الإيجابية في حياة أبي بكر الصديق
أبو بكر الصديق بين الإيجابية والتصديق
في اليوم الثاني بدأ رسول الله والمؤمنون الأوائل يتحركون من جديد بالدعوة لانتقاء عناصر جديدة.
والحق أن أبا بكر الصديق كان إيجابيًّا بدرجة لا يمكن وصفها ولا تخيلها، أبو بكر الصديق تحرّك بالدعوة وكأنها أنزلت عليه هو، لم تكن الدعوة عنده مجرد تكاليف من الرسول ، ولكن هو الحب للإسلام الذي ملأ قلب الصديق ، وحبه لحمل الخير لكل الناس، وفي الوقت نفسه حبه هو لكل الناس.
نتج عن حبه للدين وحبه للناس حماسة دعوية على أعلى مستوى تصل إليه من التفكير، وظل الصديق على هذه الروح في حمل الرسالة إلى أن مات ، وظل يحمل همّ الدعوة، ويتحمل مسئولية الإسلام، وكأنه ليس على الأرض مسلم غيره، إيجابية قصوى.
في أول تحرك للصديق أتى للإسلام بمجموعة رائعة من المسلمين الجدد، وقِفْ مع كل اسم لحظة، أو لحظات لتعرف بلاءه في الإسلام ونصرته لدين الله ، لقد أتى الصديق بعثمان بن عفان، وتفكر في سيرة عثمان ، مجهِّز جيش العسرة، ومشتري بئر رومة، وموسع المسجد النبوي، تفكر في خلافته للمسلمين اثني عشر عامًا، تفكر في حياة فيها إنفاق، وفيها علم، وفيها جهاد، وفيها صيام، وفيها قيام، وفيها قراءة للقرآن، فعثمان بن عفان رغم كل هذه الأعمال حسنة من حسنات أبي بكر الصديق t.
- الزبير بن العوام.
- سعد بن أبي وقاص.
- طلحة بن عبيد الله.
- عبد الرحمن بن عوف. رضي الله عنهم أجمعين.
من المؤكد أن أغلب المسلمين يعرفون قدرهم، وما قدموه للإسلام، وهؤلاء الخمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وكلهم في ميزان حسنات أبي بكر الصديق .
الحدث فعلاً عجيب، فهؤلاء لا يغيّرون شيئًا بسيطًا في حياتهم، لا يغيّرون طعامًا أو شرابًا، لا يغيّرون وظيفة أو سكنًا، إنما يغيّرون ديانتهم، يغيّرون عقيدتهم، يغيّرون أمرًا استمرت به مكة مئات السنين، يسبحون ضد التيار.
أي قوة إقناع كانت عند الصديق حتى يقنع هؤلاء الخمسة بأمر الإسلام؟! أي صدق كان في قلب الصديق حتى يهدي الله هؤلاء الخمسة العظام على يده ؟!
والغريب أن هؤلاء الخمسة لم يكونوا من قبيلته (بني تيم) باستثناء طلحة بن عبيد الله .
عثمان أموي، والزبير أسدي، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، من المؤكد أن علاقات الصديق كانت قوية جدًّا، ووثيقة جدًّا بهؤلاء قبل الإسلام، من المؤكد أنهم كانوا يحبونه حبًّا عظيمًا، فالخطوة الأولى في الدعوة كما ذكرنا سابقًا هي الحب.
ثم أيضًا نظرة على الأعمار:
- الزبير بن العوام خمس عشرة سنة.
- طلحة بن عبيد الله ست عشرة سنة.
- سعد بن أبي وقاص سبع عشرة سنة.
- عثمان بن عفان ثماني وعشرون سنة.
- عبد الرحمن بن عوف ثلاثون سنة.
كل هؤلاء أخذوا قرار تغيير الدين والارتباط بالإسلام وتحمل المشاق ومواجهة أهل مكة جميعًا، أخذوا هذا القرار وهم في هذه السن المبكرة.
الزبير وطلحة وسعد لو كانوا في زماننا لكانوا في المرحلة الثانوية.
هل أولادنا في هذه المرحلة عندهم من الوعي والإدراك، وتحمل المسئولية والقدرة على الفهم والتفكير واستنباط الصحيح من الخطأ، والحق من الباطل مثل الذي كان عند هؤلاء الشباب من الصحابة؟
كثيرًا ما يحزن المرء عند رؤية بعض شبابنا في هذه المرحلة العمرية الثمينة، وقد فرغت عقولهم من كل ما هو ثمين أو قيم، لا تجد فيها إلا بعض الأغاني، وبعض المسلسلات، وبعض المباريات، وبعض قصات الشعر، وبعض ألعاب الكمبيوتر، مع أنهم نشئوا في بيوت مسلمة، وبين آباء وأمهات مسلمين، وربما عاشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم ينشئوا كما نشأ الزبير وطلحة وسعد في بيوت كافرين.
ولست أدري أين الخلل؟ أين تكمن المشكلة؟
لا ننكر أن هناك دورًا كبيرًا يقع على فساد الإعلام وفساد التعليم. لكن يقع على كاهلنا أيضًا جزء كبير من هذا الأمر، ولعلنا لا نعطي الشباب وقتًا كافيًا من حياتنا، لعلنا نستقلّ بإمكانيتهم، ونستصغر عقولَهم، ونستقلّ بأفكارهم.
ودائمًا ما نردد: الولد ما زال صغيرًا. أكمل المرحلة الثانوية وما زال صغيرًا، وانتهت الجامعة وهو صغير، وقد يتزوج وما زال صغيرًا.
أحيانًا بلوغ العقل عند بعضنا قد يجاوز الأربعين، ولا يعتمد على نفسه، ولا تعتمد عليه أمته إلا بعد أربعين عامًا.
الأمر يحتاج لعدة وقفات، فالشباب هم قوة كامنة، فلو منحوا تربية وجهدا، بإمكانك أن تأخذ منهم كما أخذ النبي من الزبير وطلحة وسعد وغيرهم من الصحابة.
نحن نحتاج إلى إعادة تنسيق لأفكارنا وترتيب لأوراقنا وتنظيم لأولوياتنا وأهدافنا بعد دراسة السيرة النبوية، نحتاج إلى إعادة نظر، وإلى وقفة مع أبنائنا.
نعود إلى الصديق وحركته في سبيل الله، قد نتخيل أن الصديق يأخذ قسطًا من الراحة بعد الإنتاج العظيم في يوم واحد، لكن سبحان الله، يبدو أن النشاط يولد نشاطًا، وأن الحركة تولد حركة، وأن العمل يولد عملاً، فالترس الذي لا يعمل يصدأ، في الأيام التالية جاء الصديق بمجموعة جديدة من عمالقة الإسلام، من هم؟
- أبو عبيدة بن الجراح من بني الحارث بن فهر، أمين هذه الأمة حسنة من حسنات الصديق.
- عثمان بن مظعون من بني جمح، من كبار الصحابة ومن أوائل المهاجرين إلى الحبشة.
- الأرقم بن أبي الأرقم من بني مخزوم، ست عشرة سنة.
- أبو سلمة بن عبد الأسد، زوج أم سلمة من بني مخزوم.
وعجيب جدًّا أن يأتي الصديق باثنين من بني مخزوم؛ لأن قبيلة بني مخزوم تتنازع لواء الشرف مع قبيلة بني هاشم قبيلة رسول الله ، فكأنه قد أتى باثنين من عقر دار الأعداء.
كان لدى أبي بكر الصديق قوة إقناع كبيرة جدًّا، وكان للصدق في الدعوة مكانٌ كبيرٌ في قلب أبي بكر الصديق.
وبعض هؤلاء الصحابة له علاقة مباشرة برسول الله ، وكان من الممكن أن يتركهم الصديق لرسول الله .
- الزبير بن العوام هو ابن عمة رسول الله السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها.
- وأبو سلمة بن عبد الأسد هو ابن عمة رسول الله السيدة برة بنت عبد المطلب.
- سعد بن أبي وقاص خال النبي .
لكن الصديق يشعر أن الدعوة دعوته، فهو لا يضيع وقتًا، ولا يضيع فرصة، ومن هنا سبق الصديق.
ولو شعر كل واحد منا بأن هذا الدين هو دينه وأنه مسئول عنه، وشعر بالغيرة الحقيقية على دين الإسلام كما شعر بذلك أبو بكر الصديق لاستطاع أن يصل بهذا الدين إلى قلب كل إنسان حتى ولو لم يعرفه.
هذا هو الصديق، وهؤلاء هم المخلصون الذين نتشبه بهم، ونقتفي أثرهم.
ولم يترك الصديق بيته، فالصديق لا يعاني من المرض الذي يعاني منه كثير من الدعاة، يعلمون الناس الإسلام، ويتركون دعوة أهلهم، وأحوج الناس لهم، والحق تبارك وتعالى يقول في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التَّحريم: 6].
إنما ذهب الصديق إلى بيته وأدخل في الإسلام أهل بيته فدعا زوجته أم رومان وأولاده أسماء وعبد الله فآمنوا، أما السيدة عائشة فولدت في الإسلام، والابن الأكبر عبد الرحمن تأخر إسلامه إلى عام الحديبية.
- أعتق الصديق غلامه عامر بن فهيرة بعد أن دعاه إلى الإسلام وأسلم.
- دعا الصديق بلال بن رباح إلى الإسلام فأجاب، ثم اشتراه وأعتقه في سبيل الله.
حركة دائبة، ونشاط لا يتخلله فتور، هذا هو الصديق .
وقفات مع استجابة الناس لدعوة الصديق
الوقفة الأولى
لماذا اسْتُجيب للصديق بهذه الصورة؟ المسألة ليست فقط إيجابية وحركة، كثير من المسلمين يتحرك، ومع ذلك لا يستجيب الناس لدعوته، بل إن كثيرًا من المسلمين ينفرون الناس من دين الله، وهم يعتقدون أنهم يتحركون له، حتى قال رسول الله : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ".
لا بد أن الصديق قد اتصف بصفات لازمة لكل داعية جعلت دعوته قريبة إلى قلوب الناس، فإلى جانب الصدق والتواضع والمروءة والعفة، فقد كان يتميز بصفات مهمة ذكرها طلحة بن عبيد الله في يوم إسلامه، يقول طلحة بن عبيد الله أحد حسنات الصديق:
- كان رجلاً سهلاً محببًا موطأ الأكناف (أي ليّن الجانب)، ليس بالفظِّ ولا بالغليظ.
- وكان تاجرًا ذا خلق واستقامة.
والمال فتنة، وكثير من التجار يخسرون الناس بسبب التجارة، ولكن الصديق كان عكس ذلك، كان يكسب الناس بسبب التجارة، كان تاجرًا صدوقًا، بل صديقًا، كان تاجرًا كريمًا، كان تاجرًا رحيمًا، فيه رأفة، فيه أدب، فيه خلق حسن، كيف لا يحبه قومه؟
- يقول طلحة: وكنا نألفه ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش وحفظه لأنسابها.
كان الصديق عالمًا بعلم زمانه، علم الأنساب، وكانت الطبقة المثقفة في مكة ترتاد مجلسه للتباحث في هذا العلم، فالصديق لم يكن يعطي ابتسامة فقط أو مالاً فقط، إنما كان يعطي علمًا كذلك، وكان من أدبه ألا يطعن في أنساب أحد مع علمه بالنقائص في كل نسب، وهذا من حسن خلقه .
فرجل بهذه الصورة، كيف لا يستجاب له؟!
إذن الأمر لم يأت من فراغ، ولم تكن مصادفة أن يستجيب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام إلى الصديق، وإذا كنت تريد حقًّا أن تصبح داعية، فعليك بدراسة سيرة الصديق .
الوقفة الثانية
هي أن الصديق أتى بهؤلاء، فهل أتينا نحن بأفراد جدد إلى الإسلام؟
ليس بالضرورة أن نأتي بغير مسلمين إلى الإسلام، وليس بالضرورة أن نأتي برجال أمثال عثمان والزبير، ولكن هل تحركنا للدين؟
هل وصلت دعوتنا إلى المسلمين غير الملتزمين بالإسلام؟
هل أتينا إلى المسجد برجل لا يعرف طريق المساجد؟
هل دفعنا إنسانًا إلى قراءة القرآن بعد هجره السنوات الطوال؟
هل شرحنا لمسلم حال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد نسيهم أو تناساهم؟
هل هذبنا من أخلاق أبنائنا وأصحابنا وشركائنا وزبائننا وجيراننا؟
هل وصلنا بالدعوة إلى كل من نعرف؟
مجالات العمل لله لا تُحصى ولا تعد، أبواب الدعوة لا حصر لها، المهم أن يتولد في القلب شعور أنك أنت، وأنت وحدك الذي يحمل هَمَّ الإسلام كله على كتفه، تشعر أنك أنت المسئول، أن القضية قضيتك، وأن المهمة فعلاً مهمتك.
وهذا هو الدرس الذي نخرج به من قصة الصديق .
ولو سمعنا قصة الصديق لمجرد التمتع بها، لم نفهم الغرض الرئيسي من هذا البحث، وهو كيف نبني أمة؟