الخطة النبوية في الهجرة
الوحي يكشف المؤامرة
ما إن انتهى كفار قريش من اجتماعهم على قتل رسول الله حتى نزل جبريل فورًا إلى رسول الله يخبره بأمر الجريمة التي تدبر له، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة. وأمره بالهجرة، فسأل رسول الله جبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصّدّيق. وذلك كما جاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح.
استعداد رسول الله للهجرة
علم رسول الله بخطة قريش، وعلم أن موعد التنفيذ سيكون في فجر اليوم الثاني، ولذلك لا بد من الإسراع في أخذ الخطوات اللازمة للهجرة.
تعالَوْا نَعِشْ مع رسول الله في هذه اللحظات النادرة، وهو يدبر ويخطط ويرتب لعملية من أخطر العمليات في التاريخ الإسلامي، إنه يريد أن يخرج من مكّة هو والصّدّيق دون أن يشعر بهما أحد، بل بدون أن يشعر أحد أن رسول الله قد علم بأمر الجريمة التي تدبر له حتى لا يعجل الكفار بجريمتهم. لم يقل رسول الله إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني، بل أخذ بكل الأسباب الممكنة لإنجاح عملية الهجرة الخطرة، كانت أمام رسول الله عدة مشاكل أراد أن يدبر لها حلاًّ:
أولاً: أنه يريد أن يذهب للصديق ليخبره بأمر الهجرة، ولكن دون أن يراه أحد.
ثانيًا: هل يا تُرى سيكون الصّدّيق جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة، التي ستكون بعد ساعات فقط؟
ثالثًا: لا شك أن الكفار سيأتون لحصار بيت الرسول ، فلو اكتشفوا هجرته فسيتبعونه خارج مكّة، ولو خرجوا خلف الرسول مباشرة فسيكون احتمال اللحاق به كبيرًا، فكيف يؤجل رسول الله حركة المطاردة المشركة له؟
رابعًا: في بيت رسول الله أمانات كان القوم يحفظونها عنده، وسبحان الله كان أهل مكّة المشركون لا يجدون من هو أكثر أمانة من رسول الله حتى يحفظوا عنده أماناتهم، وذلك مع شدة عدائهم لرسول الله ، وقد كان الرسول على درجة هائلة من الأمانة بحيث إنه في هذا الموقف الخطير ما زال مشغولاً بردِّ الأمانات، ولم يقل إنها أموال الأعداء، يجوز الاستيلاء عليها، بل ظلَّ محافظًا على العهد الذي بينه وبينهم.
على الفور بدأ رسول الله يفكر في حل هذه المشاكل فقرر أولاً أن يذهب إلى الصّدّيق ليخبره بأمر الهجرة ولكن في تكتم شديد، فخرج في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يعتد فيه أن يذهب إلى الصّدّيق، وفي الوقت ذاته هو وقت تخلو فيه شوارع مكّة من المارة لشدة الحر. والأمر الثاني الذي قرره هو جَعْل علي بن أبي طالب يقوم بمهمة مزدوجة، هذه المهمة هي أن ينام في فراش رسول الله هذه الليلة، وقد تغطَّى ببردة رسول الله ، فإذا جاء المشركون ونظروا من ثقب الباب وجدوا عليًّا نائمًا في غطاء رسول الله فيظنونه الرسول ، أي أنها عملية تمويه وإخفاء، وبهذا يُعطي الرسول الوقت الكافي للابتعاد عن مكّة. وإلى جانب هذه المهمة الخطرة فإنه على عليٍّ أن يعيد الأمانات إلى أصحابها في اليوم التالي، فلا تضيع حقوق أحدٍ من المشركين.
وبدأ رسول الله في تنفيذ خطته بسرعة، فخرج من الظهيرة متجهًا إلى بيت الصّدّيق ، وزيادة في التخفي فإن الرسول غطَّى رأسه ببعض الثياب، فلو رآه أحد من بعيد ما أدرك بسهولة أنه رسول الله ، ثم دخل الرسول على الصّدّيق في هذه الساعة التي ما جاء فيها إلى الصّدّيق من قبل طيلة الأعوام السابقة، حتى إن ذلك لفت نظر الصّدّيق فقال -كما تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها، وكما جاء في صحيح البخاري-: "فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ".
وحتى هذه اللحظات والصّدّيق لا يعلم أنه سيهاجر مع رسول الله .
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ لأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ". زيادةً في الحذر.
فقال الصِّدِّيق في اطمئنان: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فقال الرسول : "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ".
فقال أبو بكر، وقلبه يكاد ينخلع من اللهفة: الصُّحْبَةُ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
يعني هل سأصحبك في هذه الرحلة؟
فقال الرسول : "نَعَمْ".
هنا لم يستطع أبو بكر أن يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى!!
سبحان الله! تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي.
فبكى من شدة الفرح؛ لأنه سيخرج في هذه الهجرة الخطرة، بل شديدة الخطورة، لا شك أن الصّدّيق كان يقدر خطورة هذه الرحلة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك، وقد يُقتل، لكن كل ذلك لم يؤثّر فيه مطلقًا، إنه يحب رسول الله حبًّا لا يوصف، يحبه أكثر من حب الأم لولدها، هل لو تعرض الابن لخطر ما، أتتركه أمه دون رعاية خوفًا على نفسها من الخطر؟ مستحيل، الصّدّيق كان أكثر من ذلك، كان هذا حبًّا حقيقيًّا غير مصطنع، لازمه في كل لحظة من لحظات حياته، منذ آمن وإلى أن مات ، حتى بعد موت رسول الله ، ما تغيّر حبه في قلب الصّدّيق قَطُّ، وبهذا الحب وصل الصّدّيق إلى ما وصل إليه. وقبل أن يسأل رسول الله عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصّدّيق يقول: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هاَتَيْنِ.
كان الصّدّيق يتوقع أن يكون صاحبًا لرسول الله في الهجرة فاشترى راحلة أخرى غير راحلته، وبدأ يعلف الراحلتين استعدادًا للسفر الطويل، فلما جاء موعد السفر كان الصّدّيق جاهزًا تمامًا، لم يجهّز نفسه فقط، بل جهز راحلتين، له ولرسول الله ، ولكن رسول الله رفض أن يأخذ الراحلة إلا بثمنها، فَقَالَ: "بِالثَّمَنِ".
نعم، الصّدّيق أنفق معظم ماله على الدعوة، ولكن كان ذلك لإعتاق العبيد وللإنفاق على الفقراء، أما الرسول فلا يريد من أحد أن ينفق عليه هو شخصيًّا، فأصرَّ أن تكون الراحلة مملوكة له بماله.
وقفة مع أبي بكر الصديق
وأنا أريد أن أقف هنا مع ردِّ فعل الصِّدِّيق لقرار الهجرة:
- إنه كان مستعدًّا تمامًا، استعدادًا نفسيًّا كاملاً للرحيل وترك الديار والبلاد دون اعتذار بأي ظرف معوِّق، ولا شك أنه إنسان وأنه تاجر وأنه أب وأنه زوج وأنه كذا وكذا، لا شك أن عنده أمورًا كثيرة تعوقه كبقية البشر، ولكنه كان يعطي العمل لله قدره الحقيقي؛ ولذلك كان يهون إلى جواره أي عمل آخر.
- وكان مستعدًّا استعدادًا يناسب المهمة، فقد أعد راحلتين حتى دون أن يطلب منه.
- وكان مستعدًّا استعدادًا عائليًّا، فقد أَهَّلَ بيته لقبول فكرة الهجرة، وأخذ القرار ببساطة مع أنه سيترك خلفه في مكّة بناتٍ صغارًا.
- وكان مستعدًّا استعدادًا ماليًّا، فقد ادَّخر خمسة آلاف درهم للإنفاق على عملية الهجرة، ولتأمين الطريق أخذها بكاملها عند خروجه مع رسول الله ، ولم يترك لأهله شيئًا من المال، ولكنه ترك لهم كما اعتاد أن يقول: تَرَكْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
هذا رجل يعيش للقضية الإسلاميّة، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، أولوياته واضحة، أهدافه جلية، طموحاته عالية.
هذا هو الصِّدِّيق أبو بكر .
جلس الرسول مع أبي بكر يخططان لأمر الهجرة، يحسبان لكل خطوة حسابها، فوضعا معًا خطة بارعة توفر أفضل الفرص للنجاة.
الخطة النبوية في الهجرة
فما عناصر هذه الخطة؟
أولاً: سيخرج رسول الله من بيته في أول الليل، ويأتي إلى الصِّدِّيق في بيته؛ وذلك لتجنب الحصار الذي سيفرض حتمًا على بيت رسول الله .
ثانيًا: سيبقى رسول الله في بيت الصّدّيق جزءًا من الليل، حتى تهدأ الحركة في مكّة تمامًا، وهنا سيأخذ الرسول وصاحبه الصّدّيق الراحلتين وينطلقان في الرحلة.
ثالثًا: سيكون الخروج من بيت الصّدّيق من خلال خوخة (فتحة) في خلف البيت؛ لأنه من المحتمل أن تكون هناك مراقبة لباب البيت، فقد يتوقع المشركون أن يخرج الصِّدِّيق -الصاحب الأول لرسول الله - معه إلى الهجرة.
رابعًا: ستتم الهجرة إلى المدينة عن طريق ساحل البحر الأحمر، وهو طريق وعرٌ غير مألوف لا يعرفه كثير من الناس، وليس هو الطريق المعتاد للذهاب إلى المدينة، وذلك حتى يضمنوا الاختفاء عن أعين المشركين.
خامسًا: سيتم استئجار دليل يصحبهم في هذه الرحلة؛ لأن الطريق غير معروف، والضياع في الصحراء أمر خطير، ولا بد أن يكون هذا الدليل ماهرًا في حرفته، أمينًا على السر، وفي الوقت ذاته لا يشك المشركون في أمره، وقد اتفق الرسول مع الصّدّيق على أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن أريقط، وهو من المشركين وهذا في منتهى الذكاء، فالمشركون لن يشكوا مطلقًا في أمره إذا رأوه سائرًا في خارج مكّة، وهو في الوقت ذاته رجل أمين يكتم السر، وهو رجل في النهاية صاحب مصلحة، فقد اسْتُؤجر بالمال، ولا شك أن أجرته كانت مجزية.
سادسًا: سيتجه الرسول وأبو بكر في أول الهجرة إلى الجنوب في اتجاه اليمن لمسافة خمسة أميال كاملة أي حوالي ثمانية كيلو مترات، وهي مسافة كبيرة، مع أن المدينة في شمال مكّة وليست في جنوبها، ولكن ذلك إمعانًا في التمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا رسول الله ، فلا شك أنهم سيطلبونه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.
سابعًا: سيتم الذهاب إلى غار ثور في جنوب مكّة، وهو غار غير مأهول في جبل شامخ وعر الطريق، صعب المرتقى، وسيبقيان في هذا الغار مدة ثلاثة أيام كاملة، ولن يتحركا في اتجاه المدينة إلا بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة، حين يفقد أهل قريش الأمل في العثور عليهم، فيكون ذلك أدعى لأمانهم، وسوف يتركان الراحلتين مع عبد الله بن أريقط الدليل، على أن يقابلهما عند الغار بعد الأيام الثلاثة.
ثامنًا: سيقوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بدور المخابرات الإسلاميّة في هذه العملية الخطيرة، فهو سيذهب إلى الرسول والصّدّيق كل يوم بأخبار مكّة، وتحركات القرشيّين، وردود الأفعال لخروج الرسول ، وسوف يأتي في أول الليل، وسيبقى مع الرسول والصِّدِّيق طوال الليل ثم يعود إلى مكّة قبل الفجر، ويبيت هناك، ثم يظهر نفسه للناس، فلا يشك أحد في أنه كان مع الرسول وصاحبه.
تاسعًا: سيقوم عامر بن فهيرة مولى الصّدّيق بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام الرسول والصّدّيق ، ثم فوق آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما- بعد ذلك، حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.
عاشرًا: ستقوم السيدة الفاضلة أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق -رضي الله عنها- بدور الإمداد والتموين لهذه العملية الصعبة، فهي ستحمل الطعام والماء، وتتجه به كل يوم إلى غار ثور إلى الرسول وأبيها الصّدّيق ، وستقوم السيدة أسماء بهذا الدور؛ لأنه لن يشك أحد في أمر امرأة تسير في الصحراء، وخاصة أنها كانت في الشهور الأخيرة من حملها، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة أن تحمل الطعام والشراب، وتسير به مسافة ثمانية كيلو مترات في الصحراء، ثم تصعد الجبل الصعب الذي به غار ثور، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة!!
قد تظن هذا الأمر عجيبًا، لكن يزول العجب عندما تعلم أنها قد تربت في بيت الصِّدِّيق .
كان هذا هو العنصر العاشر في الخطة النبويّة - الصّدّيقيّة الرائعة، فتلك عشرة كاملة.
وبذلك استنفد الرسول وصاحبه الصّدّيق وسعهما في إنجاح الخطة، ورفعا أيديهما إلى الله أن يكتب لهما النجاة.
عاد رسول الله إلى بيته بعد وضع الخطة المحكمة، وجهَّز نفسه، واستقدم عليًّا لينام مكانه، وأعطاه برده الأخضر ليتغطى به، وعرفه بالأمانات وأصحابها، ثم جاء وقت الرحيل، والذهاب إلى بيت الصّدّيق ، ولكن اكتشف رسول الله المفاجأة، أحاط المشركون ببيت رسول الله إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي ظن رسول الله أنهم يجيئون فيه.
فكيف تصرف رسول الله ؟ وكيف انتهى الأمر؟
هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.