عدل الرسول مع غير المسلمين في العقاب
عدل الرسول مع شدة الكراهية
من صور عدل الرسول الباهرة أنه كان لا يتجاوز في العقاب مهما كان الجرم شنيعًا، ومهما كان تجاوز الآخرين في حقه وحق المسلمين عظيمًا..
يروي أبي بن كعب : أنه لما كان يوم أحد أُصيب[1] من الأنصار أربعة وستون رجلا، ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة، فَمَثَّلُوا بهم؛ فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لَنُرْبِيَنَّ[2] عليهم. فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]. فقال رجل: لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله : «كُفُّوا عَنِ الْقَوْمِ إِلاَّ أَرْبَعَةً»[3].
فمع شدة مصاب يوم أحد، ومع شدة ألمِ رسول الله إلا أنه يطبِّق شرع الله ؛ فلا يسمح بتجاوز، ولا يقبل بتعدٍّ، ولا يتمناه.
أما ما رُوي عن سبب نزول الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} من أن رسول الله قال عندما رأى حمزة مُمَثَّلاً به يوم أحد: «لأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ»[4]. فقد ضعَّفه ابن حجر في الفتح[5]، ويعارضه الحديث السابق الذي يذكر أن الآية نزلت عند فتح مكة وليس في أُحد. كما أنه ليس من طبيعة رسول الله أن يخرج عن شعوره، أو يتكلم بعاطفته دون عقله، وحتى إنْ صَحَّ الحديث فيُحمل على أنه كان هاجسًا عارضًا ما لبث أن انهار وتلاشى أمام الآية الكريمة، فقد كان وقَّافًا عند كتاب الله، لا يأخذ قرارًا في شيء ثم يرى ما هو أفضل إلاَّ ترك الشيء الأول، وفعل ما يراه أعدل وأجمل.. قال رسول الله : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»[6].
موقف الرسول مع رسولي مسيلمة الكذاب
ومن صور عدله الرائعة أيضًا أنه لم يكن ليندفع إلى ظلم حتى مع شدة كراهيته أحيانًا لشخص ما، وهو بذلك يُطبِّق الآية الكريمة الجامعة: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ[7] قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8].
ومن هذا ما رأيناه منه وهو يتحدث مع رسولَيْ مسيلمة الكذاب، فهذان الرسولان جهرا بأنهما يؤمنان بمسيلمة الكذاب، ويتبعانه في دينه، وهذا يعني أنهما من المرتدين الذين تحل دماؤهم.. وقد قال : «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»[8].
فهذا حكم الذي ارتدَّ عن دينه وترك الجماعة.. وهذان لم يرتدا فقط، ولم يكتفيا بترك الجماعة، ولكنهما يقومان بفتنة الناس، والدعوة إلى اتّباع مسيلمة، بل جاءا يساومان رسول الله على اقتسام النبوة أو تبادلها، فلو سار الإنسان مع هواه، ونظر في المصالح دون مراعاة للشرع ولا لمطلق العدل، لكان قتلهما أمرًا هينًا متوقعًا.. لكن رسول الله في هذا الموقف العجيب يحفظ دماءهما؛ لأنهما من الرسل، والرسل -عُرْفًا- لا تُقتل، والشرع يقرُّ ذلك العرفَ ويؤكده.. لقد قال رسول الله مخاطبًا الرسولَين المرتدَّيْن: «أَمَا وَاللهِ! لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا»[9].
إن رِدَّةَ هذين الرسولين وكفرهما وخطورة أمرهما لم تدفعه إلى ظلمهما أو إلى التعدي عليهما، بل أمَّنَهُمَا وتعامل معهما بمنتهى الرقي، وعاش مؤكِّدًا على هذا المنهج القويم حتى مع مخالفة أعدائه له، بل إن مسيلمة الكذاب نفسه لما ظفر بأحد رسل المسلمين وهو حبيب بن زيد[10] بقطعه عضوًا عضوًا، حتى لقي حبيبٌ ربَّهُ شهيدًا؛ لتظهر الصورة أكثر وأكثر، وليعرف الجميع الفرق الشاسع بين المنهج الإسلامي والمناهج الأخرى، وليدرك كل مُطَّلعٍ المسافاتِ الهائلةَ بين قانون السماء وقوانين الأرض.
يهود خيبر ومؤامرة اغتيال الرسول
ويجدر بنا -ونحن نختم حديثنا المهم من فصول سيرة الرسول مع غير المسلمين، ومنهجه العادل في التعامل معهم- أن نعرض لموقف أخير، لعله -بلا مبالغة- أعجب من كل ما سبق!!
ألا وهو موقفه من اليهود الذين دسُّوا له السُّمَّ؛ ليقتلوه بعد فتح خيبر..
يروي أبو هريرة فيقول: لما فُتحت خيبر أُهدَيَتْ للنبي شاة فيها سُمٌّ، فقال النبي : «اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ». فجُمعوا له فقال: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟» فقالوا: نعم. قال لهم النبي : «مَنْ أَبُوكُمْ؟» قالوا: فلان. فقال: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ». قالوا: صدقت. قال: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ في أبينا. فقال لهم: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟» قالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها. فقال النبي : «اخْسَئُوا فِيهَا! وَاللهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا». ثم قال : «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْء إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟». فقالوا: نعم يا أبا القاسم. قال: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟» قالوا: نعم!! قال : «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟» قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًّا لم يضرَّك[11].
لقد قام رسول الله بتحقيقٍ هادئ غير منفعل مع اليهود الذين دبَّروا مؤامرةَ اغتياله، وأقام عليهم الحُجَّة حتى اعترفوا بألسنتهم بأنهم دَبَّروا محاولةَ القتل، واكتشف أن هذه المجموعة من اليهود قد أمرت إحدى نساء اليهود لتضع السُّمَّ بنفسها في الشاة، ثم تقدمها إلى رسول الله .. فالرجال هم الذين أمروا، والتي نفذت الأمر وباشرت الفعل هي المرأة.
وقبل أن تعرف ردَّ فعله لهذه المؤامرة توقفْ لحظاتٍ مع واقع غيره من الزعماء والرؤساء والملوك، وردود أفعالهم لمن دبَّر مؤامراتٍ لاغتيالهم..!! إن أبسط ما يمكن تخيُّلُهُ في هذه اللحظات أن يُقتَل الذي باشر الفعل، والذي أمر به، والذي عَلِم به، والذي رضي به.. وقد يؤخذ عموم أهل البلدة أو المدينة بفعل هذا الرجل.. إن هذا هو الواقع فعلاً دون مبالغة.
فماذا كان حال رسولنا ؟!ذ
لقد قال الصحابة –رضي الله عنهم- لرسولنا : ألا تقتلها؟! فرفض ؛ لأنها محاولةُ قتلٍ، وليست قتلاً فعلاً!! فلا يجوز قتلها.
ثم إنه لم يعاقبها، ولا مَنْ أمرها من اليهود بأي عقابٍ؛ لأنه قَبِلَ حُجَّتَهُمْ: لو كان كاذبًا استراحوا، ولو كان نبيًّا لم يضره.
لقد قَبِلَ حُجَّتهم مع أنَّ أحدًا منهم لم يؤمن؛ مما يوضح أنهم لم يفعلوا ذلك أملاً في ظهور الحقيقة، ولكن فعلوا ذلك حَسَدًا من عند أنفسهم، وبُغضًا لرسول الله .
ومع كل ذلك، لم يعاقبهم..
غير أن أحد الصحابة وهو بشر بن البراء بن معرور[12]-رضي الله عنهما- كان قد أكل مع رسول الله من الشاة المسمومة، فمات مقتولاً بسُمِّهَا، فهنا أمر رسولُ الله بقتل المرأة قصاصًا، ولم يُقْتَل معها أحدٌ من أهل خيبر. يقول القاضي عياض[13] -رحمه الله: «لم يقتلها رسول الله أولاً حين اطَّلع على سُمِّهَا، وقيل له: اقتُلْها، فقال: لا، فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلَّمها لأوليائه، فقَتَلوها قِصَاصًا»[14].
تُرَى ماذا يكون تعامل قُوَّاد العالم في التاريخ والواقع مع مَنْ يدبِّرون مؤامراتٍ لقتلهم؟! وماذا سيكون ردُّ فعل هؤلاء الزعماء عند مقتل أصحابهم وأحبابهم؟!!
عند القياس سيزول الالتباس!!
وعند المقارنة ستتضح المفارقة!!
إنه لا ينبغي لأحد من أهل الأرض -كائنًا من كان- أن يقارن أخلاقَ أحدٍ بأخلاق الرسول ؛ فأخلاقُ عمومِ البشرِ شيءٌ، وأخلاقُ النبوةِ شيءٌ آخر تمامًا..
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21].