هجرة الرسول ووضع الخطة
القلق يغزو قريشا
أما قريش فإنها كانت ترقب الموقف على وجل، فإنها تفاجئ كل يوم بهجرة رجل أو رجلين أو عائلة، بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخلت كثير من ديار مكة من سكانها، وقد أثر ذلك في قريش وزعمائها ،فما منهم من أحد إلا وله قريب أو ابن مهاجر مما مزقهم بين الحب الفطري لأبنائهم وأقاربهم وبين كراهيتهم وتغيظهم على هذا الدين الذي تسبب في هذا الفراق - من وجهة نظرهم، وإلا فإن جهلهم وعنادهم هو السبب في كل ما يحدث - كما أن انتشار الإسلام في الجزيرة سيسلب قريشا زعامتها التي تكتسبها من رعايتها للكعبة؛ لأن الإسلام أيضا يدعو لتعظيم البيت الحرام، كما سيقضي على تجارة بيع الأصنام والخمور وعلى الربا والبغاء.
ولم يكن يخفى على قريش أن الهجرة تمت إلى المدينة المنورة، بدليل ذهاب أبي جهل لإرجاع أخيه عياش بن أبي ربيعة من هناك، ولم تكن هجرة المؤمنين راحةً لأهل مكة المشركين، أبدًا، كان المشركون يدركون أن المسلمين يهاجرون لبناء أمة مسلمة في المدينة المنورة، ولو تمَّ ذلك فلا شك أنهم سيعودون إلى مكة، لا لمجرد السكن فيها، ولكن لحكمها، ووقت يحكمونها فلن يقبلوا أن يظل العرب وغيرهم يتحاكمون إلى( هُبَل) وسدنته، بل سيُحكِّمون رب العالمين كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة عشر عاما قضاها في مكة لهذا الغرض؛ ولذلك كان المشركون في أشد حالات اضطرابهم وقلقهم، أضف إلى ذلك علم أهل قريش ببأس الأوس والخزرج، وأنهم من أهل القتال وأن المدينة حصينة جدًا، وأن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية لأهل قريش والمتجهة من وإلى الشام، ومن ثمَ فإن المدينة تستطيع أن تخنق مكة اقتصاديًا، وكانت مكة تتاجر بربع مليون دينار من الذهب سنويًا مع الشام في رحلة الشتاء، وفوق كل ذلك فالطامَّة الكبرى لو آمنَ اليهود، وانضمت قوتهم إلى قوة المسلمين، وقد كان اليهود ذوي قوة كبيرة عسكريا وماديا، والعقل كان يرجح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب ويؤمنون بالأنبياء، غير أن اليهود لا عقل لهم.
كل هذه الأمور جعلت أهل قريش في حيرة من أمرهم، وقد علموا أنه كلما مرَّ الوقت اقتربت ساعة الصفر التي سيغزو فيها المؤمنون مكة، لكن زعماء قريش كانوا يدركون أيضًا أن ساعة الصفر هذه لن تكون إلا بعد أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويوحد صفوفه، ويجهز جيوشه، ثم يأتي من جديد إلى مكة، إذن فحجر الزاوية في الموضوع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوسيلة الوحيدة لوقف خطر المؤمنين الداهم هو السيطرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم القبيلة العزيزة الشريفة؟!
مجلس شورى قريش يقرر اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
احتار القرشيون المشركون، فقرروا عقد اجتماع عاجل لكبار الزعماء في مكة لتدارس هذا الأمر، وذلك في دار الندوة، المقر الرئيس لاجتماعات قريش.
وفي صباح يوم الخميس 26 صفر من السنة الرابعة عشر للبعثة تم عقد أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، و كان اجتماعًا طارئًا حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية عدا بني هاشم، وكانت أبرز الأسماء في هذا الاجتماع الخطير:
- أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم.
- شيبة و عتبة أبناء ربيعة وأبو سفيان بن حرب عن بني عبد شمس.
- النضر بن الحارث عن بني عبد الدار.
- أبو البختري بن هشام عن بني أسد.
- أمية بن خلف عن بني جمح.
- جبير بن مطعم عن بني نوفل.
- نبيه ومنبه ابنا الحجاج عن بني سهم
وغيرهم، والجميع كانوا من قريش؛ لأنه لم يكن مسموحًا لأحد من غير قريش أن يدخل دار الندوة، ولم أجد دليلًا صحيحًا يؤكد القصة التي جاء فيها أن إبليس قد حضر معهم الاجتماع في صورة الشيخ النجدي، وإن كان- في رأيي- أنه أحيانًا تسبق شياطين الإنس بأفعالها شياطين الجن، ألم تروا أن الله عز وجل قد قدم ذكر شياطين الإنس في عداوتهم للأنبياء على شياطين الجن فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
تم الاجتماع الآثم، وبدأت الأفكار الإجرامية تخرج من زعماء قريش، وتطرح للمداولة، منهم من اقترح أن يقيدوه في بيته بالحبال، فلا يستطيع هجرة ولا حراكًا، ومنهم من اقترح نفيه خارج مكة إلى مكان بعيد، وكانت هذه الأفكار الإجرامية تخرج من الطائفة التي يسمونها بالمعتدلين من زعماء قريش، لكن كانت هناك طائفة أشد إجرامًا وهي ما يسمونها بالطائفة المتشددة، قال رجل من هذه الطائفة- لعله أبو جهل- لا بد من قتل هذا الرجل، يقصدون محمدًا صلى الله عليه وسلم، ووافقت هذه الفكرة هوى عند المعظم، فقلوبهم السوداء كانت تحترق غيظًا وحسدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يكن عندهم الشجاعة للنطق بمثل هذا الرأي، وفوق ذلك فهم يخشون من بني هاشم، غير أن أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي أن يختاروا من كل قبيلة في مكة شابًا قويًا، فيحاصرون بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا تجد بنو هاشم أمامها حلًا إلا قبول الدية في قتيلها؛ فليست لهم طاقة بحرب كل القبائل.
صوَّت الحاضرون على القرار، وسألهم أبو جهل: موافقون؟ قالوا: موافقون.
وخرج زعماء قريش ينتقون من قبائلهم العناصر التي ستقوم بتنفيذ العملية الإرهابية لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
هجرة الرسول r ووضع الخطة
نزل جبريل عليه السلام فورًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر الجريمة التي تدبر له، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق. وذلك كما جاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح.
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخطة قريش، وعلم أن موعد التنفيذ سيكون في فجر اليوم الثاني، ولذلك لا بد من الإسراع في أخذ الخطوات اللازمة للهجرة.
تعالوا نَعِشْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات النادرة، وهو يدبر ويخطط ويرتب لعملية من أخطر العمليات في التاريخ الإسلامي، إنه يريد أن يخرج من مكة هو والصديق رضي الله عنه دون أن يشعر بهما أحد، بل بدون أن يشعر أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بأمر الجريمة التي تدبر له حتى لا يعجل الكفار بجريمتهم، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني، بل أخذ بكل الأسباب الممكنة لإنجاح عملية الهجرة الخطرة، كانت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة مشاكل أراد أن يدبر لها حلًا:
أولًا: إنه يريد أن يذهب للصديق رضي الله عنه ليخبره بأمر الهجرة، ولكن دون أن يراه أحد.
ثانيًا: هل يا ترى سيكون الصديق جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة، والتي ستكون بعد ساعات فقط؟
ثالثًا: لا شك أن الكفار سيأتون لحصار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو اكتشفوا هجرته فسيتبعونه خارج مكة، ولو خرجوا خلف الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة فسيكون احتمال اللحاق به كبيرًا، فكيف يؤجل رسول الله عليه وسلم حركة المطاردة المشركة له؟
رابعًا: في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانات كان القوم يحفظونها عنده، وسبحان الله كان أهل مكة المشركون لا يجدون من هو أكثر أمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحفظوا عنده أماناتهم، وذلك مع شدة عدائهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم على درجة هائلة من الأمانة بحيث إنه في هذا الموقف الخطير مازال مشغولًا برد الأمانات، ولم يقل إنها أموال الأعداء، يجوز الاستيلاء عليها، بل ظل محافظًا على العهد الذي بينه وبينهم.
على الفور بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر في حل هذه المشاكل فقرر أولًا أن يذهب إلى الصديق ليخبره بأمر الهجرة ولكن في تكتم شديد، فخرج في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يعتد فيه أن يذهب إلى الصديق، وفي ذات الوقت هو وقت تخلو فيه شوارع مكة من المارة لشدة الحر، والأمر الثاني الذي قرره صلى الله عليه وسلم هو جَعْل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقوم بمهمة مزدوجة، هذه المهمة هي أن ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقد تغطى ببردة رسول الله عليه وسلم، فإذا جاء المشركون ونظروا من ثقب الباب وجدوا عليًا نائمًا في غطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظنونه الرسول صلى الله عليه وسلم، أي إنها عملية تمويه وإخفاء، وبهذا يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت الكافي للابتعاد عن مكة، وإلى جانب هذه المهمة الخطرة فإنه على عليٍّ رضي الله عنه أن يعيد الأمانات إلى أصحابها في اليوم التالي. فلا تضيع حقوق أحدٍ من المشركين.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تنفيذ خطته بسرعة، فخرج من الظهيرة متجهًا إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غطى رأسه ببعض الثياب، فلو رآه أحد من بعيد ما أدرك بسهولة أنه رسول الله عليه وسلم، ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على الصديق في هذه الساعة التي ما جاء فيها إلى الصديق من قبل طيلة الأعوام السابقة حتى إن ذلك لفت نظر الصديق رضي الله عنه، فقال كما تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها وكما جاء في صحيح البخاري : فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ.
وحتى هذه اللحظات والصديق لا يعلم أنه سيهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ:"أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ. زيادة في الحذر "
فقال الصديق في اطمئنان:إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ".
فقال أبو بكر، وقلبه يكاد ينخلع من اللهفة: الصُّحْبَةُ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
يعني هل سأصحبك في هذه الرحلة؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ.
هنا لم يستطع أبو بكر رضي الله عنه أن يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى...!!
سبحان الله، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي.
فبكى من شدة الفرح؛ لأنه سيخرج في هذه الهجرة الخطرة، بل شديدة الخطورة، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان يقدر خطورة هذه الرحلة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك، وقد يقتل، لكن كل ذلك لم يؤثر فيه مطلقًا، إنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا لا يوصف، يحبه أكثر من حب الأم لولدها، هل لو تعرض الابن لخطر ما، أتتركه أمه دون رعاية خوفًا على نفسها من الخطر؟ مستحيل، الصديق كان أكثر من ذلك، كان هذا حبًا حقيقيًا غير مصطنع، لازمه في كل لحظة من لحظات حياته، منذ آمن وإلى أن مات رضي الله عنه، حتى بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تغير حبه في قلب الصديق أبدًا، وبهذا الحب وصل الصديق رضي الله عنه إلى ما وصل إليه، وقبل أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصديق رضي الله عنه يقول: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هاَتَيْنِ.
كان الصديق رضي الله عنه يتوقع أن يكون صاحبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فاشترى راحلة أخرى غير راحلته، وبدأ يعلف الراحلتين استعدادًا للسفر الطويل، فلما جاء موعد السفر كان الصديق جاهزًا تمامًا لم يجهز نفسه فقط، بل جهز راحلتين، له ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يأخذ الراحلة إلا بثمنها، فَقَالَ: بِالثَّمَنِ.
نعم الصديق أنفق معظم ماله على الدعوة، ولكن كان ذلك لإعتاق العبيد وللإنفاق على الفقراء، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يريد من أحد أن ينفق عليه هو شخصيًا، فأصر أن تكون الراحلة مملوكة له بماله.
وقفة مع الصديق رضي الله عنه
وأنا أريد أن أقف هنا مع رد فعل الصديق رضي الله عنه لقرار الهجرة:
- إنه كان مستعدًا تمامًا، استعدادا نفسيا كاملا للرحيل وترك الديار والبلاد دون اعتذار بأي ظرف معوِّق، ولا شك أنه إنسان وأنه تاجر وأنه أب وأنه زوج وأنه كذا وكذا لا شك أن عنده أمورًا كثيرة تعوقه كبقية البشر، ولكنه رضي الله عنه كان يعطي العمل لله عز وجل قدره الحقيقي، ولذلك كان يهون إلى جواره أي عمل آخر.
- وكان مستعدًا استعدادًا يناسب المهمة، فقد أعد راحلتين حتى دون أن يطلب منه.
- وكان مستعدًا استعدادًا عائليًا، فقد أَهَّلَ بيته لقبول فكرة الهجرة، وأخذ القرار ببساطة مع أنه سيترك خلفه في مكة بنات صغارًا.
- وكان مستعدًا استعدادًا ماليًا، فقد ادَّخر خمسة آلاف درهم للإنفاق على عملية الهجرة، ولتأمين الطريق أخذها بكاملها عند خروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك لأهله شيئًا من المال، ولكنه ترك لهم كما اعتاد أن يقول: تَرَكْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
هذا رجل يعيش للقضية الإسلامية، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، أولوياته واضحة، أهدافه جلية، طموحاته عالية...
هذا هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه.
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر يخططان لأمر الهجرة، يحسبان لكل خطوة حسابها، فوضعا سويًا خطة بارعة توفر أفضل الفرص للنجاة.
خطة بارعة لتضليل المشركين
فما عناصر هذه الخطة؟
أولًا: سيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته في أول الليل، ويأتي إلى الصديق في بيته؛ وذلك لتجنب الحصار الذي سيفرض حتمًا على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه جزءًا من الليل، حتى تهدأ الحركة في مكة تمامًا، وهنا سيأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق الراحلتين وينطلقان في الرحلة.
ثالثًا: سيكون الخروج من بيت الصديق من خلال خوخة (فتحة) في خلف البيت؛ لأنه من المحتمل أن تكون هناك مراقبة لباب البيت، فقد يتوقع المشركون أن يخرج الصِّدِّيق الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم معه إلى الهجرة.
رابعًا: ستتم الهجرة إلى المدينة عن طريق ساحل البحر الأحمر وهو طريق وعر غير مألوف لا يعرفه كثير من الناس، وليس هو الطريق المعتاد للذهاب إلى المدينة، وذلك حتى يضمنوا الاختفاء عن أعين المشركين.
خامسًا: سيتم استئجار دليل يصحبهم في هذه الرحلة؛ لأن الطريق غير معروف، والضياع في الصحراء أمر خطير، ولا بد أن يكون هذا الدليل ماهرًا في حرفته، أمينًا على السر، وفي ذات الوقت لا يشك المشركون في أمره، وقد اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصديق على أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن أريقط، وهو من المشركين وهذا في منتهى الذكاء، فالمشركون لن يشكوا مطلقًا في أمره إذا رأوه سائرًا في خارج مكة، وهو في ذات الوقت رجل أمين يكتم السر، وهو رجل في النهاية صاحب مصلحة، فقد اسْتُؤجر بالمال، ولا شك أن أجرته كانت مجزية.
سادسًا: سيتجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في أول الهجرة إلى الجنوب في اتجاه اليمن لمسافة خمسة أميال كاملة أي حوالي ثمانية كيلو مترات، وهى مسافة كبيرة، مع أن المدينة في شمال مكة وليست في جنوبها، ولكن ذلك إمعانًا في التمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهم سيطلبونه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.
سابعًا: سيتم الذهاب إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار غير مأهول في جبل شامخ وعر الطريق، صعب المرتقى، وسيبقيان في هذا الغار مدة ثلاثة أيام كاملة، ولن يتحركا في اتجاه المدينة إلا بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة، حين يفقد أهل قريش الأمل في العثور عليهم، فيكون ذلك أدعى لأمانهم، وسوف يتركان الراحلتين مع عبد الله بن أريقط الدليل، على أن يقابلهما عند الغار بعد الأيام الثلاثة.
ثامنًا: سيقوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بدور المخابرات الإسلامية في هذه العملية الخطيرة، فهو سيذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه كل يوم بأخبار مكة، وتحركات القرشيين، وردود الأفعال لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي في أول الليل، وسيبقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق طوال الليل ثم يعود إلى مكة قبل الفجر، ويبيت هناك، ثم يظهر نفسه للناس، فلا يشك أحد في أنه كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
تاسعًا: سيقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، ثم فوق آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بعد ذلك، حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.
عاشرًا: ستقوم السيدة الفاضلة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها بدور الإمداد والتموين لهذه العملية الصعبة، فهي ستحمل الطعام والماء، وتتجه به كل يوم إلى غار ثور إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبيها الصديق رضي الله عنه، وستقوم السيدة أسماء بهذا الدور؛ لأنه لن يشك أحد في أمر امرأة تسير في الصحراء، وخاصة أنها كانت في الشهور الأخيرة من حملها، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة أن تحمل الطعام والشراب، وتسير به مسافة ثمانية كيلو مترات في الصحراء، ثم تصعد الجبل الصعب الذي به غار ثور، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة...!!
قد تظن هذا الأمر عجيبًا، لكن يزول العجب عندما تعلم أنها قد تربت في بيت الصديق رضي الله عنه.
وبذلك استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه وسعهما في إنجاح الخطة، ورفعا أيديهما إلى الله عز وجل أن يكتب لهما النجاة.
عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته بعد وضع الخطة المحكمة، وجهز نفسه، واستقدم عليا رضي الله عنه لينام مكانه، وأعطاه برده الأخضر ليتغطى به، وعرفه بالأمانات وأصحابها، ثم جاء وقت الرحيل، والذهاب إلى بيت الصديق رضي الله عنه، ولكن اكتشف رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاجأة، أحاط المشركون ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي ظن رسول الله صلى الله عليه سلم أنهم يجيئون فيه.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}
لقد استنفد الرسول صلى الله عليه وسلم الوسع في الخطة هو والصديق رضي الله عنه، ولكن الطابع المميز لخطط البشر أنها لا تصل إلى الكمال، لا بد من ثغرات في الخطط البشرية، لكن إذا كنت مستنفدًا وسعك الحقيقي فإن الله عز وجل يسدُّ هذه الثغرات بمعرفته، ويكمل العجز البشري بقدرته، لكن دون أخذٍ بالأسباب بكل الأسباب الممكنة لا يسد الله هذه الثغرات، ولا يكمل هذا العجز، هذا لا يكون توكلًا على الله، بل تواكلا، وشتَّانَ بين التوكل والتواكل.
ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الحرج، عشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس والمحاكمة، بل لقد صدر الحكم فعلًا بالقتل، وهم قد جاءوا للتنفيذ، ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
لقد نزل الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنه، ويأمره بالخروج وسط المشركين دون خوف ولا وجل، فسوف يأخذ الله عز وجل بأبصارهم، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة المباركة، ليلة 27 من صفر سنة 14 من النبوة، وهو يقرأ صدر سورة يس، من أولها إلى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
وإمعانًا في السخرية من المشركين، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءًا منها على رأس كل مشرك يحاصر بيته، وهم لا يشعرون، ثم انطلق إلى بيت الصديق رضي الله عنه لاستكمال تنفيذ الخطة، فهي بحمد الله إلى الآن تسير على ما يرام.
كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من البيت قبل قدوم المشركين، لكن الله عز وجل أراد ذلك لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه دون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور، وأيضا ظهرت المعجزة الظاهرة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى الناحية الأخرى كان من الممكن أن يأخذ الله عز وجل أبصار المشركين فلا يقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أذى طيلة حياته، ولكن هذا لم يحدث، لقد أُلقي على ظهره سلا الجزور، ورحم الشاه، وسب بأفظع الألفاظ، ورجم بالحجارة في الطائف، وأصيب في أحد أكثر من إصابة، لم يأخذ الله عز وجل بأبصار المشركين في كل هذه المواقف، ليُعلّم المسلمين طبيعة الطريق، فطريق المسلم فيه كثير من الإيذاء، وكذلك فيه كثير من الأخذ بعيون المشركين، وعيون أعداء الله عز وجل، يحدث ذلك مع كل المؤمنين، نعم يكون الأمر واضحًا كمعجزة مع الأنبياء، لكن قد يفعله الله عز وجل مع المؤمنين دون أن يطلع الناس عليه، فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم، ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
خلاصة القول: إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله عز وجل، والله عز وجل يكتب أحيانًا ابتلاء للمؤمن وفي ذلك حكمة، وأحيانًا يكتب له نجاةً من الأذى وفي ذلك حكمة أيضًا، ولا تسير الأمور إلا بقدر الله عز وجل {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] .
ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يحاصرون البيت، وفيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانطلق إلى الصديق رضي الله عنه، ومكث عنده إلى منتصف الليل، ثم خرجا من الخوخة الخلفية في البيت، واتجها جنوبًا إلى غار ثور، ووصلا إليه بالفعل، واستكشف أبو بكر رضي الله عنه الغار أولًا ليرى إن كان به أي شيء يضر، فلما وجده آمنًا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، وتم الجزء الأول من الخطة بنجاح.
نعود إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركون يحاصرونه، وعلي رضي الله عنه نائم بداخله، وبينما هم على هذه الحالة، مر عليهم رجل من المشركين لم يكن معهم؛ فقال لهم قولًا خطيرًا، لقد قال لهم: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيَّبَكم الله، قد والله خرج عليكم محمد. إذن الرجل شاهد محمدًا صلى الله عليه وسلم في مكان آخر، فمع كل الاحتياط والحذر إلا أن هناك رجلًا لمح محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة، ولكن يبدو أنه لم يكن يعلم بتخطيط قريش فلم يأبه لرؤيته، فلما سمع القوم ذلك انزعجوا، وزاد من انزعاجهم التراب الذي وجدوه على رءوسهم، في إشارة واضحة إلى أنه مر عليهم فلم يشاهدوه، وفي هذا معجزة ظاهرة، ولكنهم كانوا قد عميت أبصارهم وبصائرهم، قام المشركون بسرعة ينظرون من ثقب الباب فوجدوا عليًا ينام في الفراش وهو يتغطى ببردة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله إن هذا محمدا نائم.
فتحير القوم، فقام فيهم من يقترح أن يقتحموا البيت على هذا النائم، ولكن اعترض معظمهم على ذلك، أتدرون لماذا؟
لقد قالوا: والله إنها لسُبة في العرب أن يتُحدثَ عنا أنْ تسورنا الحيطان على بنات العمِّ، وهتكنا سترَ حرمتنا.
سبحان الله، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، لا يقتحمون حرمات الديار.
وانتظر المشركون إلى الصباح حتى قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فراشه، فرآه القوم، وأسقط في أيديهم، وأمسكوه يجرونه إلى البيت الحرام ويضربونه.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتحمل الإيذاء
وهنا نشاهد الموقف الحكيم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يبلغ آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا إنه لم يرُدَّ الضرب بالضرب، مع كونه فتىً عزيزًا، وفارسًا مغوارًا، وسنرى أفعاله بعد سنتين في بدر، ولكنه تحلى بالصبر، وتجمل بالحلم، لماذا؟
أولًا: لم يؤذن بعدُ للمسلمين في القتال إلى هذه اللحظة.
ثانيًا: الهَلَكَة محققة لغياب كل المسلمين تقريبًا، واجتماع كل المشركين على بني هاشم.
ثالثًا: عليه مهمة عظيمة لم يقم بها بعد، وهى رد الأمانات إلى أهلها، ولابد أن يحافظ على نفسه حتى يقوم بهذه المهمة.
أخذ المشركون عليًا رضي الله عنه وحبسوه ساعة واحدة، لم يحبسوه شهرًا، أو عامًا، أو أعوامًا، إنما ساعة واحدة فقط، ثم أطلقوه، فمكث رضي الله عنه في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم انطلق مهاجرًا إلى المدينة المنورة.
قريش تعلن حالة الطوارئ
أعلنت حالة الطوارئ القصوى في مكة، استنفار عام لكل العناصر المشركة، واتخذت السلطة في مكة القرارات الآتية:
القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي كان يتولى شئون الإنفاق على المسلمين فمن المحتمل أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مازال مختبئًا في بيته، أو لعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هاجر بمفرده، وأبو بكر يعرف طريقه، فلا بد من التأكد من ذلك، وقد قام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه ومعه فرقة من المشركين، ذهب إلى بيت الصديق وطرق الباب بشدة، وفتحت السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها في غلظة: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟
قالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى أطار قرطها، فعلة شنيعة من سيد مكة، لكنه لم يفكر أن يدخل البيت ليقلب محتوياته رأسًا على عقب، ليفتش عن الصديق رضي الله عنه أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ليجد أي دليل يشير إلى مكانهما، لماذا لم يفعل ذلك؟ تذكروا: كفار مكة لا يهتكون حرمات البيوت.
كان هذا هو القرار الأول الذي اتخذه زعماء قريش، وهو البحث عن الصديق.
القرار الثاني: هو إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مازال مختبئًا في أحد البيوت في مكة.
القرار الثالث: إعلان جائزة كبرى لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، تعطى الجائزة لمن يأتي بأحدهما حيًا أو ميتًا، والجائزة هي مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلك الزمن.
القرار الرابع: استخدام قصاصي الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام في كل الطرق الخارجة من مكة.
{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}
وسبحان الله، مع كل طرق التأمين التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، ومع كون الخطة بارعة جدًا ومحكمة جدًا، إلا أنه كما ذكرنا من قبل: ليس طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، لا بد من ثغرات، اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي به غار ثور، وصعدوا الجبل، ووصلوا إلى باب غار ثور.
لم يبق إلا أن ينظروا فقط إلى داخل الغار، والغار صغير جدًّا.
الرسول يجلس في داخل الغار في سكينه تامة، وكأنه يجلس في بيته، والصديق رضي الله عنه في أشد حالات قلقه واضطرابه، يقول الصديق رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصْرَهُ رَآنَا.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في يقين: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيِنْ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
الله، الله، لو استشعر الدعاة إلى الله هذه المعية لهانت عليهم كل الشدائد، وكل المصاعب، وكل الآلام، بل لهانت عليهم الدنيا بأسرها، لكن الصديق رضي الله عنه لم يكن خائفا على نفسه، لم يكن قلقًا على حياته، ليس الصديق الذي يفعل ذلك، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، إنما كان يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه في رواية يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ أَنَا فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَنْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ.
ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور، بعد أن قطعوا هذا المشوار الطويل الصعب، وقد انتهت آثار الأقدام أمام فتحة باب الغار؟!
إن الله عز وجل قد ألقى في روعهم ألا ينظروا إلى داخل الغار، مع أن هذه النظرة لن تأخذ أكثر من دقيقة واحدة وربما ثوانٍ أقل، ولا شك أنهم قد أخذوا ساعات طويلة حتى يصلوا إلى هذا المكان، لكن هذا فعل الله عز وجل...
روى الإمام أحمد والطبراني وعبد الرازق والخطيب أن عنكبوتا قد نسج خيطًا كثيفًا حول الباب، وهذه معجزة ظاهرة، فقال الكفار: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.
وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا من كل طرقه إلا أن كثرة طرقه يقوى بعضها بعضًا فترفعه إلى درجة الحديث الحسن، أما قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار فهي قصص ضعيفة جدًا لا تصح، وأنا أرى أنه حتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضًا من رب العالمين، إذ كيف لا ينظر الناس في داخل الغار مع كونه مفتوحًا، فسواء نسجت العنكبوت خيوطها أو لم تنسج فهذا دفاع من رب العالمين، والنتيجة واحدة: نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه من هذه المطاردة المكثفة.
مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقررًا في الخطة المرسومة، وقام كل من عبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر بدوره، وحان وقت الرحيل إلى المدينة، وجاء عبد الله بن أريقط الدليل بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وجاء بناقة ثالثة له، وجاء معه أيضًا عامر بن فهيرة ليرافق الراكب المهاجر إلى المدينة، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار ليلة غرة ربيع الأول من سنة 14 من النبوة، وإمعانًا في الاحتياط اتخُِّذَتْ بعض الإجراءات الأخرى:
أولًا: الخروج ليلًا من الغار.
ثانيًا: الإمعان في اتجاه ناحية اليمن.
ثالثًا: الاتجاه غربًا ناحية سحل البحر الأحمر، ثم الاتجاه شمالًا في الطريق الوعر المتفق عليه سابقًا.
رابعًا: كانت هذه نقطة تأمينية من الصديق رضي الله عنه لم يضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطة المسبقة، ولكن استحدثها الصديق رضي الله عنه لزيادة حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان يسير أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ثم يسير خلفه تارة، وهكذا طوال الطريق، ولما تنبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك سأله عن ذلك فقال الصديق رضي الله عنه في حب عميق: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ (المطاردة) فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ (الكمائن) فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
يتمنى أن لو جاء سهم أن يدخل في ظهره أو في صدره، ولا يمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء.
سراقة بن مالك وسواري كسرى
وهكذا سارت القافلة المباركة من مكة إلى المدينة، وعلى الجانب الآخر نشط الكفار في تحفيز أهل مكة جميعًَا للقبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ونشط الوصوليون، و أصحاب المصالح، والراغبون في الثراء السريع، وبحثوا في كل مكان، ولم يوفقوا جميعًا إلا واحدًا...إنه سراقة بن مالك
بعض الناس رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هكذا ظنوا، فذكروا ذلك أمام سراقة فضللهم عنه ليفوز هو بمائة الناقة، ثم أمر بفرسه وسلاحه وخرج في إثر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى رآهم من بعيد، واقترب منهم حتى كان يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت كما يقول سراقة وكما جاء في البخاري، وأبو بكر يكثر الالتفات، ثم حدثت المعجزة بأن بدأت أقدام الفرس تسوخ في الأرض، مرة والثانية والثالثة، حتى أدرك سراقة أن القوم ممنوعون، فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وأخبرهم أن القوم قد جعلوا فيهم الدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَخْفِ عَنَّا". ثم قال له قولًا عجيبًا، قال: "كَأَنِّي بِكَ يَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سُوَارَيْ كِسْرَى".
فطلب سراقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابًا بذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة أن يكتب له كتابًا ؛ فكتب له على رقعة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق، فكان في أول اليوم جاهدًا في مطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم، و في آخر اليوم مدافعًا عنه، وسبحان الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدَّثر:31] .
وسبحان الله، مرت الأيام، وأسلم سراقة بعد فتح مكة وحنين، وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب، وفيها سوارا كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه لعمر رضي الله عنه، فأعطاه عمر رضي الله عنه سواري كسرى تنفيذا لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم:3، 4] .
لم يعكر صفو الرحلة بعد ذلك شيء إلى أن اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة ففوجئ برجل اسمه بُرَيْدَة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، قد خرج له في سبعين من قومه يريد الإمساك برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليحصل على المكافأة الكبيرة، ولكن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وقف يعرض عليه الإسلام في هدوء وسكينة، فوقعت كلمات الرحمن في قلب بريدة وأصحابه فآمنوا جميعًا في لحظة واحدة، وكانوا في أول اليوم من المشركين فأصبحوا في آخره من الصحابة، فانظر إلى عظيم فضل الله عليهم وعلى الدعوة، فقد كانت السنوات تمضي في مكة حتى يؤمن عدد مثل هذا هناك، وهاهو الآن هذا العدد يؤمن في لحظة.
المهم أنه في النهاية وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالمًا، وذلك في يوم 12 من ربيع الأول سنة 14 من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة مهمة جدًا في الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة.