بر الرسول بمن آذاه
إننا كثيرًا ما نقرأ قول رسول الله : «صِلْ مَن قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ»[1]، فنعتقد أن الأمر مقصور على المسلمين، ونحن معذورون في ذلك؛ لأن وصل القاطع، وإعطاء الذي حَرم، والعفو عمن ظلم - أمرٌ صعب، حتى لو كان الفاعل مسلمًا، فما البال لو كان غير مسلم؟!
ومع ذلك، فالأمثلة في حياة رسول الله على هذه الشاكلة كثيرة جدًّا، وكلها آيات في سُمُوِّ الأخلاق، وقمة الأدب.
ولقد فعل رسول الله ذلك مع الأفراد والجماعات، وفعله مع القبائل والمدن.. فيروي جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما، أن رسول الله قاتل محارب خصفة[2] بنخل، فرأوا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: «اللهُ». فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله فقال: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟!» قال: كن كخير آخذ. قال: «أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟» قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلَّى سبيله!! قال: فذهب إلى أصحابه[3] قال: قد جئتكم من عند خير الناس»[4].
فهذا رجل أمسك السيف، ووقف به على رأس رسول الله يتهدده بالقتل، ثم نجَّى الله رسوله، وانقلبت الآية، فأصبح السيف في يد رسول الله ، ومع ذلك فالحقد والغلُّ لا يعرفان طريقهما أبدًا إلى قلبه .. إنه يعرض عليه الإسلام، فيرفض الرجل، ولكن يعاهده على عدم قتاله، فيقبل منه رسول الله ببساطة، ويعفو عنه، ويطلقه آمنًا إلى قومه!!
بر الرسول مع قريش
ولم يكن رسول الله يكتفي بالعفو والتفضل والبر مع الأفراد دون القبائل والجماعات، بل كان يُطْلِق عفوه هذا على أقوام كُثُر، وعلى مدن عظيمة بها المئات والآلاف ممن اعتدوا عليه، وتمادوا في إيذائه..
إنه رأى من قريش ما لا يوصف من العنت والإيذاء.. آذوه في نفسه، وفي أصحابه.. آذوه جسديًّا ومعنويًّا.. لم يتركوه في مكة ولا في المدينة، وطاردوا أصحابه في كل مكان حتى تابعوهم في الحبشة..!!
إنها حرب طويلة مريرة لسنوات طويلة..!!
ويأتي يوم أحد لتتفاقم المأساة، ويشتد الخطب، وتعظم المصيبة، ويقتل القرشيون سبعين من خيرة الصحابة، ويمثل القرشيون بأجساد الشهداء -وفي مقدمتهم حمزة رضي الله عنه- في مخالفة واضحة لأعراف وقيم الجزيرة العربية، ويتقطع رسول الله ألمًا وهو يرى أجساد أصحابه ممزقة على أرض أحد، ويتربصون به شخصيًّا، ويجرحونه في كل موضع من جسده حتى لا يقوى على القيام في صلاة الظهر فيصلي جالسًا، وتتفجر الدماء من وجهه ، وتُبْذَلُ المحاولات المضنية لوقف النزيف، ويُحَاصَرُ الرسول وبعض أصحابه في الجبل..
إنها لحظة من أشد لحظات حياته شدة وقسوة..!!
في هذا الجو من الألم والحزن والضيق، يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»[5]!!
إنه يعاملهم معاملة الأب الحنون الذي يرى ابنه عاقًّا ومنحرفًا ومؤذيًا له وللمجتمع، فيرفع يده للسماء ليدعو له، لا ليدعو عليه.
وتستمر تحديات قريش لرسول الله ، وتتعدد الجولات، وتحرص قريش في يوم الأحزاب على استئصال خضراء المسلمين جميعًا، ولكنها تفشل بعد أن جمعت عشرة آلاف مقاتل من الجزيرة العربية، وتمنع الرسولَ من دخول مكة للعمرة في العام السادس.
موقف الرسول في فتح مكة
ثم يكون صلح الحديبية، وتنقض قريش العهد، ويذهب رسول الله بجيشه العملاق، ويدخل مكة فاتحًا بعد أكثر من عشرين سنة من الاضطهاد والتعذيب له ولأصحابه، ويجتمع القوم الذين لم يُدركوا قيمة (العظيم) الذي كان يعيش بينهم.. ويتوقع الجميع يومًا داميًا تُعوَّض فيه آلام السنوات السابقة، ويقف المتكبرون من أهل قريش في ذِلَّةٍ وصَغار أمام رسول الله ينتظرون حُكمًا رادعًا بقتلٍ، أو نفي، أو استرقاق..
ويتساءل الرسول العظيم في رقَّةٍ وتلطفٍ وتواضعٍ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟» قالوا: خيرًا، أخٌ كريم، وابنُ أخٍ كريم. قال:
«اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[6]!!
هكذا..!!
دون عتاب ولا لوم ولا تقريع!!
إنه لمن أعجب مواقف التاريخ حقًّا!!
وليس الموقف عجيبًا بالنسبة لنا فقط، بل كان عجيبًا بالنسبة للصحابة المعاصرين له –رضي الله عنهم أجمعين- أجمعين..
لقد قال سعد بن عبادة رضي الله عنه وهو يخاطب أبا سفيان بن حرب زعيم مكة: «يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحل الكعبة»[7].
وما ذكره سعد بن عبادة رضي الله عنه لا يعدُّ عجيبًا، ولا يعتبر تعدِّيًا منه أو قسوة، فهذا الذي ذكره هو المتوقَّع بعد تلك الرحلة الطويلة من الصدِّ، والإعراض من أهل مكة.
لكن كلمة سعد بلغت رسول الله ، فقال: «كَذَبَ سَعْدٌ[8]، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ»[9]. وفي رواية أنه قال: «الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ، الْيَوْمَ يُعِزُّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشًا»[10].
وقد تعجَّب الأنصار –رضي الله عنهم- من هذا البرِّ غير المسبوق، فقال بعضهم لبعض: أمَّا الرجل[11] فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته!!
قال أبو هريرة رضي الله عنه: وجاء الوحي، وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي قال رسول الله : «يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ». قالوا: لبيك يا رسول الله. قال: «قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ؟» قالوا: قد كان ذاك. قال: «كَلاَّ، إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ». فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضنَّ بالله وبرسوله. فقال رسول الله : «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ»[12]!!
إن الموقف أكبر من استيعاب الأنصار –رضي الله عنهم- مع عظم أخلاقهم وحسن سريرتهم، والرسول يعلم أن استيعاب مثل هذا الموقف صعب، فيقول: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ»!!
ولم يكن هذا الموقف العظيم هو الوحيد في ذلك اليوم المشهود، ولكن كانت هناك مواقف أخرى لعلها أكثر عجبًا، سنأتي لشرحها -إن شاء الله- في المقالات القادمة.
----- المراجع -----
[1] رواه أحمد 17488، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.
[2] محارب خصفة بن قيس بن غيلان من بطون عدنان.
[3] ذكر ابن حجر أن قومه أسلموا. انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/428.
[4] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع 3905، ومسلم: كتاب الفضائل، باب توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له من الناس 843.
[5] البخاري: كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إذا عرَّض الذمي بسب النبي ﷺ ولم يصرح نحو قوله: السام عليكم 6530، ومسلم: كتاب الجهاد والسير: باب غزوة أحد 1792.
[6] ابن هشام: السيرة النبوية 2/411، وابن القيم: زاد المعاد 3/356، والسهيلي: الروض الأنف 4/170، وابن كثير: السيرة النبوية 3/570. وانظر: ابن حجر: فتح الباري 8/18، وقال الألباني: سنده ضعيف مرسل.
[7] البخاري: كتاب المغازي، باب أين ركز النبي رايته يوم الفتح 4030.
[8] يقول الحافظ ابن حجر: كذب؛ أي: أخطأ، وغير إطلاق الكذب على الإخبار بغير ما سيقع، ولو كان قائله بناه على غلبة ظنه وقوة القرينة. انظر: ابن حجر: فتح الباري 8/9.
[9] البخاري: كتاب المغازي، باب أين ركز النبي رايته يوم الفتح 4030، ورواه البيهقي في سننه الكبرى 18058.
[10] انظر: ابن حجر: فتح الباري 8/9.
[11] يقصدون رسولَ الله.
[12] مسلم: كتاب الجهاد، باب فتح مكة 1780، وأبو داود 3024 مختصرًا، والنسائي 13561، وأحمد 10961، وابن أبي شيبة 17845.