هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة
الإذن بالهجرة إلى المدينة المنورة
بعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنوّرة، وَقبِلوا أن يستقبلوا رسول الله ، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأبناءهم وأموالهم، بعد كل هذه الأمور العظيمة والتي حدثت في فترة وجيزة جدًّا، جاء الوحي إلى رسول الله يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنوّرة.
كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر؛ الضعفاء والأقوياء، الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، الكل يهاجر إلى المدينة.
هناك مشروع ضخم سيُبْنى على أرض المدينة، مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين، هناك مشروع إقامة أمة إسلاميّة، لا يُسمح لمسلم بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم، انظرْ إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 97- 100].
الهجرة في الإسلام
لم تكن الهجرة أمرًا سهلاً ميسورًا، ولم تكن كذلك ترك بلد ما إلى بلد آخر ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، ليست عقد عمل بأجر أعلى، الهجرة كانت تعني ترك الديار، وترك الأموال، وترك الأعمال، وترك الذكريات، الهجرة كانت ذهابًا للمجهول، لحياة جديدة، لا شك أنها ستكون شاقة، وشاقة جدًّا.
الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة، حرب شاملة، ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل ضد كل العالمين، الحرب التي صورها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري على أنها الاستعدادُ لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة، ليست هروبًا ولا فرارًا، بل كانت استعدادًا ليوم عظيم، أو لأيام عظيمة؛ لذلك عظّمَ الله من أجر المهاجرين: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 58، 59].
صدر الأمر النبويّ لجميع المسلمين القادرين علي الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلي المدينة، لم يكن من همِّه أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، بل كان كل همّه أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين. كان يتصرف كالرُّبَّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على أن كل الركاب في أمان.
القيادة ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية، القيادة مسئولية، القيادة تضحية، القيادة أمانة.
ملامح من هجرة الصحابة
نستطيع أن نلاحظ ملامح مهمة لهجرة الصحابة من مكّة إلى المدينة:
1- الاهتمام بقضية النية
لماذا تهاجر؟
"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
مع أن الهجرة للزواج ليست محرمة، ومع أن الهجرة لإصابة الدنيا الحلال ليست محرمة، لكن هذه هجرة ليست كالهجرة لبناء أمة إسلاميّة.
هيهات أن يكون الذي ترك كل ما يملك ابتغاء مرضات الله وسعيًا لإنشاء أمة إسلاميّة، ورغبةً في تطبيق شرع الله في الأرض، كالذي عاش لحياته فقط، وإن كانت حياتُه حلالاً، إذن قضية النية لا بد أن تكون واضحة تمامًا، وخالصة لله تمامًا.
2- الهجرة الكاملة لكل المسلمين لم تكن إلا بعد أن أُغلقت أبواب الدعوة تمامًا في مكة
فأبواب الدعوة قد أغلقت منذ ثلاث سنوات، بعد موت أبي طالب وموت السيدة خديجة رضي الله عنها، ومنذ ذلك التاريخ والرسول يخطط للهجرة، وكان من الممكن أن يكون مكان الهجرة مختلفًا عن المدينة لو آمن وفد بني شيبان أو بني حنيفة أو بني عامر، ولكن الله أراد أن تكون الهجرة إلى المدينة المنوّرة، لكن المهم هنا في هذه النقطة ملاحظة أن الهجرة لم تكن نوعًا من الكسل عن الدعوة في مكّة، أو المَلَل من الدعوة في مكّة، أبدًا، الدعوة في مكّة من أول يوم وهي صعبة، ومع هذا ما ترك المسلمون بكاملهم البلد إلا بعد أن أُغلقت تمامًا أبواب الدعوة، أما إذا كانت السبل للدعوة مفتوحة ولو بصعوبة، فالأولى البقاء لسد الثغرة التي وضعك الله عليها.
3- الهجرة كانت للجميع على خلاف الهجرة إلى الحبشة
الهجرة من مكة إلى المدينة كانت لجميع المسلمين على خلاف الهجرة إلى الحبشة التي كانت لبعض الأفراد دون الآخرين، والسبب أن طبيعة المكان وظروفه تختلف من الحبشة إلى المدينة، المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا يريدون حفظ أنفسهم في مكان آمن حتى لا يُستأصل الإسلام بالكلية إذا تعرض المسلمون في مكّة للإبادة، ولم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلاميّة في الحبشة، بل كان المسلمون مجرد لاجئين إلى ملك عادل، أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلاميّة تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.
ولماذا تصلح المدينة لإقامة الأمة الإسلاميّة ولا تصلح الحبشة؟
إن هذا ليس راجعًا إلى عامل البعد عن مكّة واختلاف اللغة واختلاف التقاليد فقط، وإن كانت هذه عوامل مهمة، ولكن الاختلاف الرئيسي -في نظري- هو أن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد هو النجاشي الملك الذي لا يظلم عنده أحد، فإذا مات هذا الرجل أو خلع فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم، وقد كاد أن يحدث ذلك، ودارت حرب أهلية كاد النجاشي فيها يفقد ملكه، فما كان من النجاشي إلا أن يسَّر للمسلمين المهاجرين عنده سبيل الهروب، لا يملك لهم إلا هذا، وكان هذا هو أقصى ما يستطيع أن يفعله، فكان الوضع في الحبشة على هذا النحو.
أما في المدينة المنوّرة فالهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين، بل تعتمد على شعب المدينة، أهل المدينة، أنصار المدينة، الجو العام في المدينة أصبح محبًّا للإسلام، أو على الأقل أصبح قابلاً للفكرة الإسلاميّة، ومن ثَمَّ كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعيّة كاملة.
4- الهجرة لم تكن عشوائية، بل كانت بأمر القيادة إلى مكان معين، وهذا الذي أدى إلى نجاح الهجرة، وقيام الأمة، أما أن يهاجر فلان إلى مكان كذا، ويهاجر آخر إلى مكان كذا، ويتفرق المسلمون، فهذا وإن كان يكتب نجاة مؤقتة للأفراد إلا أنه لا يقيم أمة، وعلى المسلمين الفارِّين بدينهم من ظلم ما، أن يفقهوا هذا الأمر جيدًا، الهجرة النبوية إلى المدينة كانت هجرة منظمة مرتبة، أُعدّ لها بصبر وبحكمة وبسياسة وفقه، والعشوائية ليست من أساليب التغيير في الإسلام.
طبيعة الهجرة وطبيعة المهاجرين
أصدر رسول الله أمره إلى المؤمنين بمكّة أن يهاجروا جميعًا إلى المدينة المنوّرة، فخرج المسلمون أفرادًا وجماعات إلى هناك، وبدأت المدينة المنوّرة تستقبل المهاجرين الذين فرّوا بدينهم من مكّة. وقصص المهاجرين كثيرة وعظيمة، ولكن أودُّ الوقوف على أربع قصص فقط، تكشف لنا عن طبيعة الهجرة وعن طبيعة المهاجرين.
قصة هجرة آل سلمة
كان أبو سلمة بن عبد الأسد من أوائل من هاجر، كما كان من أوائل من أسلم، وكان هو وزوجته أم سلمة رضي الله عنها من قبيلة واحدة هي قبيلة بني مخزوم، ومع الشرف والمكانة والوضع الاجتماعي إلا أنهم تركوا كل ذلك، وانطلقوا إلى المدينة المنوّرة، ولكن بعد أن خرج الرجل وزوجته وابنهما سلمة لحقت بهم عائلة أم سلمة وقالوا لأبي سلمة: هذه نفسك غَلَبْتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نَتْرُكُك تسير بها في البلاد؟ فغلبوه على زوجته فأخذوها.
وبالطبع ترك معها ابنهما سلمة، ثم انطلق هو وحيدًا إلى المدينة المنوّرة؛ امتثالاً لأمر الهجرة إلى هناك. أما السيدة أم سلمة رضي الله عنها فبعد أن هاجر زوجها جاء إليها أقارب زوجها، ومع أنهم من نفس القبيلة -قبيلة بني مخزوم- إلا أنهم قالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا. وجاء أقارب أم سلمة يدافعون عن الغلام الصغير، فأخذ الفريقان يتجاذبان الغلام حتى أصابوه بخلع في يده، ثم أخذه في النهاية أقارب أبي سلمة، وتركوا السيدة أم سلمة -رضي الله عنها- وحيدة في مكّة.
لقد هاجر زوجها إلى المدينة، وأُخذ ابنها الوحيد منها، وبقيت بمفردها تحمل في قلبها كل هذه الآلام، فكانت -رضي الله عنها- تخرج كل يوم إلى الأبطح -حيث المكان الذي شهد مأساة التفريق بينها وبين زوجها وابنها- وتظل تبكي من الصباح إلى المساء، ثم تعود إلى بيتها آخر الليل، وظلت تفعل ذلك كل يوم، كم بقيت على هذه الحالة الأليمة؟!
لقد ظلت سنة كاملة أو قريبًا من سنة.
آلام رهيبة تحملتها السيدة العظيمة أم سلمة، وآلام رهيبة تحملها زوجها الجليل أبو سلمة وهو في ديار الغربة وحيدًا، وآلام رهيبة تحملها الطفل الصغير سلمة وهو معزول عن والديه، لا لشيء إلا لأنهما آمنا بالله رب العالمين، لكن هذا هو الطريق الطبيعيّ للجنة، وهذه هي الأثمان التي تشترى بها هذه الجنة.. "أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ".
وبعد عام رقَّ قلبُ رجل من بني عم أم سلمة لحالها، فذهب إلى أهلها وقال لهم: ألا تطلقون هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وولدها. وما زال بهم حتى قبلوا، ثم ذهبت إلى أهل زوجها، فلما علموا أنها ستذهب إلى زوجها أعطوها الغلام، ورأت ابنها واحتضنته بشده بعد عام من الفراق، ثم ما استطاعت صبرًا على فراق زوجها، فما انتظرت أن يتوفر لها صحبة آمنة إلى المدينة، ولكنها أخذت ابنها سلمة، وانطلقت به بمفردها إلى المدينة، والمسافة تقترب من خمسمائة كم، ولكنها قررت أن تقطع كل هذه الصحراء في سبيل الله.
وخرجت السيدة الكريمة أم سلمة مع ابنها تسرع في خطواتها إلى دار الهجرة، ولكن الله الرحيم بعباده سخّر لها من يأخذ بها في صحبة آمنة من مكّة إلى المدينة، سخّر لها جنديًّا من جنوده، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]. لقد سخّر لها رجلاً مشركًا، سبحان الله! رآها عثمان بن طلحة -وكان ما زال على شركه- وهي بالتنعيم على مسافة حوالي خمسة كيلو مترات من مكّة، فقال لها: إلى أين؟ فقالت: أريد زوجي في المدينة. قال: أوَمعك أحد؟ قالت: لا والله، إلا الله ثم ابني هذا. فتحركت النخوة في قلب الرجل المشرك، وأظهر مروءة عالية وقال لها: والله لا أتركك أبدًا حتى تبلغي المدينة. ثم أخذ بخطام ناقتها وانطلق يسحبها إلى المدينة وهو يسير على قدميه.
خمسمائة كيلو متر وعثمان بن طلحة يسير على قدميه ليصل بامرأة وحيدة من مكّة إلى المدينة، وهو لا يرتبط معها بصلة قرابة، وهي وزوجها على دين يكرهه ويحاربه، لكنها النخوة والمروءة. ولما وصلوا إلى قباء، قال عثمان لأم سلمة: زوجك في هذه القرية، فادخليها على بركة الله. فدخلت السيدة أم سلمة إلى المدينة، وعاد عثمان بن طلحة إلى مكّة ماشيًا دون أن ينتظر كلمة شكر أو ثناء من زوج السيدة أم سلمة أو أحد المسلمين.
والحمد لله أن الله قد منَّ عليه بالإسلام في العام السابع من الهجرة، وإلا كنا قد حزنَّا حزنًا كبيرًا على بقاء مثل هذه الأخلاق الرفيعة في معسكر الكافرين.
هجرة صهيب بن سنان الرومي
لم يكن صهيب بن سنان من أهل مكّة، ولم تكن له قبيلة تمنعه، وكان يعمل بصناعة السيوف، وكانت هذه الصناعة تدر عليه مالاً وفيرًا، ثم جاء القرار بالهجرة، فقرر صهيب أن يترك تجارته، ويتجه إلى المدينة ليبدأ حياة جديدة هناك، وعند خروجه وقف له زعماء الكفر بمكّة، فقالوا له: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك.
هنا يفكر صهيب ، يقول في نفسه: ما قيمة المال ولو كان مال الدنيا، إن أنا خالفت أمر رسول الله ، وإن أنا تخلفت عن صحبة المؤمنين، وإن أنا تركت العمل لله ؟! وجد صهيب أن الثمن الذي سيدفعه زهيد للغاية بالقياس إلى ما سيحصله، لم يكن اختبارًا صعبًا على نفس صهيب، لقد قرر أن يشتري الجنة منذ زمن، وكلما مر عليه الوقت ازداد إصرارًا على قراره، قال لهم صهيب في بساطة: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟
هكذا في بساطة، يترك كل ثروته، وكل تعب السنين السابقة!
قالوا -وقد سال لعابهم لثروة صهيب الطائلة-: نعم.
قال صهيب: فإني قد جعلت لكم مالي. وأعطاهم كل ما يملك، وهاجر إلى الله ورسوله ، وبلغ الأمر إلى رسول الله فقال في يقين: "رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ".
ولما رأى رسول الله صهيبًا قال مبشِّرًا له ومهنِّئًا: "رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى". وفيه وفي أمثاله نزل قول الله : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207].
قصة هجرة عمر بن الخطاب
وهي قصة مختلفة جدًّا عن هجرة بقية الصحابة؛ فبينما كان الصحابة عمومًا يهاجرون سرًّا هاجر عمر بن الخطاب جهرًا، لقد وقف عمر بن الخطاب في المسجد الحرام وقال بصوت مرتفع: يا معشر قريش، من أراد أن تثكله أمه، أو يُيَتَّمَ ولدُه، أو تُرَمَّل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي.
يقول هذا الكلام وهو متقلّد سيفه، وفي يده الأخرى عدة أسهم، فلم يخرج خلفه أحد. وهكذا هاجر عمر بن الخطاب علانية.
وهنا سؤال: لماذا هاجر عمر بن الخطاب جهرًا، بينما هاجر الرسول نفسه سرًّا كما سنرى بعد ذلك؟
الواقع أن رسول الله مشرِّع، وسوف يتبعه في طريقته عموم المسلمين سواء في زمان مكّة أو في الأزمان التي ستلي ذلك إلى يوم القيامة، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر ، وليس مطلوبًا منهم ذلك، إنما المطلوب هو الحذر والاحتياط والأخذ بالأسباب الكاملة لضمان سلامة الهجرة، فعملية الهجرة في حد ذاتها ليست هدفًا، إنما الهدف هو الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، فيجب الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة، ولو خرج رسول الله علانيةً لأصبح لزامًا على كل المسلمين أن يخرجوا علانية، وهذا ليس من الحكمة.
ومع ذلك فهجرة عمر بن الخطاب على هذه الصورة لم تكن مخالفة شرعية؛ لأن الرسول لم ينكر عليه هذه الطريقة في الهجرة، وكانت هذه الطريقة وسيلة من وسائل إرهاب أهل الباطل، وقام بها الذي يملك من البأس والقدرة ما يرهب به أعداء الله، وإرهاب أعداء الله أمر مطلوب شرعًا، ونتائجه عظيمة على الدعوة، وأمرنا الله به في كتابه فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
وقد وقعت الرهبة فعلاً في قلوب الكافرين، فلم يخرج خلفَ عمر أحدٌ، بل أكثر من ذلك لقد هاجر مع عمر عشرون من ضعفاء الصحابة، وما استطاع أحد من المشركين أن يقترب منهم، وصدق عبد الله بن مسعود إذ يقول: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة.
هجرة عياش بن أبي ربيعة
كان عياش بن أبي ربيعة ممن هاجر مع عمر بن الخطاب ، وعياش بن أبي ربيعة هو أخو أبي جهل من أمه، وبعد أن وصل عياش إلى المدينة علم أبو جهل بهجرته، فماذا فعل أبو جهل؟
لقد أخذ أخاهم الثالث الحارث بن هشام وانطلق إلى المدينة المنوّرة، سفر بعيد (خمسمائة كيلو متر) وعملية خطرة، ومجازفة كبيرة، وبذل ومجهود وعرق ووقت {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104].
وصل أبو جهل إلى قباء والتقى بأخيه عياش بن أبي ربيعة في وجود عمر بن الخطاب ، قال أبو جهل: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك.
فرقَّ لها عياش، وكان بارًّا جدًّا بأمه.
فقال له عمر بن الخطاب : يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكّة لاستظلت.
فقال عياش (وقد خُدِع بكلام أخويه): أبرُّ أمي، ولي مال هناك آخذه.
قال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما.
ولكن أَبَى عياش إلا أن يعود ليبرَّ قسم أمه.
فقال له عمر: أما إذا قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه؛ فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزمْ ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانجُ عليها.
وخرج عياش وأخواه أبو جهل والحارث بن هشام إلى مكّة، حتى إذا ابتعدوا عن المدينة دبر الأخوان الكافران خدعة وأمسكا بعياش وقيداه بالحبال، ودخلوا به مكّة موثقًا، ثم قالا لأهل مكّة: يا أهل مكّة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
وحُبِس عياش بن أبي ربيعة فترة من الزمان، ولم ينجُ إلا بعد أن أرسل له رسول الله أحد الصحابة وهو الوليد بن الوليد لإنقاذه في مغامرة رائعة.
رسول الله يستعد للهجرة
كانت هذه بعض النماذج لهجرة بعض الصحابة من مكّة إلى المدينة، وواضح أن الأمر لم يكن بسيطًا، بل كانت الهجرة تعني البذل والعطاء والتعب والنصب، كان في الهجرة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، وفوق ذلك فهم يهاجرون إلى المجهول، فكل الصحابة لم يذهبوا قبل ذلك إلى المدينة المنوّرة، ولا يعرفون أهلها ولا طباعهم، ولم يلتقوا باليهود من قبل -وهم موجودون بأعداد كبيرة في المدينة- غير أن المسلمين يعلمون عنهم أنهم قوم سوء وأهل مخالفة لأنبياء الله ورسله، كما أنهم أهل حرب وقتال وقوتهم الاقتصادية لا يستهان بها.
كل هذا كان يصعب من الهجرة، ولكنها كانت خطوة لا بد منها -على خطورتها- لبناء الأمة الإسلاميّة، وهكذا هاجر المسلمون من مكّة، وقد هاجر معظم المسلمين الذين استطاعوا الهجرة في شهري المحرم وصفر من السنة الرابعة عشرة من النبوة، أي بعد بيعة العقبة الثانية بشهر واحد أو أقل، ولم يبقَ في مكّة إلا ثلاثة فقط؛ رسول الله ، وأبو بكر الصّدّيق وعائلته، وعلي بن أبي طالب ، وكان بقاء أبي بكر وعلي رضي الله عنهما بأمر من رسول الله .