الهجرة الثانية إلى الحبشة
تعذيب المسلمين في مكة
كان المشركون -كما ذكرنا- قد رفعوا أيديهم نسبيًّا عن المسلمين بعد إسلام عمر وإسلام حمزة رضي الله عنهما، ولكن كانت هناك أمور قد جدت جعلت المشركين ينشطون من جديد في تعذيب المسلمين، كان منها:
أولاً: سجود المشركين في الكعبة مع رسول الله
لا شك أن هذا الأمر قد أحدث بلبلة في أرض مكة، ولا شك أن من كان مترددًا في الإيمان فلا بد أنه يفكر الآن بجدية للدخول فيه، وخاصة في ظل الحماية المادية والمعنوية التي يقدمها فارسا قريش حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومن هنا فقد فكرت قريش في إعادة البطش والتعذيب؛ وذلك لمنع المد الإسلامي الجارف في مكة.
ثانيًا: أنباء الاستقبال الحافل من قِبل النجاشي لمهاجري مكة
كان قد وصل إلى مسامع مكة أنباء الاستقبال الحافل والكريم الذي قدمه النجاشي للمهاجرين المسلمين، وهذا من ناحية قد رفع معنويات المسلمين، ومن ناحية أخرى أحبط معنويات الكفار، وكان لمشركي مكة علاقات تجارية وصداقة مع النجاشي، ولا شك أن هذه الأمور قد تتأثر بالصداقة والوفاق الجديد مع المسلمين، لهذا قررت مكة من جديد أن تنشط في مواجهة الدعوة، فاستنَّت التشريعات والقرارات التالية:
أولاً: منع المؤمنين من السفر:
وفي سبيل ذلك قاموا بتشديد الحراسة على مخارج مكة، ومطاردة كل من يخرج منها من المؤمنين، وقد وضعوا على قائمة الممنوعين من السفر كل من عرف عنه الإيمان أو اشتبه في إيمانه، وذلك كله لوقف الهجرة إلى الحبشة.
وقد يرى البعض أنه من المفترض أن يكون المشركون سعداء بترك المسلمين لأرض مكة؛ حيث إنهم سيتخلصون من القلق الذي يسببه وجودهم معهم وبينهم، فلماذا إذن يمنعونهم من الهجرة؟!
أما الإجابة فهي أن قريشًا كانت تفكر فيما يلي:
1- المؤمنون ما ذهبوا إلى الحبشة إلا ليعودوا:
كان المشركون يرون أن الحبشة ما هي إلا أحد المحاضن التربوية التي يُربَّى فيه المسلمون ليعودوا أشد قوة، فالمؤمنون أصحاب قضية، ولن يرضوا بالحياة المستريحة في الحبشة ويتركوا قضيتهم، وكما ذكر لهم رسول الله فإنه قد بُعث لقومه خاصة وللناس عامة، ولا بد أن المؤمنين سيبذلون قصارى جهدهم ليصلوا بهذه الدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولا شك أن مكة ستكون من أهم النقاط في محطات المسلمين.
2- المؤمنون سيفسدون علاقة الحبشة بمكة:
فإذا رأى أهل الحبشة أخلاق المؤمنين ونضجهم ونقاء ما يدعون إليه، فإنهم ما يلبثون أن يستنكروا أفعال الذين عذبوهم، وقد يقطعون علاقاتهم السياسية والاقتصادية بمكة.
3- الخوف من دخول أهل الحبشة في الإسلام، ومن ثَمَّ فقد يُقدِمون على غزو مكة:
فلم يكن بعيدًا على أهل مكة تخوفهم من أن يسلم أهل الحبشة، ثم يقبلون بعد ذلك على مكة لغزوها ونشر الإسلام فيها. وقريش تعلم أنها ليس لها طاقة بحرب دولة الحبشة وجيش الحبشة وملك الحبشة، وليس ببعيد من أهل مكة ما حدث من أبرهة، وهو مجرد تابع لملك الحبشة على منطقة اليمن.
4- الخوف من انتشار المد الإسلامي خارج مكة بصفة عامة:
كانت قريش على يقين أن دعوة المسلمين مقنعة ودينهم قيِّم وقرآنهم معجز، ولو تركت لهم حرية الدعوة فلا شك أن عموم الناس من أصحاب الفطر السليمة سيدخلون في هذا الدين، إذن فليُمنع المسلمون من السفر، ولتُحدد إقامتهم في أرض مكة.
ثانيًا: استخدام أساليب التعذيب المتنوعة:
كانت الوسيلة الثانية التي استخدمها مشركو مكة لمجابهة الدعوة في هذه الفترة هي التعذيب الشديد من جديد، وهي وسيلة العاجز، وسيلة الضعيف، وسيلة المهزوم الذي لا يجد حيلة، وكانت الانتكاسة البشعة في الإنسانية، فقد انقلبوا على كل من بقي من المسلمين في أرض مكة يعذبونهم، ولم يستطع حمزة وعمر -رضي الله عنهما- كأفراد أن يقوموا بحماية المؤمنين من هذه الحرب القرشية المنظمة.
قرار الهجرة الثانية إلى الحبشة
في هذا الموقف العصيب وتحت هذا الضغط القرشي الظالم، وخوفًا من استئصال عامة المسلمين في لحظات الغضب والتهور غير المحسوب وغير المدروس، في هذا الموقف الصعب أصدر رسول الله قراره بالهجرة مرة ثانية إلى أرض الحبشة. في المرة الأولى كان قد هاجر عشرة رجال وأربع نساء، ثم عادوا إلى مكة، ثم عاد بعضهم ثانية إلى الحبشة، أما في هذه المرة فقد صدرت الأوامر بهجرة أكثر من ثمانين رجلاً مسلمًا (اثنين وثمانين أو ثلاثة وثمانين إن كان من بينهم عمار بن ياسر)، وهاجر أيضًا ثماني عشرة امرأة، إحدى عشر منهن قرشيات، وسبع منهن غير قرشيات، هذا غير الأطفال.
فكان الرسول كقائد مسئول له أهداف واضحة ومحددة، فالرؤية عنده واضحة، والأولويات عنده محكمة، وهو يتحرك بمرونة سياسية وفقهية عالية، كان يعلم أن الدعوة لا بد أن تصل إلى عموم الناس، والدعوة لن تصل إلى الناس إلا عن طريق الدعاة، والدعاة قد وصلوا إلى مرحلة من الإيذاء يصعب معها استمرار الدعوة، إذن فليكن القرار الحاسم الجريء وفي الوقت المناسب، وهو هجرة أكثر من ثمانين مسلمًا، وهو ما يمثل نصف الطاقة الإسلامية تقريبًا في ذلك الوقت.
وإنه لقرار استراتيجي خطير، موازنة بين الهجرة وترك الديار ونقل ميدان العمل إلى الحبشة، وبين البقاء في مكة واستمرار الدعوة مع التضييق الشديد الذي تمارسه قريش.
فقد ينفعل الشباب يقولون: نبقى مهما كانت النتائج، ولو أدى ذلك إلى الموت، فهذا موت في سبيل الله. لكن رسول الله القائد السياسي المحنك، والداعية الحكيم يعلم أن الأمور لا تسير بهذه الطريقة، فالله خلق النبات ضعيفًا لينًا طريًّا مرنًا، فإذا جاءت ريح شديدة مال معها حتى لا ينكسر، ثم عندما يشتد عوده ويصبح شجرة راسخة الأركان لها جذور عميقة، فإنها لا تميل أمام الريح الشديدة، بل تظل ثابتة وتمر الرياح مهما اشتدت قوتها من حولها.
وهكذا حال المؤمن الفقيه، ومن هنا أخذ رسول الله القرار الجريء، وكان هذا القرار أصعب مائة مرة من قرار الهجرة الأولى، إنه الهجرة الثانية للحبشة.
وكان هذا القرار صعبًا للأسباب الآتية:
أولاً: أن قريشًا الآن قد أخذت حذرها وأغلقت أبواب مكة، وأوقفت حراسها على مداخلها ومخارجها، فقد علمت خطورة انطلاق المسلمين إلى الحبشة، وهي الآن تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تمنع المسلمين عن الهجرة.
ثانيًا: كان العدد في هذه المرة أكثر، فقد كان عددهم قُرابة المائة من المؤمنين، من الرجال والنساء، إضافةً إلى أطفالهم، وهذا غير متاع المهاجر الذي لا يتوقع رجعة قريبة، كل هذا وهم يحاولون الهرب من هذه القرية الصغيرة مكة، ووسط الحصار والتربص والحذر من جانب قريش.
ثالثًا: أن هناك أسماء لامعة وبرّاقة سوف تهاجر هذه المرة، وإن الخطورة في خروج مثل هذه الأسماء ليست كامنة في ثقلها في مكة فقط، وإنما في كونها تخرج من داخل بيوتات زعماء قريش الذين ما فتئوا يحاربون الدعوة.
انظر خريطة متحركة توضح الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة
أسماء المهاجرين إلى الحبشة
من هذه الأسماء اللامعة التي هاجرت:
1- السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وهي ابنة زعيم أهل مكة في ذلك الوقت، ومن أكبر المحاربين للدعوة.
2- أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهو ابن كبير من زعماء الكفار (عتبة بن ربيعة)، الذي كان من أكبر المفاوضين، وممن آذوا رسول الله بأنفسهم، وقد قتل في بدر بعد ذلك.
3- وكان سهيل بن عمرو الذي يُعدّ من أكبر زعماء وصناديد قريش، والمفاوض في صلح الحديبية، كان قد خرج من بيته ثلاثة مهاجرين هم: ابنتاه سهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وابنه عبد الله بن سهيل بن عمرو.
4- فاطمة بنت صفوان بن أمية، وكان صفوان بن أمية من أكابر المشركين، ولم يؤمن إلا بعد فتح مكة.
5- فراس بن النضر بن الحارث، والنضر بن الحارث هو صاحب الأساطير والخرافات التي أتى بها من فارس؛ وذلك ليصرف الناس عن سماع رسول الله .
7- هشام بن العاص بن وائل، والعاص بن وائل كان أيضًا من أكابر المجرمين، ومن الذين نزل فيهم القرآن يلعنهم، حيث قال I: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم: 77].
فكان خروج مثل هؤلاء الأبناء والبنات من داخل بيوت الزعماء سيحدث زلزلة في مكة، وسيصاب كل زعيم من زعمائهم في كبريائه وذكائه وحكمته، وفي تقديره للأمور والأحداث، فكان ذلك -ولا شك- سيؤدي إلى هزة عنيفة لأهل الباطل.
معية الله ونجاح الهجرة
في هذا الجو المشبع بالغيوم، ومن وراء تلك الخلفيات المعقدة، أصدر الرسول قراره الشجاع بالهجرة إلى الحبشة للمرة الثانية، وقد أمّر على المهاجرين في هذه المرة جعفر بن أبي طالب .
وفي واحدة من أعقد عمليات التمويه والإخفاء تبدأ الهجرة، ويتعاون الصغار والكبار والرجال والنساء على إنجاح تلك العملية الصعبة، وهم يبتهلون إلى الله بالدعاء والرجاء، ثم بفضل الله ومنِّه تنجح العملية، ويخرج من مكة وفي جنح الظلام قرابة المائة من الرجال والنساء يحملون أطفالهم ومتاعهم وزادهم، وينجيهم الله جميعًا، ولا يتمكن أهل الباطل من اكتشاف أمرهم، أو الإمساك بأي منهم، وعند ميناء على البحر الأحمر يجتمع المسلمون، وقد لهثت وراءهم مكة مؤخرًا، وذلك بعد استتباب أمر المسلمين، ولكن هيهات {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].
وإنها لمفارقة صعبة، وصدمة مدوية حين يستيقظ كفار قريش على فقد مائة نفس من بينهم، وإنه لفراغ هائل خلفه هؤلاء الصالحون وراءهم، وإن عدد المهاجرين هذا (قُرابة المائة نفس) ليعني أنه ما من بيت في مكة إلا وقد خرج منه ابن أو ابنة أو أخ أو أخت، أو عم أو غيرهم.
وقد وصل المهاجرون بفضل من الله إلى الحبشة، وقد استقبلهم النجاشي -رحمه الله- خير استقبال، وأحسن وفادتهم، وعاش المسلمون هناك في أمن وبركة ويسر.
أزلية الصراع بين الحق والباطل
حيال نجاح أمر الهجرة هذا، هل تهدأ قريش؟ وهل تقبل بالأمر الواقع؟ وهل تفكر في إنهاء الصراع الطويل الذي كان بينها وبين المؤمنين وقد فصلت بينهما آلاف الأميال؟! أسئلة مهمة كانت قد فرضت نفسه وألقت بظلالها على موقف قريش بعد نجاح هجرة المؤمنين إلى الحبشة.
ولأنها سنة من سنن الله الثابتة، ولأنها سنة السجال والصراع بين الحق والباطل، والتي حتمًا مآلها إزهاق الباطل، لم تهدأ قريش، ولم ترض بالأمر الواقع، ولم تفكر في إنهاء الصراع بينها وبين المؤمنين، وعز عليها أن يجد المهاجرون مأمنًا لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يحيكوا له المكائد، وإنه لو كان المؤمنون قد خرجوا جميعهم وتركوا الديار والبلد بكاملها، أيضًا فلن يقف الصراع، ولن تقف الحرب {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
ومن ثَمَّ قررت قريش أن تتبع المسلمين في الحبشة حتى تردهم، حتى ولو كان بينها وبينهم آلاف الأميال، لكنها لم يكن في مقدورها أن تهاجم الحبشة بجيش؛ فقوة الحبشة وبُعد المسافة، إضافة إلى تاريخ العلاقات الطيبة بين الحبشة ومكة، كل هذه الأمور وقفت سدًّا منيعًا حال دون حرب عسكرية، إذن فلتكن طريقة أخرى.
لقد قررت قريش إرسال سفراء يمثلونها للتفاوض مع ملك الحبشة بشأن المهاجرين المسلمين، فأرسلت وفدًا يطلب من ملك الحبشة أن يرد المسلمين إليها ولا يقبلهم في بلده، ولضمان نجاح هذه المهمة الخبيثة أخذت قريش بكل الأسباب المتاحة في يدها، فعملت على ما يلي:
أولاً: أرسلت على رأس الوفد رجلين من أمكر رجال قريش وأشدهم دهاءً، هما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة (عمه الوليد بن المغيرة) وذلك قبل أن يُسلما، وكان عمرو بن العاص مشهورًا بالمكر والدهاء وحسن التصرف، ويستطيع بذكائه في حسابات قريش أن يمكر بالمسلمين.
وفوق ذلك فهو صديق شخصي قديم للنجاشي نفسه، إذ كان عمرو بن العاص قبل ذلك مندوبًا لقريش في أمور التجارة والصداقة مع النجاشي، فلا شك أنه سيكون أكثر تأثيرًا في النجاشي من غيره. وفوق هذا وذاك فإن أخاه هشام بن العاص كان من بين المهاجرين إلى الحبشة، والذين ما جاء عمرو إلا من أجل التفاوض بشأنهم، فكان الأمر بالنسبة إلى عمرو لا يعدو إلا أن يكون قضية شخصية بحتة. وكذلك أيضًا كان الوضع بالنسبة للسفير الآخر عبد الله بن ربيعة؛ إذ كان أخوه عباس بن أبي ربيعة أيضًا من بين المهاجرين.
ثانيًا: حمّلت قريش الوفد بالهدايا الثمينة وبالذات من الجلود، وهي هدايا كانت تطيب كثيرًا لأهل الحبشة، فجهزوا قافلة ضخمة كنوع من الرشوة لملك الحبشة ولرجال الحكم هناك، وقد كلفتهم الكثير من المال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].