قريش تستخدم الحرب النفسية
الحرب النفسيَّة ضد المسلمين
فسيكفيكهم اللهأرسلت قريش رسالة إلى المسلمين قالت لهم: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم، ونبيد خضراءكم في عقر داركم.
أسلوب التهديد والوعيد، وهو أسلوب قديم حديث، استُخدم قديمًا ويستخدم حديثًا، هذا الأسلوب وإن كان يُحتمل أنه من قبيل الحرب النفسيّة الوهميّة على المسلمين، إلا أن المسلمين أخذوه مأخذ الجدّ والاعتبار. والعقل لا يمنع أن تغزو قريش المدينةَ المنوّرة، أو على الأقل أن تخطط لقتل الرسول ، وقد حاولت قريش قتل رسول الله أكثر من مرة، وآخرها المحاولة التي تمت قبل الهجرة بقليل، وأرادوا أن يضربوا عنقه بأربعين سيفًا في وقت واحد؛ كي يتفرق دمّه بين القبائل كما كانوا يقولون، وقد رصدوا لمن يقتله أو يأسره مائة من الإبل وهذا مبلغ ضخم جدًّا، ولا يستبعد أن ترصد قريش مائة من الإبل لمن يتسلل داخل المدينة ليقتل الرسول ، فهذا محتمل جدًّا.
لأجل هذا كان الرسول كثيرًا ما يبيت ساهرًا حذرًا من غدر قريش. وفي يوم من الأيام تعب من كثرة السهر، فقال كما تروي السيدة عائشة هذا في البخاري ومسلم، تَقُولُ رضي الله عنها: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: "لَيْتَ رَجُلاً صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ". قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلاَحٍ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟" قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : "مَا جَاءَ بِكَ؟" قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ نَامَ[1].
كان هذا هو حال المسلمين في المدينة، ولم يكن هذا الموقف أحد المواقف العارضة أو النادرة، بل كان هذا كل ليلة، ولم تتوقف الحراسة عن رسول الله إلا بعد أن عصمه الله ، لما نزل قول الله: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)"[2].
فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْصَرِفُوا؛ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ"[3].
وهذه الخاصية كانت لرسول الله ، فقد عصمه الله تعالى من الناس، لكن عموم القيادات الإسلاميَّة لا بد أن تحمي نفسها من أعدائها.
وهذا التهديد لم يكن خاصًّا بالرسول فحسب، بل كان لكل من آمن معه كافَّة وبخاصَّة القيادات الإسلاميَّة.
ولا ننسى أن قريشًا قد رصدت قبل ذلك مائة ناقة لمن يأتي بأبي بكر الصديق حيًّا أو ميتًا، وكان هذا هو حال كل القيادات الإسلاميّة؛ قال أُبَيُّ بن كعب: "لما قدم الرسول وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة؛ فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه"[4].
فاغتيال الزعامات الإسلاميَّة هدف لأعداء الأمة. وهذه الحرب النفسيّة من قريش ضد المسلمين لم تفلح أيضًا، فماذا تفعل قريش؟!
قطع العلاقات الدبلوماسيّة مع المدينة المنوَّرة
كانت قريش تفتخر على غيرها من القبائل بأنها تسقي الحجيج، وتعمِّر البيت الحرام، وكانت القوانين والأعراف في الجزيرة العربية كلها، بل في مكّة نفسها وفي قريش تقضي بأن من يريد أن يدخل البيت الحرام فهو آمن، بل يُكرم ويُرعى ويُخدم.
وقد تنكّرت قريش لكل هذا، ونسيت أو تناست القوانين والأعراف، وقررت أن تمنع أهل المدينة من البيت الحرام، وأن تعربد في الأرض كما يحلو لها.
موقف سعد بن معاذ وأبي جهل
ويتضح هذا الأسلوب جليا فيما رواه البخاري عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ صَدِيقًا لأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا، فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ؛ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ. فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ، مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ وهنا نلاحظ تجاهل أبي جهل لسعد بن معاذ مع أنه يعرفه جيدًا فهو سيد الأوس، فَقَالَ: هَذَا سَعْدٌ. ومن إجابة أمية يتضح أن أبا جهل على معرفة بسعد بن معاذ، فقد اكتفى أمية بن خلف بالإشارة إلى اسمه فقط ولم يعرّفه بأكثر من ذلك، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلاَ أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا، وَقَدْ أَوَيْتُمْ الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلاَ أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا. فهذا تهديد خطير من أبي جهل، وقد فقد كل صوابه وحنكته وحكمته في التعامل مع قبيلة قويّة مثل قبيلة الأوس أو الخزرج، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ -وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ-: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ، طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ[5].
فهذا موقف جليل من صحابي جليل سعد بن معاذ ، يحتاج منا إلى وقفة.
إن التذلل والخضوع والخنوع لزعماء الكفر وقادة الضلال وجبابرة الأرض، لا يزيدهم إلا كبرًا وغطرسةً وظلمًا وجورًا، أما الوقوف بهذه الوقفة الجادة الحاسمة، فلا شك أنه يزلزل كيانهم، ويهزّ أعصابهم.
ونلاحظ أن سعد بن معاذ كان واقعيًّا جدًّا في تهديده، فلم يهدِّد بقتل أو بغزو مكّة أو بالقدوم إلى مكَّة للعمرة رغمًا عن أنف أبي جهل، ولكن هدَّده بما يملك.
وهنا لم يفقد سعد بن معاذ مصداقية كلامه، فكان كلامه في غاية التأثير، فهو يعرف مواطن القوة عنده، ويعرف ما بيده، ويعرف ما يضعف عدوه، ويعرف مصالح مكّة، ويعرف حقًّا من أين تُؤكل الكتف، فهذا موقف رجولي يليق بمؤمن.
وربما يسأل البعض: لماذا ردَّ سعد بن معاذ بهذه الغلظة على أبي جهل، بينما ردَّ رسول الله بلطف ولين على عبد الله بن أُبيّ بن سلول المشرك الخزرجيّ مع أنه أساء للنبي القول قبل ذلك؟
والجواب: أن الأمر يختلف لاختلاف الظرف، واختلاف المكان، واختلاف الشخص المشرك الذي دار الحوار معه.
فالرسول كان يتحاور مع عبد الله بن أُبيّ بن سلول زعيم المشركين في يثرب وقبيلته الخزرج، وهم لم يقفوا سدًّا منيعًا أمام الإسلام كما فعلت قريش، بل إن عددًا كبيرًا من الأنصار من قبيلة الخزرج، والمشركون من قبيلة الخزرج بما فيهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول لم يسمعوا عن الإسلام إلا منذ فترةٍ وجيزة، ولم يختلطوا بالرسول وبالمسلمين اختلاطًا كافيًا.
ومن ثَمَّ كان الرسول يؤمل كثيرًا في إسلامهم، ويعتقد أنهم بطبيعتهم الرقيقة المشهورة عن أهل المدينة سيميلون في المعظم إلى الإسلام إن عاجلاً أو آجلاً، فهو لا يريد تصعيد الموقف مع قبيلة الخزرج، بل على العكس يريد امتلاك القلوب وإقناع العقول، وهذا كله إنما يتطلب رفقًا في التعامل ولينًا في الكلام.
أما موقف سعد بن معاذ وأرضاه فهو يختلف تمامًا، فهو موقف مع واحدٍ من أكابر مجرمي قريش، بل مع أعتى عتاتها وأفجر فجارها، مع فرعون هذه الأمة، وبثّ الرعب في قلبه أمر مطلوب، وإشعاره بالقلق والاضطراب واجب شرعيّ، وإثارة خوفه على تجارته وماله وسلطانه هدف إستراتيجي للمسلمين.
وتاريخ أبي جهل يشير إلى أنه لن يؤمن، وخاصَّةً أن رسول الله قد دعا عليه قبل ذلك وقال: "اللهُمَّ عليك بأبي جهل"[6]. ومن هنا فسعد بن معاذ لم يؤمِّل في إسلام أبي جهل لا من قريب ولا من بعيد، ومن ثَمَّ كان قراره حاسمًا، وهو الوقوف بصلابة في وجه أبي جهل لتسجيل نقطة أو نقاط لصالح المسلمين.
وهذه الوقفة لن تخيف أبا جهل على ماله فحسب، بل سيقع الرعب في قلبه من الأنصار ، وسيعلم أن الأنصار الذين وعدوا بحماية الرسول وافون بوعدهم، وحريصون على عهودهم ومواثيقهم، وجاهزون تمامًا للتضحية بعلاقاتهم وأموالهم، بل وأرواحهم في سبيل الدفاع عن رسول الله .
وما من شك أن هذا كله قد أثر تأثيرًا مباشرًا في نفسيَّة جبار قريش أبي جهل.
من هنا كان الاختلاف بين الموقفين؛ موقف الرسول مع عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وموقف سعد بن معاذ مع أبي جهل، وكلاهما صحيح وحكيم، ولكن يجب أن تعرف ظروف وملابسات كل موقف لتدرك الحكمة وتخرج بدروس وعظات لا تقدر بثمن.
لكن هل اكتفت قريش بذلك؟
لقد رأينا تعاملها مع بعض الرموز المشركة داخل المدينة المنوّرة، ورأينا كذلك الحرب النفسية ضد المسلمين والتهديد والوعيد، ورأينا أيضًا قطع العلاقات الدبلوماسيّة مع المدينة، وكيف كان الموقف مع سيد الأوس سعد بن معاذ.
كما رأينا تغيير القوانين والتنكُّر للأعراف، ونكث العهود ومنع المسلمين من الوصول إلى مكّة ظلمًا وقهرًا.
هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.
[1] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2729، 6804). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (2410).
[2] رواه الترمذي في سننه (3046)، ترقيم أحمد شاكر.
[3] السابق نفسه.
[4] رواه الحاكم في مستدركه (3512)، والمتقي الهندي في كنز العمال (4541).
[5] البخاري: كتاب المغازي، باب ذكر النبي r من يقتل ببدر (3734)، ترقيم البغا.
[6] البخاري: كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته (237). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (1794)، ترقيم عبد الباقي.