وفد قريش إلى النجاشي
وفد قريش في الحبشة (النجاشي)
وصل وفد قريش إلى الحبشة، وهناك وبشيء من الحنكة والذكاء لم يدخل عمرو بن العاص على النجاشي مباشرة، بل ذهب أولاً إلى بطارقته، وإلى رجال الدين والوزراء وكبار القوم، والذين يجلسون عادة في مجلس النجاشي يشيرون عليه بالرأي، ذهب إليهم وقد ملأ أيديهم جميعًا بالهدايا العظيمة، ثم بدأ يطرح عليهم طلبه مرفقًا به حجته الدامغة؛ وذلك بهدف الوقوف معه ضد المسلمين أمام النجاشي.
وقد نجح عمرو بن العاص في هذه المهمة خير نجاح، وقبلوا منه جميعًا الهدايا، وسمعوا لرأيه واقتنعوا بفكرته، وبذلك يكون قد مهَّد الطريق تمامًا للحوار مع النجاشي.
خطاب عمرو بن العاص أمام النجاشي
دخل عمرو بن العاص على النجاشي، وكان لقاءً حارًّا بين الصديقين، وقد أتى بالهدايا العظيمة وأهداها إليه، وقبلها منه النجاشي، وبعد أن اطمأنَّ عمرو بن العاص إلى وجود جميع البطارقة والوزراء معه، بدأ يعرض أمره ومهمته عليه، وكان ينتقي كلماته بدقة شديدة وبحكمة عظيمة، فقال: "أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء".
وكانت هذه سقطة من عمرو بن العاص، وكذبة كذبها على النجاشي؛ فكل المهاجرين كانوا من الأشراف العقلاء وليسوا من الغلمان السفهاء، لكنه أراد أن يحقر من شأن المسلمين اعتقادًا منه أنه من غير المعقول أن يقدم النجاشي كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية.
وبعد هذا السهم رمى بالسهم الثاني فقال: "فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت".
وهذا فيه من الذكاء الشديد ما فيه؛ فهو يريد أن يوغر صدر النجاشي على المسلمين الذين لجئوا إلى بلده، فهم قد فارقوا دين قومهم ومع ذلك لم يدخلوا في دينه، فهم لم يراعوا حق الأهل ولا راعوا حق المضيف لهم.
ثم كان السهم الثالث: "وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه".
وفي هذا السهم الأخير أكثر من إشارة خفية، لكنها لا تخفى على ذكاء النجاشي.
أولاً: من وراء كلماته، وفي إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف المعاملات الاقتصادية والهدايا بين أشراف مكة وبين النجاشي يبعث عمرو بن العاص برسالة إلى النجاشي، وهي أنه أُرسل من قبل أشراف مكة ورؤسائها.
ثانيًا: وفي إشارة واضحة في أن لأشراف قريش وحدهم الحق في المهاجرين وعليهم، أعلمه أن آباء هؤلاء المهاجرين وأعمامهم هم هؤلاء الأشراف (أشراف مكة)، ومن ثَمَّ فإن لهم ما للآباء على الأبناء، والحال إذن كما لو أخطأ ولد في حق أبيه ثم جاء إلى بيتك هاربًا، ثم جاء أبوه بعد ذلك يطلبه، فالطبيعي هو أن تعيد الولد لأبيه، وأقصى ما في الأمر أن توصيه به خيرًا.
ثالثًا: يشير أيضًا عمرو بن العاص إلى أن النجاشي قد ينخدع في الحكم عليهم؛ بسبب حلاوة منطقهم وطلاقة لسانهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم دهرًا طويلاً، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
وهكذا يكون عمرو بن العاص قد تكلم فأحسن الكلام، وأوجز فأحسن الطلب، وقد ضمّن كلامه حججًا وأدلة منطقية وقوية، وهي في الوقت ذاته لا تكاد تخلو من أدب جم وخلق رفيع، والمطلوب فيها واضحٌ وهو ردُّ المسلمين إلى مكة.
وفي محاولة لإتمام نجاح هذه المهمة ووفق خطة عمرو بن العاص المنهجية، ما إن انتهى من كلامه وقبل أن يتكلم النجاشي حتى أقبل البطارقة قائمين بدورهم أيضًا قائلين: "صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم".
عدل النجاشي وفقه المرحلة عند المهاجرين
عدل النجاشي ملك الحبشة
لأنه ملك لا يظلم عنده أحد، ولعلمه أنه من العدل والإنصاف قبل الحكم في القضية أن تسمع كلا الطرفين المتخاصمين، مهما كانت حجة الطرف الأول قوية، ومهما كانت العلاقة مع الطرف الأول وطيدة، ومهما كانت التبعات لأخذ القرار، كان ردُّ النجاشي على عمرو بن العاص وعلى بطارقته:
لا والله، لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوَهم فأسألهم مما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم أرسل النجاشي -رحمه الله- إلى المسلمين ليرى ردهم فيما قاله عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وما إن وصلت الرسالة إلى المسلمين حتى عقدوا مجلسًا سريعًا للشورى، وقالوا: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ فكان أن اجتمعوا على أن يقولوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن.
لا تبديل لكلمات الله، وإن النجاة لفي مثل هذا الثبات، ثم أجمعوا على أن يتكلم منهم رجل واحد باسمهم، ولهذه المهمة العظيمة اختاروا جعفر بن أبي طالب ، ولعل ذلك كان للأسباب التالية:
1- أنه رئيس الوفد والممثل الرسمي له، ولا شك أنه قد التقى قبل ذلك بالنجاشي، وتحدث معه وأَلِف حواره.
2- أنه كان خطيبًا مفوهًا، ويتميز ببلاغة وفصاحة عظيمة وطلاقة لسان رائعة.
3- أنه كان من أشرف أشراف الوفد؛ فهو هاشمي قرشي، وهم بذلك يبطلون قول عمرو بن العاص: "إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء".
هذا، وقد ذهب المسلمون يتقدمهم جعفر بن أبي طالب حيث طُلبوا، وهناك وجدوا النجاشي وقد جلس على كرسيه ومن حوله أساقفته وقد نشروا أناجيلهم، وعلى الناحية الأخرى كان يقف عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وقد كرها أن يتكلم المسلمون؛ لأنهم يعلمون حلاوة منطقهم.
افتتح النجاشي الاجتماع المهيب المرتقب بسؤال للمسلمين قد حمل كثير من علامات الاستفهام، قال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟!
فكانت المفاجأة بالنسبة لنا أننا اكتشفنا أن المهاجرين لم يعلنوا عن هويتهم، ولم يذكروا شيئًا البتة من قبل عن دينهم عندما دخلوا أرض الحبشة!!
وكان تفسير هذا الأمر هو أن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة كان الحفاظ على الدين ممثلاً في المهاجرين، فقد أدرك المهاجرون أن قوتهم ضعيفة وقدراتهم محدودة، ولم يريدوا أن يفتحوا على أنفسهم جبهات جديدة، وكذلك أيضًا كانوا يتخوفون من أن أهل الحبشة النصارى قد يعترضون على دينهم، ومن هنا فقد آثروا كتمان أمرهم والمحافظة على سريتهم، وبمعنى أدق: اهتموا بالناحية الأمنية على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة الحرجة من بداية الدعوة، فكان هذا هو فقه المرحلة الذي برع فيه المسلمون، وساعدهم في ذلك أن النجاشي لم يسأل عن أشياء لم تبد له، بل اكتفى باستقبالهم بالمبرر الأوحد الذي ذكروه له، وهو أنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا ولماذا؟ فهذا لم يدخل فيه.
أما الآن فهناك مشكلة سياسية قد تحدث، وقد يكون كلام عمرو بن العاص صحيحًا ولا بد حينها من السؤال، وبالنسبة للمسلمين أيضًا فقد تغيرت المرحلة؛ حيث هم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلامًا مغايرًا للحقيقة فقد يفهم الإسلام بصورة خاطئة، فلا بد إذن من ذكر الحقيقة كاملة ولكن بلباقة وكياسة، وهذا ما سنفرد له مقالاً خاصًّا إن شاء الله.