رسول الله يُعِدّ العدة ويصفُّ الصفوف، فجهّز ألف مقاتل، وجعل على كتيبة المهاجرين مصعبَ بن عمير ، وعلى كتيبة الأوس أُسيد بن حضير، وعلى كتيبة الخزرج الحباب بن المنذر، وجهّز الجيش بمائة درع، ولم يكن مع المسلمين في هذه الموقعة أيّ خيول -وهذا في أصح الروايات-؛ وهذا نظرًا لما كان عليه المسلمون من الفقر.
إذن فقد أَعدَّ النبي الجيش بقدر ما يستطيع من قوة، بدايةً من المخابرات السليمة، وحماية المدينة المنورة، وتجهيز العدة، وإعداد الأفراد وإعداد السلاح، وخرج بهذا الإعداد الجيد، وقد ولَّى قيادة كتائب الجيش إلى عمالقة العسكريين الإسلاميين، مثل مصعب بن عمير وأسيد بن حضير والحباب بن المنذر، وغيرهم من قادة الصحابة، ورَدَّ الأطفال الذين لا يستطيعون القتال مثل عبد الله بن عمر -وكان قد رده في غزوة بدر- وردَّ زيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وأبا سعيد الخدري، وأسامة بن زيد أجمعين.
وسَّد الرسول -إذن- الأمر إلى أهله، هذا ما كان أيضًا في بدر، واليوم نراه ينطبق تمامًا على الجيش المشارك في أُحُد.
وكما ردَّ النبيُّ أحد المشركين ومنعه من المشاركة مع المسلمين في بدر، وقال : "لاَ أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ"[5]، ردَّ كذلك غير المسلمين ومنعهم من المشاركة في أُحُد، فقد جاءت كتيبةٌ -وكانت حسنة التسليح- للاشتراك مع المسلمين في أُحُد، فسأل عنها الرسول ، فقالوا له: هذه كتيبة من اليهود من حلفاء الخزرج. فقال : "هَلْ أَسْلَمُوا؟" فقالوا: لا. فردَّهم الرسول وقال: "قُولُوا لَهُمْ: فَلْيَرْجِعُوا، فَإِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ"[6].
ملمحٌ آخر من ملامح الجيش المنتصر وجدناه في هذا الجيش، وهو الاعتماد على الشباب، وكما نعرف فإن جيش أُحُد هو جيش بدر، مضافًا إليه بعض الناس.
ومما يدل على حرص الشباب على المشاركة في القتال في أُحُد، ما رواه رافع بن خديج عندما لم يجزه النبي ، فَقَالَ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّهُ رَامٍ. وَجَعَلْت أَتَطَاوَلُ وَعَلَيَّ خُفّانِ لِي، فَأَجَازَنِي رَسُولُ اللّهِ ، فَلَمّا أَجَازَنِي قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِرَبِيبِهِ مُرَيّ بْنِ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ -وَهُوَ زَوْجُ أُمِّهِ-: يَا أَبَتِ، أَجَازَ رَسُولُ اللّهِ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَرَدّنِي، وَأَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ. فَقَالَ مُرَيّ بْنُ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ، رَدَدْتَ ابْنِي وَأَجَزْتَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَابْنِي يَصْرَعُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : "تَصَارَعَا". فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللّهِ [7].
فكان هذا اختبارًا للقدرات القتالية للمشاركين في غزوة أُحُد.
وكما نرى في جيش أُحُد؛ الإيمان بالله ، وبرسوله الكريم ، وباليوم الآخر، والتحفيز بالجنة، وحب الموت في سبيل الله، والحسم وعدم التردد، والإعداد الجيد، وتوسيد الأمر إلى أهله، وقيمة الشباب، والشورى والأخوة.
فالجيش بهذه الصفات وعلى هذه الهيئة سوف ينتصر، وقد قال لهم ذلك، وأنهم لو استمروا على هذا النهج سوف ينتصرون، وهذه بشرى من رب العالمين لكل من أخذ بهذه المبادئ.
انسحاب المنافقين
خرج الجيش الإسلامي وتوجه في طريق أُحُد، لأنه يعرف أن جيش المشركين يعسكر بالقرب من أُحُد، وحاول الرسول قدر استطاعته التكتم أثناء السير، وسار من وسط المزارع التي تقع حول المدينة المنورة، حتى لا يُكتشف أمره من قِبَل الجيش المشرك، ووصل إلى منطقة أُحُد، ومن بعيدٍ رأى جيش المشركين.
وبينما هم على مسافة قريبة من أُحُد حدث أمر هائل في الجيش المسلم.
خرج عبد الله بن أُبي بن سلول في حركة تمردٍ على المسلمين، وأبدى أنه غير موافق على القتال في هذه المعركة، متعلّلاً بأنه لم يكن من الموافقين على رأي الخروج من المدينة، ورجع هو ومن على شاكلته وكانوا ثلاثمائة، أي ما يقرب من ثلث الجيش.
وناشد عبد الله بن حرام -والد جابر بن عبد الله- المنافقين وهم ينصرفون من أرض المعركة، يقول لهم: "تعالَوْا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا". فقالوا: "لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع". وحاول معهم كثيرًا لكنهم رفضوا تمامًا، فقال لهم : "أبعدكم الله أعداء الله! فسيغني الله عنكم نبيه"[8].
ونزل بعد ذلك قول الله : {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].
ربما يتصور أحد أن هذه خسارة للجيش المسلم، لكن على العكس من ذلك، قال الله يصف حال المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
فوجود المنافقين في الصف المسلم خطر كبير، ليس فقط لأنهم سوف يكونون عينًا على المسلمين، أو يُدلِون بآراء فاسدة للجيش المسلم، لكن الأخطر أنهم قد يثيرون بعض الشبهات في داخل الجيش المسلم، والتي تجعل بعض المؤمنين الصادقين يترددون في أمر القتال، وهذا عينُ ما حدث في غزوة أُحُد، فهذه الكلمات التي قالها عبد الله بن أُبيّ في أرض المعركة، أو قبيل دخول أرض المعركة بقليل، قد أثَّرت هذه الكلمات في طائفتين من المسلمين الصادقين المؤمنين: طائفة بني حارثة من الأوس، وطائفة بني سلمة من الخزرج؛ فهاتان الطائفتان فكرت كل منهما جديًّا في أمر الرجوع، لولا أن الله ثبّتهم بصدق إيمانهم، وقد وقف معهم الرسول والصحابة ، وأقنعوهم بالبقاء في أرض المعركة حتى يكملوا اللقاء، وفي حقهم نزل قول الله : {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
[1] أي كسرًا في حدِّ سيفه صلى الله عليه وسلم.
[2] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 2005م، ص227.
[3] المباركفوري: الرحيق المختوم ص227.
[4] المباركفوري: الرحيق المختوم ص228.
[5] رواه مسلم (1817) ترقيم عبد الباقي، والترمذي (1558) ترقيم أحمد شاكر، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1101).
[6] الزيلعي: نصب الراية لأحاديث الهداية، مؤسسة الريان للطباعة والنشر - بيروت/ دار القبلة للثقافة الإسلامية - جدة، الطبعة الأولى، 1997م، 3/423، 424.
[7] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/216.
[8] المباركفوري: الرحيق المختوم ص229.