أخلاق النبي قبل بدء الحرب
مما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء رحمة للبشرية، وإنقاذًا لها من براثن الغواية والضلال، وإخراجًا لها من الظلمات إلى النور، وحتى يصل بالبشر جميعًا إلى أعلى مراتب الأخلاق الإنسانية في كل تعاملاتهم في الحياة، وقد صرَّح صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر حين قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
ومن المعلوم أن العالَمَ عامةً والعرب خاصة في زمن نشأة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بعثته قد ذاق من ويلاتِ الحروب الكثير والكثير، وكانت القبائل العربية تتقاتل فيما بينها لأتفه الأسباب، كما مرَّ بنا، وقد جاء الإسلام العظيم لينتزع الناس من هذه الحياة بالغة السوء، ولينقلهم نقلة هائلة إلى حيث الأمن والأمان والهدوء والسكينة، ومن ثَمَّ كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص ما يكون على إبعاد الناس تمامًا عن الحروب، وعن كل ما يؤدي إليها، انطلاقًا من الرسالة السامية التي جاء بها من عند الله عز وجل نورًا وهدايةً وأمنًا ورحمةً للإنسانية كلها.
ولتوضيح هذه المعاني الراقية كان هذا الفصل الذي يضم ثلاثة مباحث، وهي:
المبحث الأول: الرؤية الإسلامية للسلام والحرب
يدل الخطاب القرآني دلالةً واضحةً على أنَّ القاعدة في التعامل مع غير المسلمين هو تقديم السلام على الحرب، واختيار التفاهم لا التصارع، ومن أدلة ذلك أنَّ القرآن الكريم أورد كلمة السلم بمشتقاتها مائة وأربعين مرة، في حين ذُكِرَت كلمة الحرب بمشتقاتها ست مرات فقط!!
والفرق بين العددين هو الفرق بين نظرة الإسلام إلى كلا الأمرين، ومن ثَمَّ في ميل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كلٍّ منهما؛ ففي معظم أحواله صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن الطرق السلمية والهادئة للتعامل مع المخالفين له، ويحرص على تجنب الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وذلك إلى حدٍ قد يتعجب له جدًا المحللون والدارسون. ففي استنتاجٍ جميل من هذه النسبة يذكر بعض الفقهاء أن كلمة الإسلام مشتقة من السلم، وأن السلام من أبرز المبادئ الإسلامية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، بل من الممكن أن يرقى ليكون مرادفًا لاسم الإسلام نفسه باعتبار أصل المادة اللغوية.
ويرى الشيخ محمود شلتوت أيضًا أن السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة، وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم، فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية.
ويرى شيخ الأزهر السابق جاد الحق -رحمه الله- أنه من الواجب على المسلمين أن يقيموا علاقات المودة والمحبة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، والشعوب غير المسلمة نزولاً عند هذه الأخوة الإنسانية، منطلقًا من الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فتَعَدُد هذه الشعوب ليس للخصومة والهدم؛ وإنما هو مدعاة للتعارف والتوادّ والتحابّ.
ويشهد لهذه الآراء العديد من الآيات التي أمرت بالسَّلْم مع غير المسلمين إن أبدى هؤلاء الاستعداد والميل للصلح والسلام؛ فيقول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وهذه الآية الكريمة من كتاب الله عز وجل تبرهن بشكل قاطع على حب المسلمين وإيثارهم لجانب السلم على الحرب، فمتى مال الأعداء إلى السَّلْمِ رضي المسلمون به، ما لم يكن من وراء هذا الأمر ضياع حقوقٍ للمسلمين أو سلب لإرادتهم.
قال السدي وابن زيد: "معنى الآية: إن دعوك إلى الصلح فأجبهم"، والآية التالية لهذه الآية تؤكد حرص الإسلام على تحقيق السلام، فلو أن الأعداء أظهروا السلم، وأبطنوا الخيانة؛ فلا عليك من نياتهم الفاسدة، واجنح للسلم قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] أي أن الله يتولى كفايتك وحياطتك.
ولهذا كله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر السلام من الأمور التي على المسلم أن يحرص عليها ويسأل الله أن يرزقه إياها، وكان يدعو فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..».
كما كان صلى الله عليه وسلم يكره كلمة حرب ولا يحب أن يسمعها وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةُ».
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُغيّر اسم مَن اسمه حرب إلى اسم آخر أحسن وأجمل، فعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-، قَالَ: "لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا، قَالَ: "بَلْ هُو حَسَنٌ"، فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا، قَالَ: «بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ»، فَلَمَّا وُلِدَ الثَّالِثُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟» قُلْتُ: حَرْبًا، قَالَ: «بَلْ هُوَ مُحَسِّنٌ»، ثُمَّ قَالَ: «سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ وَلَدِ هَارُونَ: شَبَّرُ وَشَبِيرُ وَمُشَبِّرٌ».
فهذه هي نظرته للحرب، وهذه هي نظرته للسلم..
ألا حقًّا ما أرحمها من نظرة!
المبحث الثاني: آخر الدواء الحرب
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ويوجِّهَهُم فيقول لهم مربيًا: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ..».
فالمسلم بطبيعة تربيته الأخلاقية التي يتربى عليها من خلال القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يكره القتل والدماء، ومن ثَمّ فهو لا يبدأ أحدًا بقتال، بل إنه يسعى بكل الطرق لتجنب القتال وسفك الدماء..
وفي آيات القرآن الكريم ما يؤيد هذا المعنى جيدًا، فالإذن بالقتال لم يأتِ إلا بعد أن بُدئ المسلمون بالحرب، وحينئذٍ لابُدَّ من الدفاع عن النفس والدين، وإلا كان هذا جُبنًا في الخُلُق، وخورًا في العزيمة، قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40] وعلَّة القتال واضحة في الآية، وهي أن المسلمين ظُلِموا وأُخرِجوا من ديارهم بغير حقٍ..
ويقول عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، ويقول القرطبي رحمه الله: هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورًا قبل الهجرة بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96]، وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وما كان مثله مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أُمِرَ بالقتال.
ويجب التعليق هنا بأن الأمر بالقتال إنما جاء لمحاربة من يقاتلنا فقط، دون مَن سالمنا، وجاء التأكيد الشديد على ذلك المعنى بقول الله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ثم التحذير للمؤمنين: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] فالله عز وجل لا يحب الاعتداء، ولو كان على غير المسلمين، وفي هذا تحجيم كبير لاستمرار القتال، وهذا فيه من الرحمة بالإنسانية جميعًا ما فيه.
ويقول عز وجل في سورة التوبة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36].
فالقتال هنا مقيَّد، وبحسب قتالهم واجتماعهم لنا؛ يكون فرضُ اجتماعِنا لهم. وعِلَّة قتال المشركين كَافَّة أنهم يقاتلون المسلمين كافة، ومن هنا فإنه لا يجوز للمسلم أن يقاتل من لم يقاتله إلا بعلَّة واضحة، كسلبٍ أو نهبٍ أو اغتصابٍ لحقوقِ المسلمين، أو بسبب ظلم أوقعوه بأحد، والمسلمون يريدون رفع هذا الظلم، أو بسبب منعهم للمسلمين من نشر دينهم، أو إيصال هذا الدين للغير.
وهذه الآية لها دلالة خاصة؛ فهي من آيات سورة التوبة، وهي من أُخريات ما نزل من القرآن، وتمت قراءتها في موسم الحج من العام التاسع للهجرة، وهذا يعني أنها ليست منسوخة، ومن ثَمَّ فحكمها ثابت يقينًا.
ومثل الآية السابقة يقول عز وجل في سورة التوبة أيضًا: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13]، والمقصود بمن نكثوا أيمانهم كفار مكة، وكان منهم سبب خروج النبي صلى الله عليه وسلم فأضيف الإخراج إليهم، وقيل: أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة لقتال أهل مكة للنكث الذي منهم، وعن الحسن: "وَهُمْ بَدَءُوكُمْ" بالقتال، "أَوَّلَ مَرَّةٍ" أي نقضوا العهد، وأعانوا بني بكر على خزاعة، وقيل: بدءوكم بالقتال يوم بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج للعير، ولما أحرزوا عيرهم كان يمكنهم الانصراف، فأبوا إلا الوصول إلى بدر، وشرب الخمر بها.. وقيل: إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم: منعهم إياه من الحج والعمرة والطواف، وهو ابتداؤهم. وبقطع النظر عن حقيقة متى كانت البداية؛ فإن علة القتال عند المسلمين واضحة، وهي أن أعداءهم بدءوهم بالقتال.
فهذه هي الأسباب التي تدعو إلى قتال هؤلاء المشركين، فإن لم يفعلوها لم يكن قتالهم جائزًا، وإذا كانت كل هذه استنباطات فإن واقع المسلمين في زمان الخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يصدق هذا الاختيار، فالمسلمون في فتوحاتهم لم يقاتلوا أو يقتلوا كل المشركين الذين قابلوهم في هذه الفتوحات، بل على العكس لم يقاتلوا إلا من قاتلهم من جيش البلاد المفتوحة، وكانوا يتركون بقية المشركين على دينهم.
هذا واقع قرأناه بأنفسنا في كل الفتوح الإسلامية، وما وجدنا رجلا واحدًا قُتِلَ لمجرد كونه مشركًا.
وعلى هذا يُحمَلُ حديث: «أُمِرْتُ أَنْ أُقاَتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ..» على أنه قتال مشركي العرب، ذلك أنهم كانوا في حالة حرب حقيقية مع المسلمين، فهم يُقال في حقهم هذا الكلام ليس لأنهم مشركون، ولكن لأنهم مقاتلون، أما الوضع في بقية مشركي العالم فمختلف، فإذا اختار المشرك في أي بلد من بلاد العالم أن يبقى على شركه، ويدفع الجزية، فإنَّ ذلك يُقبَل منه، وذلك على مذهب الإمام مالك والأوزاعي وفقهاء الشام، ما دام ذلك المشرك ليس مقاتلاً، وهو ما أراه صحيحًا وموافقًا لما رأيناه في الفتوح بعد ذلك، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس، وقال: «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب»، وليس عُبَّادُ النار بأفضل من غيرهم من المشركين؛ ولذلك ينطبق حكمهم، كما يقول ابن القيم على غيرهم من عموم المشركين في الأرض، أما المشركون في الجزيرة العربية، فكانوا في حالة حرب فعلية مع المسلمين، ومن ثم فحربهم مشروعة، وذلك في أي عرف أو قانون، ولا يُنكِر ذلك إلا جاحد يرى الحق ويتبع غيره.
ومما يؤكّد أن المسلمين لم يكونوا يقاتلون إلا من قاتلهم؛ موقف المسلمين من مشركي الحبشة، فالمسلمون لم يفكروا في حربهم في يوم من الأيام، وهذه ظاهرة جديرة بالاهتمام وتؤيد ما ذهبنا إليه آنفًا من أن الحرب في الإسلام إنما هي ضرورة، دُفع إليها المسلمون، فقد كانت الحبشة قريبة نسبيًّا من المسلمين، وكانوا على دراية بها وبأحوالها كلها، وعلى علم بالضعف الحربي الذي تعانيه إذا قِيست بالفرس والروم، فلماذا -إذن- لم يحاربوها؟
ليس لذلك إلا جواب واحد؛ هو أنها لم تحاربهم، ولم تعدّ عدتها للقضاء عليهم، كما فعل غيرُها، بل إنها كفلت حرية العبادة للمهاجرين الأوّلين الذين فرّوا إليها بدينهم، ثم لم يُعرَف في تاريخها أنها عوَّقت الدعوة إلى الإسلام، أو نَكَّلَت بالدعاة، أو اضطهدت المسلمين، ولو أن الحرب الإسلامية كانت للسيطرة، والجشع، والنهم على الفتح؛ لكانت الحبشة أول بلد حاربه المسلمون.
المبحث الثالث: لماذا قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
تتفاوت دوافع القتال بين الأمم المختلفة؛ فقد يكون الباعث على القتال تسلطًا وفرضًا للقوة كما كان عند الإغريق والرومان، وقد يكون إغارات هوجاء للاستيلاء على الكلأ والماء كما كان عند العرب في الجاهلية، وقد يكون عقيدة في ضمائر شعبٍ آمَنَ – زورًا وبهتانًا – بأنه فوق مستوى الشعوب كما هو عند اليهود، وقد يكون ضرورة أَمْلَتْها السياسة بعد أن حرمها الدين كما كان عند المسيحية.. إلى آخر هذه الدوافع.
ولسنا نجد دافعًا من هذه الدوافع وراء القتال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد جاء التشريع الإسلامي فهذَّب طباع الإنسان، وعدَّل سلوكه، وأعطاه حق الدفاع عن نفسه، ومنعه من العدوان على حقوق الآخرين، وارتفع به عن مستوى الانتقام إلى مستوى العفو؛ فقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 40 - 43].
فمشروعية القتال في الإسلام غيرها في الأنظمة والقوانين، ومن شاء أن يدرس طبيعة الحروب الإسلامية؛ فليدرس طبيعة الإسلام ذاته حتى لا يطبق على هذه الحروب مقاييس غيرها من حروب التوسع والعدوان.
إنَّ رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم للدوافع التي ينبغي أن تقوم الحرب من أجلها واضحة، وهي دوافع لا ينكرها منصف، ولا يعترض عليها محايد. وهذه الدوافع تشمل رَدَّ العدوان، والدفاع عن النفس والأهل والوطن والدين، وكذلك تأمين الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم، وأيضًا حماية الدعوة حتى تُبَلَّغ للناس جميعًا، وأخيرًا تأديب ناكثي العهد.
ومَنْ في العالم ينكر مثل هذه الدوافع للقتال؟!
ومع أن أهداف القتال في الإسلام كلها نبيلة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوفًا أبدًا لحرب الناس، ولا مشتاقًا لقتلهم، وذلك على الرغم من بدايتهم للعدوان، وعداوتهم الظاهرة للمسلمين، وكان من أظهر الدلالات على ذلك أنه كان يدعوهم إلى الإسلام قبل القتال، ولا ينبغي أن يفهم أحدٌ أنه يفعل ذلك ابتداءً، فيبدو وكأنه إكراه على اعتناق الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك عند تعين القتال فعلاً، فإذا حضر الفريقان إلى أرض القتال جعل للفريق المعادي فرصة أخيرة لتجنب إراقة الدماء، وهذه من أبلغ صور الرحمة، لأن الفريق المعادي مستباح الدم الآن، والعفو عنه غير متوقع، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك والقوة في يده، ويستطيع بكلمة واحدة أن يبيد من أمامه، ولكنَّه يرحمهم!
قال ابن القيم في زاد المعاد تحت عنوان: الدعوة قبل القتال: "وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إما إلى الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيب أو بذل الجزية، فإن هم أجابوا إليه قبل منهم وإلا استعان بالله وقاتلهم.
وهذا الخُلق الرائع من إنشاء الإسلام الذي لم يستبح الغدر بأحد قبل إعلامه؛ فجعل الدعوة قبل القتال لازمةً، وتلك قمة لم تسمُ إليها أمة قبل الإسلام أو بعده. فما زال أهل الأديان الأخرى يغدرون بعدوهم، ويتحينون فرصة؛ ليبيدوه ويستحلوا حرماته، بينما لم يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم قومًا قط إلا بعد أن دعاهم إلى الله تعالى".
وعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى خيبر أوصاه قائلاً: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»، فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف -وهو القائد- كان من المتوقع أن يلهب حماسة جنده، ولكنه راح على النقيض يهدّأ من حماسة علي -رضي الله عنه- ويأمره ومن معه بالهدوء والرويَّة، كما هو واضح في قوله صلى الله عليه وسلم: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ»، ويأمرهم بدعوة هؤلاء القوم إلى الإسلام وما يجب عليهم نحو الله عز وجل، ثم هو صلى الله عليه وسلم يخبرهم بالأجر العظيم المترتب على هداية فرد واحد، مما يجعل همَّ الكتيبة المسلمة ليس القتل وسفك الدماء؛ وإنما هداية البشر إلى الله تعالى حتى ينالوا هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل من رب العالمين..
وقد يقول قائل أنه طالما الرسول صلى الله عليه وسلم ليس متشوفًا إلى المعارك والحروب فلماذا هذا العدد الكبير من الغزوات والسرايا في حياته؟!
ونحن نقول نعم.. لقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة غزوات عديدة، وأرسل سرايا وبعوثًا كثيرة، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن في جميع غزواته أو سراياه بادئًا بقتال، أو طالبًا لدنيا، أو جامعًا لمال، أو راغبًا في زعامة، أو موسعًا لحدود دولة أو مملكة؛ بل كل ذلك كان هداية للناس، وتحريرًا للعقول، ورفعًا للظلم، وربطًا للناس برب العالمين بأعلى أساليب العفة والشرف والنُبْل، مما جعل هذه الغزوات أنموذجًا للتعامل الدولي في الحروب والأسارى. وقد تنوع فيها أعداؤه وتعددت دياناتهم ومشاربهم، فمنهم الوثني، واليهودي، والنصراني.
كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية)