الحكمة من النهي عن القتال في مكة
الحكمة من النهي عن القتال في مكة
أمام هذا الثبات وذاك الصبر، وأمام هذا التحمل العظيم للأذى الشديد يبرز سؤال مهم جدًّا قد يدور في ذهن الكثيرين، وهو: لماذا أمر الله المسلمين بالكف عن القتال في مكة؟
لماذا تحمل المسلمون هذا الألم دون ردٍّ ودون تغيير؟ ولماذا لم يسمح لهم بالرد على الإيذاء وقد كان منهم من يستطيع ذلك؟ أليس في مثل هذا خنوع وسلبية؟!
وفي معرض الرد على هذا السؤال نذكر عدة أسباب، وقبل سردها نلفت الأنظار إلى حقيقتين مهمتين:
الحقيقة الأولى
أن هذا الكف كان أمرًا ربانيًّا مباشرًا، فقد قال الله I في كتابه الكريم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].
ومن هنا فمن المؤكد أن الخير كل الخير كان في هذا الإعراض، وأن الحكمة البالغة كانت تقتضيه، وحكمة الله لا يحيط بها أحد، ولا يقدر على ذلك بشر، ونحن بطاقتنا المحدودة نبحث فيما نعتقد أنه الحكمة من وراء الكف عن القتال في مكة.
الحقيقة الثانية
أننا أُمرنا باتباع أوامر الله حتى مع عدم تبدي الحكمة لنا من وراء ذلك؛ فليس معنى أننا لم نجد بعقولنا حكمة مقنعة تسوغ لنا فرض هذا الأمر أن نقوم بمخالفته، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
بعد وضوح هاتين الحقيقتين السابقتين فيمكننا البحث في حكمة الكف عن القتال في مكة على الوجه التالي:
البعد التربوي
البعد التربوي المهم في هذا الوضع، فلا شك أن هذه الصورة الجديدة على أرض مكة، وهي صورة التعذيب الشديد لطائفة من الناس على أيدي غيرهم، وقبول هذا الطرف المعذَّب لهذا الأمر دون ردّ، هذه الصورة الجديدة تربي في المؤمنين أمورًا من الصعب أن تُربى في ظروف غيرها، ومن هذه الأمور الصبر من نوع خاص.
فأنواع الصبر كثيرة، والعربي بصفة عامة صبور؛ إذ إنه يستطيع الصبر على آلام الجوع والحر والفقر وطول السفر، والصبر على الحروب وغيرها، وكل هذا حسن وحميد.
لكن العربي لا يصبر على تحمل الظلم؛ إذ إن طبيعته الثائرة لا ترضى بالضيم ولا بالجور، فتراه يثور ولو كان الثمن هو حياته نفسه.
أما الآن فقد أصبح من أهداف المؤمن أن يقيم أمة ودولة، ومن متطلبات بناء الأمة أن يكون البناء متدرجًا، وأن يمر بمراحل مختلفة، وألاّ ينظر الفرد إلى مصلحته الشخصية، بل يتعداها إلى مصلحة المجموع، وهذه كلها أمور ما كان للعربي أن يفكر فيها قبل ذلك.
فقد صار واجبًا عليهم عدم الالتفات إلى حظ النفس، وأن يتركوا الانتصار لذواتهم وذلك لصالح الأمة وصالح الجماعة، وهذه تربية على شيء جديد، وتحتاج إلى وقت وإلى صبر؛ إذ ليس من الممكن أن تقوم أمة أفرادها يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالحها العامة.
ومن هنا فإن الكف عن القتال كان ضروريًّا من أجل أن يُربى المسلمون على هذا النوع المهم من الصبر، وهو الصبر على ضياع المصلحة الخاصة في مقابل إنجاح المصلحة العامة.
مبدأ السمع والطاعة
التربية على مبدأ حُسن السمع والطاعة للقيادة، وهو أمر من الأهمية بمكان، ولا تكاد تقوم جماعة إلا به، ولا تكاد أمة تقوم إلا عليه، ذلك هو: التربية على الطاعة لقيادة هذه الأمة الناشئة.
وإن المقياس الحقيقي للطاعة هو أن تطيع (في غير معصية الله I) دونما جدل أو ضجر أو اعتراض، خاصة فيما لا يوافق هواك، أما إذا كان الأمر قد وقع على هوى في نفسك فلا فضل إذن في الطاعة؛ لأنك ستطيع لأنك تهوى هذا الأمر.
وإن الطاعة الحقيقية للقائد تتطلب أن يعتقد الجندي بأن في طاعته لقائده طاعة لله ، وأنه مأجور عليها، يقول تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]. فإذا تعامل الجندي مع قائده بهذا المنطلق، فإن سعيه إلى طاعة قائده هو تمامًا كسعيه إلى أي عبادة يتقرب بها إلى الله .
والطاعة الحقيقة للقائد تتطلب من الجندي أن يعرض وجهة نظره على القائد؛ إذ ليس من مقصودنا ما يسميه البعض بالطاعة العمياء، فنحن إنما نريد الطاعة المبصرة، والتي تدفع الجندي إلى أن يفكر فيما يوجه إليه، فإن وجد ما هو أصوب -في رأيه- ذهب إلى قائده وعرض عليه رأيه، فإن قبل فبها ونعمت، وإن كانت الأخرى فليس إلا الطاعة ودون تأفف أو ضجر ما دام في غير معصية لله I.
وهذا الأمر هو عين ما حدث من خباب مع رسول الله ، فقد رأى خباب أن استعجال النصر مصلحة في ذلك الوقت، وكان هذا اجتهادًا منه، وعليه ذهب إلى رسول الله يطلب منه ذلك بالدعاء، وكان أن أوضح له الأمر رسول الله وبيَّن له ضرورة الصبر، وهنا أيضًا سمع خباب وأطاع، وقَبِل الأمر وكفَّ اليد.
وقد تعلم خباب شيئًا غاية في الأهمية وهو الطاعة لولي الأمر؛ إذ لا جماعة بغير إمرة ولا إمرة بغير طاعة، وهذه تربية راقية.
وإن هذه الجماعة التي يتعامل فيها قائدها مع جنوده بهذا الأسلوب التربوي، وتلك التي يتعامل فيها الجندي مع قائده بهذا الاحترام وهذه الطاعة، لجماعةٌ منصورة بإذن الله.
الدعوة السلمية
أن الدعوة السلمية في هذه البيئة كانت أشد أثرا وأعظم نتيجة.
وفي سبيل توضيح هذه الحكمة نود أن نسأل سؤالاً: ما غرض المسلمين في نهاية الأمر؟ هل هو حكم مكة أم هو إسلام مكة؟!
والإجابة بالقطع أن الغرض هو إسلام مكة، وليس مهمًّا من الذي يحكمها بعد ذلك، المهم أن يحكمها بكتاب الله I وبسنة الرسول ، وهذا هو المهم والمقصود.
وهذه البيئة المكية كانت قد ألفت العنجهية والشرف والعلو والعزة، فإن فُرض عليها رأي بالقوة فلن تتقبله، وكان سيحدث صراع مبكر بين المؤمنين والكافرين، وبسببه سيرفض الكافرون الدخول في هذا الدين استكبارًا وعنادًا.
ومن هنا فلا بد للداعية من أن يدرس نفسيات من يدعو؛ فمن الناس من يتأثر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم من يتأثر بذكاء العقل عند الداعية، ومنهم من يتأثر بقوة البدن عند الداعية، ومنهم من يتأثر بلطف وأدب الداعية، وهكذا، فقد خلق الله الناس مختلفين، ولا بد للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ولا بد أن يراعي ظروف المدعو وظروف البيئة التي يعيش فيها، وكذلك لا بد أن يكون ذكيًّا ومرنًا حتى تنجح دعوته، وبعد ذلك فالموفَّق من وفقه الله .
إذن كانت الدعوة السلمية تناسب ظروف مكة في ذلك الوقت.
تجنب الفتنة
كان أيضًا من الحِكم في كف المؤمنين عن القتال في مكة هو تجنب الفتنة الخطيرة التي كانت ستحدث في مكة، وتلك المقتلة العظيمة التي ستحل في كل بيت، وأيضًا تجنب السمعة السيئة التي كانت ستلتصق بالإسلام من وراء ذلك، والتي كانت سترمي إلى أن الإسلام يؤدي إلى فتن عظيمة.
والسبب في ذلك أنه لم يكن هناك في أرض مكة حكومة مركزية هي التي تتولى أمر تعذيب المؤمنين، بل كان قد تكفل كل زعيم بأتباعه، وتكفل كل والد بولده، وكل سيد بعبده، وكل شيخ قبيلة بأفراد قبيلته وهكذا، فكان يقوم بتعذيب مصعب بن عمير -مثلاً- أمه، وكان الذي يعذب عثمان بن عفان عمه، وكان الذي يعذب خباب بن الأرت سيدته، والذي يعذب بلال بن رباح سيده، وهكذا.
ومن هنا فلو قاتل المؤمنون دفاعًا عن أنفسهم فإنهم -لا ريب- سيقاتلون آباءهم وأعمامهم وقبائلهم، وحينها ماذا سيقول الناس عن الإسلام؟
لقد كانت فِرْية الكافرين العظمى أن هذا الدين يفرق بين الولد ووالده، وبين الرجل عشيرته، وبين المرء وزوجه، وهذه فريتهم ولم يكن قد نشب قتال بعدُ، فما البال وما الخطب لو كان قد حدث قتال؟!
فكان هذا عاملاً مهمًّا جدًّا لتجنب الفتنة الخطيرة التي كانت ستحدث داخل مكة، وللحفاظ أيضًا على الصورة النقية الصافية للإسلام كما هي.
علم الله المسبق
وهي علم الله أن كثيرًا من أهل مكة سينتقلون بعد ذلك من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان.
فقد كانت الدعوة الإسلامية ما زالت في مهدها، ولم تكن بعد قد أخذت الفرصة الكافية للوصول إلى قلوب الناس، وكان من الطبيعي أن يعترض عليها منذ البداية كثير من الناس، وقد يتشددون في اعتراضهم، ثم ما يلبث الحق أن يتبدى في أعينهم، فإن كان الله يريد بهم هداية استجابوا وأسرعوا إلى تصحيح أخطائهم، وهؤلاء عندما يؤمنون يتحولون إلى عمالقة في الإيمان؛ وذلك لأنهم انتقلوا من الظلام الدامس إلى النور المبين، وأنهم ذاقوا مرارة الكفر فعلموا حلاوة الإيمان.
وكان من هذا الصنف -على سبيل المثال- عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم، وقد أصبح كل هؤلاء بعد ذلك قادة مخلصين يحملون الإسلام إلى كل ربوع الأرض.
فلو كان قد حدث قتال في أول فترة مكة، لكان من الممكن أن يموت أناس كثيرون جدًّا من هؤلاء.
النخوة التي ستتحرك في قلوب المشركين من الظلم
أن النخوة التي كانت في قلوب كثير من العرب كانت تتأثر كثيرًا بصورة المظلوم الذي لا يستطيع رفع الظلم عن كاهله، فكان من طبيعة العربي أن تحركه النخوة والشهامة ليرفع الظلم عن المظلومين، وذلك غير من فسدت فطرته أو تزايدت مصالحه، فإنه قد لا يأبه لذلك.
وقد تحرك كثير من الناس في مكة نخوةً نتيجة الظلم الشديد الذي وقع على المسلمين، وقد تجسدت مثل هذه الصورة -كما سنرى بعد ذلك- في قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب .
وكان من صور النخوة هذه في رفع الظلم عن المظلومين ذلك الجوار الذي عرضه ابن الدغنة على أبي بكر الصديق عند هجرته إلى الحبشة، فقد شعر بأن الصديق ظُلم، فجاء وهو مشرك ليعرض الجوار عليه.
وكانت أيضًا الصحيفة التي نقضها المشركون أنفسهم بعد ثلاث سنوات من المقاطعة والحصار في شعب أبي طالب -كما سيأتي- صورة من هذه النخوة.
عدم الاصطدام بالنواميس الكونية
أن المسلمين لا يصطدمون بالنواميس الكونية، وهي حكمة غاية في الأهمية. فمن النواميس الكونية -مثلاً- أن النار تحرق، ولذلك فالمسلمون أو الناس بصفة عامة لا يلقون بأنفسهم فيها. كذلك من النواميس الكونية أن الذي يسقط في ماء عميق وهو لا يجيد السباحة فإنه لا محالة سيغرق؛ ولذلك فإن المسلمين لا يتهورون بنزول ماء عميق دون إجادة للسباحة.
كذلك فإن من النواميس الثابتة أن للباطل قوة لا بد أن تعتبر، ولا يستقيم للمؤمنين أن يقولوا: إننا على الحق وأن الله معنا، ثم يلقون بأنفسهم في حرب خاسرة ظنًّا منهم أنهم لا بد أن ينتصروا؛ لأنهم جند الله وعباد الرحمن.
فالإسلام دين واقعي، والإسلام دين عملي، ومن أجل ذلك فإنه يقيس بدقة قوة الباطل ويقدّر لها حجمها، ثم على الجانب الآخر فإنه يقدر القوة الكافية للرد، ويضع الخطة المناسبة للنصر، ويهيئ الصف الكفء للقتال، ثم يأتي بعد ذلك التوكل على الله والقتال، أي أن الإسلام وببساطة شديدة دين يحترم ويقدر الأسباب.
ماذا لو قام المؤمنون بثورة مسلحة في مكة؟
لا شك أنهم كانوا سيقتلون رجلاً أو رجلين أو عشرة أو حتى مائة رجل، لكنهم - ولا شك أيضًا - كانوا سيبادون عن آخرهم. وإذا كان الموت في سبيل الله غاية، فإن المؤمن لا يموت بغير ثمن، فإذا لم يغلب على الظن التمكين أو إحداث النكاية في العدو فلا معنى للقتال.
ولقد كان المسلمون في مكة قلة مستضعفة، وكانت القياسات المادية والتي قدرتها قيادة المسلمين أن الوقت غير مناسب للقتال، وذلك ليس جبنًا أو ضعفًا، وإنما حكمة وتدبير، وسيأتي يوم تأخذ فيه قيادة المسلمين قرار القتال في بدر وما بعدها.
فالمسلمون لا يتسرعون النتائج، والمسلمون يدركون تمامًا حقيقة ما يسمى بـ(فقه المرحلة)، فهم يدرسون الظروف بإحكام ويضعون الخطط، ويطلبون المدد من الله ، ثم يقدمون ما يناسب المرحلة التي هم فيها، فقد يناسبها كف عن القتال، وقد يناسبها دعوة سرية، وقد يناسبها دعوة جهرية، وقد يناسبها معاهدات ومفاوضات، وقد يناسبها جهاد واستشهاد.
ورسول الله قد مر بكل هذه المراحل، ووضع لنا منهجًا دقيقًا نتبعه فيه، ولم يترك لنا موقفًا إلا بَيّن كيف نتعامل معه طبقًا لنواميس الكون وطبقًا لشرائع الإسلام.
فلم يكن مجرد رجل عبقري حكيم، إنما كان رسولاً من عند رب العالمين، وناقلاً ما أراده الله منا في كل موقف، ومن هنا كانت أهمية دراسة سيرته ودراسة حياته .
لم يكن القتال ضرورة ملحة
أن القتال لم يكن ضرورة ملحة؛ فقد كانت الدعوة في مكة تسير وتتقدم، وهي وإن كانت تسير بصعوبة بالغة وبمشقة عظيمة إلا أنها كانت تتقدم يومًا بعد يوم.
وكان رسول الله يخاطب الناس ويدعوهم وهو تحت حماية سيوف بني هاشم، وكان أبو طالب قد جعل رسول الله قضية حياته، وكرَّس جهده لرد الكيد عنه.
فكانت الحكمة تقتضي أن يستغل المسلمون هذه الظروف في القيام بأمر الدعوة، وحين يموت أبو طالب أو تنتهي حمايته لرسول الله فإنه لا شك ستختلف تلك المرحلة عن سابقتها، وسيكون لها فقه مختلف، سنرى تفاصيله -بمشيئة الله-.
عدم كشف أوراق المسلمين في البداية
أنه لو حدث قتال لاضطر المسلمون إلى كشف أوراقهم، وبهذا كان سيظهر كثير من المؤمنين الذين لم يكن يُشتهر إيمانهم بعد.
وهذه المرحلة لم تكن تتطلب أيًّا من ذلك، حيث كانت تتسم بجهرية الدعوة للرسول وللقليل فقط ممن لهم منعة ولو نسبية، أما عموم المسلمين فلم يكونوا يعلنون عن أنفسهم.
ولو حدث ذلك الأمر، ولو حدث قتال في أوائل فترة مكة لاكتُشف أمر دار الأرقم بن أبي الأرقم ، ولما استطاع المسلمون أن يحادثوا الأفواج التي كانت تأتي إلى مكة وقت الحج، ولما استطاع المسلمون أن يغادروا مكة إلى غيرها أو يدخلوا إليها إذا كانوا على سفر.
فكان سيوضع عليهم قيود مشددة ستحد من حركتهم، وستؤخر أمر الدعوة لا محالة، ومن هنا كانت متطلبات هذه المرحلة أن يكف المسلمون اليد عن القتال؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى كشف كل أوراقهم في وقت يحتاجون فيه إلى التكتم الشديد.
إظهار قدرة الله وحكمته
إظهار قدرة الله وقوته وعزته وحكمته. لقد ظهر أمام الجميع في مكة وحولها في زمانهم وفي الأزمان التي جاءت بعد ذلك كيف كان المؤمنون ضعفاء، وكيف كانوا قلة لا يملكون مقومات الرد المادية فضلاً عن مقومات الانتصار، ثم تظهر بعد ذلك آيات عجيبة، وتحدث أمور لا تخطر على عقول البشر.
فقد دبر الإله الحكيم لأوليائه، فإذا بالضعف يتحول إلى قوة، وإذا بالذل يصير عزة، وإذا بالخوف يتبدل أمنًا، وإذا بالتشريد والتعذيب والإهانة والقتل، كل ذلك يتحول إلى سيادة وتمكين.
وسيكون هناك بعد ذلك بدر والأحزاب، وفتح مكة وتبوك، وغيرها من المواقع الفاصلة.
ثم بعد ذلك أيضًا سيأتي فتح فارس والروم، وسنرى كيف انتشر الإسلام حتى عمّ الأرجاء، وكل هذا بهؤلاء الضعفاء القلة الذين كانوا يُعذَّبون في مكة {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].
ومن هنا، ولهذه الأسباب أُمر المسلمون في هذه المرحلة بالكف عن القتال، وسيأتي زمان بعد ذلك يُسمح فيه ويُؤمر بالقتال، وكل مرحلة لها طبيعتها.
ولكي نستطيع أن نحاكي الرسول لا بد أن نعرف المرحلة التي نعيشها، وأي مرحلة تشبه من المراحل التي مر بها .