أبو بكر الصديق صاحب الرسول في الهجرة
ولئن كان كشف المخطط الإجرامي أمرًا ربانيًّا بحتًا، لم يتدخَّل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن تخطيط عملية الهجرة ذاتها قد تُركت له بشكل كامل، فإن الوحي ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الجريمة التي يعزمون على القيام بها، وذكر له توقيتها؛ لكنه لم يذكر له تفاصيل ما ينبغي أن يفعله لكي تنجح مهمَّته صلى الله عليه وسلم في الهجرة من مكة إلى المدينة، وليس معنى أن الله تعالى قد أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بصدق التوجه إليه لطلب النصرة والتأييد أن الهجرة ستتم بلا إعداد أو ترتيب، وإنما تمام التوكُّل على الله يقضي أن يسأل العبدُ اللهَ تعالى النصر والقوَّة ثم يبذل كل ما في طاقته لإنجاح الأمر.
من يهاجر معي؟!
ولقد كان أول ما سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بداية هجرته هو مَنْ سيصحبه في هذه الرحلة الطويلة؟! فعَنْ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: "مَنْ يُهَاجِرُ مَعِي؟" قَالَ: أبو بكر الصديق [1]. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم الأمة كلها أن الخطوات الناجحة تحتاج دومًا إلى رِفقة وإلى أصحاب، وأنه وإن كان الرسول العظيم، والرجل المؤَيَّد بالوحي فإنه يحتاج في سفره ورحلته إلى صاحب، فكان حريصًا دومًا على الصحبة؛ في مكة والمدينة، وفي السفر والحضر، وفي المسجد والسوق، وفي كل موطن من مواطن حركته وحياته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء تدبير وترتيب كل خطوات الهجرة مشترَكًا بين الصاحبين العظيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
من تخطيط النبي في الهجرة
إننا يجب أن نتدبَّر بوعي فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه في هذه اللحظات النادرة، وهما يُدَبِّران ويُخَطِّطان ويُرَتِّبان لعملية من أخطر العمليات في التاريخ الإسلامي؛ فهما يُريدان أن يخرجا من مكة دون أن يشعر بهما أحد؛ بل من دون أن يشعر أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بأمر الجريمة التي تُدَبَّر له حتى لا يعجل الكفار بجريمتهم.
ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني. بل أخذ -هو وصاحبه- بكل الأسباب الممكنة لإنجاح عملية الهجرة الخطرة؛ خاصة أن هذه الهجرة تعترضها عدَّة مشكلات؛ منها أنه صلى الله عليه وسلم يُريد أن يذهب للصديق رضي الله عنه ليُخبره بأمر الهجرة؛ ولكن دون أن يراه أحد، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم إن كان الصديق رضي الله عنه جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة، التي ستكون بعد ساعات فقط، أم لا؟
ومنها أن الكفار سيأتون بعد قليل لحصار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو اكتشفوا هجرته فسيتبعونه خارج مكة، ولو خرجوا خلفه صلى الله عليه وسلم مباشرة فسيكون احتمال اللحاق به كبيرًا، فكيف يُؤَجِّل رسول الله صلى الله عليه وسلم حركة المطاردة المشركة له؟ ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحتفظ في بيته بأمانات كثيرة، وكان أهل مكة المشركون لا يجدون مَنْ هو أكثر أمانة منه صلى الله عليه وسلم حتى يحفظوا عنده أماناتهم؛ وذلك مع شدَّة عدائهم له، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم على درجة قصوى من الأمانة؛ بحيث إنه في هذا الموقف الخطير ما زال مشغولاً بردِّ هذه الأمانات، ولم يقل: إنها أموال الأعداء، فيجوز الاستيلاء عليها. بل ظلَّ محافظًا على العهد الذي بينه وبينهم، فهذه كانت بعض المشكلات التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُخَطِّط للهجرة.
أبو بكر الصديق الصاحب في الهجرة
وقد وردت عدَّة روايات ثمينة تُوَضِّح لنا ترتيب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمر، وكيف تغلَّب على هذه المشكلات، وفي هذه الروايات من الدروس والعبر ما لا يمكن إحصاؤه.
قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: "فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ[2] قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقَنِّعًا[3] فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بِالثَّمَنِ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ[4]، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ[5]، فَقَطَعَتْ أسماء بنت أبي بكر قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا[6] فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ.
قَالَتْ: ثمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عبد الله بن أبي بكر، وَهُوَ غُلاَمٌ شَابٌّ ثَقِفٌ[7] لَقِنٌ[8] فَيُدْلِجُ[9] مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلاَ يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ[10] بِهِ إِلاَّ وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلاَمُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً[11] مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا[12] عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ[13]، وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا[14]، حَتَّى يَنْعِقَ[15] بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ[16] يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رجلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، هَادِيَا خِرِّيتًا، وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ حِلْفًا[17] فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ"[18].
وفي رواية: "قَالَ أبو بكر رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي نَاقَتَانِ قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ. فَأَعْطَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَاهُمَا -وَهِيَ الْجَدْعَاءُ[19]- فَرَكِبَا فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا الْغَارَ وَهُوَ بِثَوْرٍ فَتَوَارَيَا فِيهِ، فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ غلامًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخُو عَائِشَةَ لأُمِّهَا[20]، وَكَانَتْ لأَبِي بَكْرٍ مِنْحَةٌ فَكَانَ يَرُوحُ بِهَا وَيَغْدُو عَلَيْهِمْ وَيُصْبِحُ، فَيَدَّلِجُ إِلَيْهِمَا ثمَّ يَسْرَحُ فَلاَ يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّعَاءِ، فَلَمَّا خَرَجَ[21] خَرَجَ مَعَهُمَا يُعْقِبَانِهِ[22] حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَقُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَوْمَ بئر معونة"[23].
وعَنْ عروة بن الزبير رحمه الله قَالَ: "لَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، يَعْنِي: رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي أُمِرُوا فِيهَا بِالْقِتَالِ[24]، اسْتَأْذَنَهُ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَكُنْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَبَسَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لَهُ: "أَنْظِرْنِي[25] فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي يُؤْذَنُ لِي بِالْخُرُوجِ". وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَدِ اشْتَرَى رَاحِلَتَيْنِ يَعِدُّهُمَا لِلْخُرُوجِ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اسْتَنْظَرَهُ[26] رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي يَرْجُو مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ، حَبَسَهُمَا وَعَلَفَهُمَا انْتِظَارَ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَسْمَنَهُمَا. فَلَمَّا حَبَسَ عَلَيْهِ خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَطْمَعُ أَنْ يُؤْذَنَ لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَانْتَظَرَهُ، فَمَكَثَ بِذَلِكَ.
فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُمْ بَيْنَا هُمْ ظُهْرًا فِي بَيْتِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إِلاَّ ابْنَتَاهُ: عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ، إِذَا هُمْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ[27]، وَكَانَ لا يُخْطِئُهُ يومًا أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ ظُهْرًا، قَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ يَا نَبِيَّ اللهِ إِلاَّ أَمْرٌ حَدَثَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ، قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ". قَالَ: لَيْسَ عَلَيْنَا عَيْنٌ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ. قَالَ: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَة". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، الصَّحَابَةَ الصَّحَابَةَ. قَالَ: "الصَّحَابَةَ"! قَالَ أَبُو بَكْرٍ: خُذْ إِحْدَى الرَّاحِلَتَيْنِ. وَهُمَا الرَّاحِلَتَانِ اللَّتَانِ كَانَ يَعْلِفُهُمَا أَبُو بَكْرٍ يُعِدُّهُمَا لِلْخُرُوجِ إِذَا أُذِنَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ إِحْدَى الرَّاحِلَتَيْنِ، فَقَالَ: خُذْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَارْتَحِلْهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ".
وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مُوَلَّدًا[28] مِنْ مُوَلَّدِي الأَزْدِ، كَانَ لِلطُّفَيْلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَخْبَرَةَ، وَهُوَ أَبُو الْحَارِثِ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ أَخَا عَائِشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَعبد الرحمن بن أبي بكر لأُمِّهِمَا، فَأَسْلَمَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْتَقَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الإِسْلاَمِ. فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، كَانَ لأَبِي بَكْرٍ مَنِيحَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرًا فِي الْغَنَمِ إِلَى ثَوْرٍ، فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرُوحُ بِتِلْكَ الْغَنَمِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْغَارِ فِي ثَوْرٍ، وَهُوَ الْغَارُ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ فِي الْقُرْآنِ، فَأَرْسَلا بِظَهْرِهِمَا رجلاً مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ حَلِيفًا لِقُرَيْشٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، ثمَّ آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَذَلِكَ الْعَدَوِيُّ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، وَلَكِنَّهُمَا اسْتَأْجَرَاهُ وَهُوَ هَادٍ بِالطَّرِيقِ، وَفِي اللَّيَالِي الَّتِي مَكَثَا بِالْغَارِ كَانَ يَأْتِيهِمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حِينَ يُمْسِي بِكُلِّ خَبَرٍ بِمَكَّةَ، ثمَّ يُصْبِحُ بِمَكَّةَ وَيُرِيحُ عَامِرٌ الْغَنَمَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَحْلِبَانِ، ثمَّ يَسْرَحَ بُكْرَةً فَيُصْبِحُ فِي رُعْيَانِ[29] النَّاسِ وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ، حَتَّى إِذَا هَدَأَتْ عَنْهُمَا الأَصْوَاتُ، وَأَتَاهُمَا أَنْ قَدْ سُكِتَ عَنْهُمَا، جَاءَهُمَا صَاحِبُهُمَا بِبَعِيرَيْهِمَا فَانْطَلَقَا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا بِعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ يَخْدِمُهُمَا وَيُعِينُهُمَا، يُرْدِفُهُ أَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُبُهُ عَلَى رَحْلِهِ، لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ إِلاَّ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَأَخُو بَنِي عَدِيٍّ يَهْدِيهِمَا الطَّرِيقَ..."[30].
وعَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها، قَالَتْ: صَنَعْتُ سُفْرَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى المَدِينَةِ، قَالَتْ: فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ، وَلاَ لِسِقَائِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا بِهِ، فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: "وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلاَّ نِطَاقِي". قَالَ: فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ، فَارْبِطِيهِ: بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ، وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ. "فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ"[31].
من الروايات السابقة يتبيَّن لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ في تنفيذ خُطَّته بسرعة؛ فقد خرج من الظهيرة مُتَّجِهًا إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وهو وقت تخفُّ فيه حركة الأقدام في قيظ مكة، وزيادة في التخفِّي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غطَّى رأسه ببعض الثياب، فلو رآه أحد من بعيد ما أدرك بسهولة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ دخل على الصديق رضي الله عنه في هذه الساعة التي ما جاء فيها إليه من قَبْل طَوَال الأعوام السابقة، حتى إن ذلك لفت نظر الصديق رضي الله عنه، فقال كما تحكي عائشة رضي الله عنها: "فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ".
إلى هنا والصديق رضي الله عنه لا يعلم أنه سيُهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم طلب النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أن يُخْرِجَ مَنْ عنده زيادة في الحذر، فطمأنه الصديق رضي الله عنه أنه ليس بالبيت إلا ابنتاه عائشة وأسماء رضي الله عنهما، فهنا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صديقه بأمر الهجرة!
كان أول ما شغل الصديق رضي الله عنه هو السؤال عن صُحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة، فلمَّا بشَّره الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحبة كان ردُّ فعل الصديق رضي الله عنه عجيبًا إذ إنه بكى من شدَّة الفرح! تقول عائشة رضي الله عنها: "فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ"[32]!
هذه الفرحة الطاغية كانت لأنه سيخرج في هذه الهجرة الخطرة؛ بل شديدة الخطورة! ولا شكَّ أن الصديق رضي الله عنه كان يُقَدِّر خطورة هذه الرحلة، ولا شكَّ أنه كان يعلم أنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك، وقد يُقْتَل؛ لكن كل ذلك لم يُؤَثِّر فيه مطلقًا، فهو يُحِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا لا يُوصف، وكان هذا حبًّا حقيقيًّا غير مصطنع، لازمه في كل لحظة من لحظات حياته؛ منذ آمن وإلى أن مات رضي الله عنه، وبهذا الحبِّ وصل الصديق رضي الله عنه إلى ما وصل إليه.
وقبل أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصديق رضي الله عنه يقول: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هاَتَيْنِ. كان الصديق رضي الله عنه يشعر ويتمنَّى أن يكون صاحبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة؛ فاشترى راحلة أخرى غير راحلته، وبدأ يعلف الراحلتين استعدادًا للسفر الطويل، فلما جاء ميعاد السفر كان الصديق جاهزًا تمامًا، لم يُجَهِّز نفسه فقط؛ بل جهز راحلتين، له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض أن يأخذ الراحلة إلا بثمنها، فَقَالَ: "بِالثَّمَنِ".
نَعَم الصديق رضي الله عنه أنفق معظم ماله على الدعوة؛ ولكن كان ذلك لإعتاق العبيد، وللإنفاق على الفقراء، أمَّا الرسول صلى الله عليه وسلم فمع كونه يقبل الهدية فإنه وجد أن هذه هدية متكلَّفة باهظة الثمن، وهو صلى الله عليه وسلم قد توافر له ثمنها؛ فلم يقبل حينئذٍ أن يأخذها من الصديق رضي الله عنه إلا بالثمن؛ وذلك حتى لا يُثقل عليه؛ خاصةً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس محتاجًا لهذا العطاء.
وقفة مع الصديق رضي الله عنه
وأنا أريد أن أقف هنا مع ردِّ فعل الصديق رضي الله عنه لقرار الهجرة.. فقد كان رضي الله عنه مستعدًّا استعدادًا كاملاً لهذه المهمَّة الكبيرة، وهو استعداد في الواقع يلفت النظر!
كان الصديق رضي الله عنه مستعدًّا استعدادًا نفسيًّا للرحيل وتَرْك الديار والبلاد، دون اعتذار بأي ظرف معوِّق، ولا شكَّ أنه كعامَّة الناس له ظروف تحكم حياته، ولا شكَّ أنه تاجر، وأنه أب، وأنه زوج، وأنه ابن، وأنه.. وأنه.. لا شكَّ أن عنده أمورًا كثيرة تعوقه كبقية البشر؛ ولكنه رضي الله عنه كان يُعطي العمل لله عز وجل قدره الحقيقي؛ ولذلك كان يهون إلى جواره أي عمل آخر.
وكان رضي الله عنه مستعدًّا استعدادًا ماديًّا يُناسب المهمَّة؛ فقد أعدَّ راحلتين مناسبتين؛ حتى دون أن يُطلب منه، وعلفهما بشكل جيِّد ليتمكَّنا من قطع الرحلة الطويلة بأمان. وكان رضي الله عنه مستعدًّا استعدادًا عائليًّا؛ فقد أَهَّلَ بيته لقبول فكرة الهجرة، وأخذ القرار ببساطة مع أنه سيترك خلفه في مكة بناتٍ صغارًا. وكان رضي الله عنه مستعدًّا استعدادًا ماليًّا؛ فقد ادَّخر خمسة آلاف درهم[33] للإنفاق على عملية الهجرة، ولتأمين الطريق، وقد أخذها بكاملها عند خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك لأهله شيئًا من المال، ولسان حاله يقول كما اعتاد دومًا: تَرَكْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ[34].
لقد كان الصديق رضي الله عنه رجلاً يعيش تمامًا للقضية الإسلامية، وحياته كلها في خدمة هذا الدين، وأوراقه كلها مُرَتَّبة لمصلحة الإسلام، وأولوياته واضحة، وأهدافه جلية، وطموحاته عالية ..
هذا هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه!
والجميل أن الصديق رضي الله عنه استطاع أن يزرع هذه المعاني السامية، وهذه الروح النبيلة في أولاده وبناته؛ فنرى جلَّهم يشتركون في إنجاح عملية الهجرة، كما نراهم يَقْبَلون بالتضحية الكبيرة التي فعلها أبوهم بإنفاق المال كله على الدعوة؛ بل نجدهم يبتكرون الوسائل التي تُقنع مَنْ حولهم بأهمية ما يفعله الصديق رضي الله عنه من أجل الدين، وما أجمل موقف أسماء رضي الله عنها وهي تُسكِّن الشيخ الكبير أبا قحافة والد الصديق رضي الله عنه عندما فُجِع بترك الأولاد والبنات الصغار دون مال ..
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّةُ آلاَفٍ فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ: قُلْتُ: كَلاَّ يَا أَبَتِ إنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ، إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلاَغٌ لَكُمْ. وَلاَ وَاللهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُسْكِنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ[35].
[1] الحاكم (4266) وقال: حديث صحيح الإسناد والمتن ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وابن عساكر: تاريخ دمشق 30/73.
[2] نَحْر الظَّهِيرَة: هو حين تبلغ الشمس مُنتهاها من الارتفاع كأنها وصَلَتْ إلى النحر وهو أعلى الصدر، ابن منظور: لسان العرب، 5/195، وقال ابن حجر: نحر الظهيرة؛ أي أول الزوال، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها. ابن حجر: فتح الباري 7/235.
[3] متقنِّعًا؛ أي مغطيًا رأسه. ابن حجر: فتح الباري 7/235.
[4] أحث الجهاز: أحث أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع. والجهاز: ما يحتاج إليه في السفر. ابن حجر: فتح الباري 7/235، 236.
[5] قال ابن حجر: سفرة في جراب؛ أي زادًا في جراب؛ لأن أصل السفرة في اللغة الزاد الذي يُصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد... فاستعملت السفرة في هذا الخبر على أصل اللغة، وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة. ابن حجر: فتح الباري 7/236، والجِراب: وِعاءٌ من إِهاب الشَّاءِ لا يُوعَى فيه إِلا يابسٌ. ابن منظور: لسان العرب، 1/259.
[6] النِّطاقُ: كلُّ ما شدَّ به وسطه غيرُه. والنِّطاق: شبه إزارٍ فيه تِكَّةٌ (التِّكة رباط السراويل) كانت المرأَة تَنتَطِق به... وهو أن تلبس المرأة ثوبها ثم تشدُّ وسطها بشيء، وترفع وسط ثوبها وتُرسله على الأسفل عند مُعاناةِ الأَشغال؛ لئلا تَعْثُر في ذَيْلها. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 10/354.
[7] ثقف: الحاذق، تقول: ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه. ابن حجر: فتح الباري 7/236.
[8] اللقن: السريع الفهم. ابن حجر: فتح الباري 7/236.
[9] فيُدْلج: يخرج. القسطلاني: إرشاد الساري 6/217، وقال ابن حجر: فيَدَّلِج؛ أي يخرج بسحر إلى مكة. ابن حجر: فتح الباري 7/237. وأَدْلَج: سار من آخر الليل، وقيل: أَدْلَجَ القَوم إِذا ساروا من أَول الليل. وقيل: أَيَّ ساعة سرت من أَوَّل الليل إلى آخره فقد أَدْلَجْتَ. وأَدْلَجَ القومُ إِذا ساروا الليلَ كله، انظر: ابن منظور: لسان العرب، 2/272.
[10] يكتادان: أي يُطْلَب لهما فيه المكروه، وهو من الكيد. ابن حجر: فتح الباري 7/237.
[11] منحة: شاة تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشي. انظر: القسطلاني: إرشاد الساري 6/218، ويَرْعَى عليهما مِنْحةً من غنم؛ أي غنم فيها لبن، والمِنْحَةُ عند العرب على معنيين؛ أحدهما: أن يُعطي الرجلُ صاحبه المال هبة أو صلة فيكون له، وأما المِنْحةُ الأُخرى فأن يَمْنَح الرجلُ أَخاه ناقة أَو شاة يَحْلُبها زمانًا وأَيامًا ثم يردُّهَا. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 2/607.
[12] فيريحها؛ أي فيَرُدُّها إِلَى المُراح. بدر الدين العيني: عمدة القاري 21/310، والقسطلاني: إرشاد الساري 8/430، ورَوَّحْتُها بالعشيِّ؛ أي رَدَدْتُها إلى المُراحِ... والمُراحُ: مأْواها ذلك الأَوانَ، وقد غلب على موضع الإِبل، والمُراحُ: حيث تأْوي إِليه الإِبل والغنم بالليل. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 2/455.
[13] رِسْل: اللبن الطري. ابن حجر: فتح الباري 7/237، والرِّسْل: اللَّبن ما كان. ابن منظور: لسان العرب، 11/281.
[14] ورضيفهما؛ أي اللبن المرضوف؛ أي التي وُضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته. ابن حجر: فتح الباري 7/237، والرَّضِيفُ: اللبن يُغْلى بالرَّضْفةِ، والرضفة جمعها الرَّضْفُ، وهي الحجارَةُ التي حَمِيَتْ بالشمس أو النار، ابن منظور: لسان العرب، 9/121.
[15] ينعق: يصيح بغنمه، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم. ابن حجر: فتح الباري 7/237.
[16] الغلس: ظلام آخر الليل. القسطلاني: إرشاد الساري 6/218.
[17] غمس حلفًا؛ أي كان حليفًا؛ وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيمانهم في دم أو خلوق، أو في شيء يكون فيه تلويث؛ فيكون ذلك تأكيدًا للحلف. انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/238.
[18] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، (3692).
[19] الجدعاء؛ أي: الناقة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي تُسَمَّى بالجدعاء، وهي المقطوعة الأذن... وقال ابن الأثير: قيل: لم تكن ناقته مقطوعة الأذان، وإنما كان هذا اسمًا لها. انظر: بدر الدين العيني: عمدة القاري 17/173.
[20] اذكر زواج أم رومان من الطفيل بن سخبرة، وهل تم طلاقها منه أم مات: قال ابن حجر: فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ غُلَامًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخُو عَائِشَةَ... وَفِي قَوْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الطُّفَيْلِ. نَظَرٌ؛ وَكَأَنَّهُ مَقْلُوبٌ، وَالصَّوَابُ كَمَا قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: الطُّفَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ، وَهُوَ أَزْدِيٌّ مِنْ بَنِي زَهْرَانَ، وَكَانَ أَبُوهُ زَوْجَ أُمِّ رُومَانَ وَالِدَةِ عَائِشَةَ، فَقَدِمَا فِي الْجَاهِلِيَّة مَكَّةَ فَحَالَفَ أَبَا بَكْرٍ وَمَاتَ وَخَلَفَ الطُّفَيْلَ، فَتَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ امْرَأَتَهُ أُمَّ رُومَانَ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَعَائِشَةَ؛ فَالطُّفَيْلُ أَخُوهُمَا مِنْ أُمِّهِمَا، وَاشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مِنَ الطُّفَيْلِ. انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/390.
[21] فلما خَرَجَ: هكذا في صحيح البخاري طبعة دار ابن كثير، اليمامة - بيروت، وكذلك طبعة دار طوق النجاة، وفي شروح صحيح البخاري بلفظ: "فَلَمَّا خَرَجَا". أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/390، وبدر الدين العيني: عمدة القاري 17/173، 174، والقسطلاني: إرشاد الساري 6/318.
[22] يُعْقِبَانِهِ؛ أَيْ يُرْكِبَانِهِ عَقَبَةً؛ وَهُوَ أَنْ يَنْزِلَ الرَّاكِبُ وَيَرْكَبَ رَفِيقُهُ، ثُمَّ يَنْزِلَ الْآخَرُ وَيَرْكَبَ الْمَاشِي، هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي الْعَقَبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا يُرْكِبُهُ مَرَّةً وَهَذَا يُرْكِبُهُ أُخْرَى، وَلَو كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّعْبِير بيُرْدِفَانِهِ أَظْهَرَ. ابن حجر: فتح الباري 7/390، وقال بدر الدين العيني: "وقال الكرماني: أي يُردفانه بالنوبة؛ يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُردف عامرًا نوبة وأبو بكر يُردفه نوبة. قلتُ (أي بدر الدين العيني): الذي قاله الكرماني أولى وأوجه، لأن الذي قاله البعض يستلزم أن يمشي النَّبِي صلى الله عليه وسلم، ويركب عامر. وهذا لا شك أن عامرًا كان لا يرضى بذلك ولا أبو بكر، ولا هو من الأدب والمروءة، ويُؤَيِّد ما قاله الكرماني ما قاله ابن إسحاق: لما ركب النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أردف أبو بكر عامرًا مولاهُ خلفه ليخدمهما فِي الطَّرِيق. قلتُ: هَذَا لَا يُنَافِي الإعقاب". انظر: بدر الدين العيني: عمدة القاري 17/174، وقال القسطلاني: يُعْقِبَانه: يُردفانه بالنوبة. انظر: القسطلاني: إرشاد الساري 6/318.
[23] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه (3866).
[24] قال أبو جعفر: فَلَمَّا أَذِنَ اللهُ تعالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم في الْقِتَالِ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [الأنفال: 39]، وَبَايَعَهُ الأَنْصَارُ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ بَيْعَتِهِمْ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْهِجْرَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ، وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ تعالى قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ فِيهَا". فَخَرَجُوا أرسالاً. الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/368، 369.
[25] انْظُرْني معناه: انْتَظِرْني، وأَنْظِرْني: أَخِّرْني، وقيل: معنى أَنْظِرْني: انْتَظِرْني أَيضًا. وتقول العرب: أَنْظِرْني أي انْتَظِرْني قليلاً. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 5/215.
[26] اسْتَنْظَره: اسْتَمْهَلَه. ابن منظور: لسان العرب، 5/215.
[27] إذَا قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ: هُوَ نِصْفُ النَّهَارِ فِي الْقَيْظِ أَيِ الصَّيْفِ. نجم الدين النسفي: طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية ص26، قَامَ قائمُ الظَّهِيرة؛ أَيْ قِيامُ الشَّمْسِ وقْتَ الزَّوال، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَامَتْ بِهِ دابَّتُه: أَيْ وقَفَت. وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا بَلَغت وسَطَ السَّمَاءِ أبْطَأت حَرَكَةُ الظِّلِّ إِلَى أَنْ تزُول، فيَحْسَب الناظرُ المُتأمِّلُ أَنَّهَا قَدْ وقَفَت وَهِيَ سَائِرَةٌ، لَكِنْ سَيْرًا لَا يَظْهَر لَهُ أثَر سَريع، كَمَا يَظْهَر قَبْلَ الزَّوال وَبَعْدَهُ، فَيُقَالُ لِذَلِكَ الوُقوفِ الْمُشَاهَدِ: قام قائم الظهيرة. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/125.
[28] رجل مُوَلَّدٌ: إِذا كان عربيًّا غير محض. والمُوَلَّدة التي وُلِدَتْ بأَرض وليس بها إلا أبوها أو أُمها، والمُوَلَّد: الذي يُولد بين العرب ويَنْشَأُ مع أولادِهم ويَغْذونه غذاء الوَلَد، ويُعلِّمُونه من الأدب مثل ما يُعَلِّمون أَولادَهم. ابن منظور: لسان العرب، 3/467.
[29] رُعْيان جمع راعٍ، وراعي الماشية: حافظُها، والجمع: رُعاةٌ، ورِعاءٌ، ورُعيان. ابن منظور: لسان العرب، 14/325.
[30] الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/375-377، وقال محمد بن طاهر البرزنجي: إسناد صحيح. انظر: صحيح تاريخ الطبري، 2/62، وقال الصوياني: رواه ابن جرير بسند صحيح. انظر: الصوياني: السيرة النبوية 1/279.
[31] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب حمل الزاد في الغزو، (2817)، وأحمد (26973).
[32] مسند إسحاق بن راهويه 2/584 (1161)، وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/485، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/378، وابن كثير: البداية والنهاية 3/218.
[33] عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَتْ: "لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ مَعَهُ: خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ". أحمد (27002)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والحاكم (4267)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني: المعجم الكبير، (20256)، وقال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد 6/59، وقال الصوياني: إسناده صحيح. انظر: السيرة النبوية 1/259، 260، والصحيح من أحاديث السيرة النبوية ص144، وقال أكرم ضياء العمري: السند حسن. انظر: السيرة النبوية الصحيحة 1/211.
[34] عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»، قُلْتُ: مِثْلَهُ. قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا. أبو داود: كتاب الزكاة، باب الرخصة في الرجل يخرج من ماله (1678)، والترمذي (3675)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والدارمي (1660)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن. والحاكم (1510)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود 5/ 365 (1473)، وصحح إسناده الصوياني، انظر: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة 4/ 119، وفي رواية: وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِمَالٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ؟». قَالَ: تَرَكْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ. انظر: أحمد بن حنبل: فضائل الصحابة 1/360 (527)، والدينوري: المجالسة وجواهر العلم 5/383-385، واللفظ له، وقال محققه أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان: إسناده ضعيف، والحديث حسن. وابن عساكر: تاريخ دمشق 30/63، وابن كثير: مسند الفاروق 1/264.
[35] أحمد (27002)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والحاكم (4267)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني: المعجم الكبير، (20256)، وقال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد 6/59، وقال الصوياني: إسناده صحيح. انظر: السيرة النبوية 1/259، 260، والصحيح من أحاديث السيرة النبوية ص144، وقال أكرم ضياء العمري: السند حسن. انظر: السيرة النبوية الصحيحة 1/211.