حتمية الحروب
قام أحد الباحثين باستقصاء الحروب المعروفة منذ بدء تاريخ البشرية حتى عام 1945م؛ فكانت النتيجة كالتالي: نشبت 34531 حربًا خلال 5560 سنة، بمعدل 6.2 حرب كل عام، وخلال 185 جيلاً لم ينعم بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقط.
إذن فالحرب ظاهرة اجتماعية قديمة، صاحبت الإنسان منذ نشأته على الأرض، وعبَّرت بجلاء عن طبيعته التي وإن كانت تميل إلى السلم، فهي تلجأ من أجل حمايته إلى الحرب.
ويرى ابن خلدون أنّ الحروب طبيعة في الناس، وضرورة يفرضها الواقع الذي يعيشون فيه، ويرى أفلاطون أنّها حالة طبيعية لعلاقات جماعة من الجماعات السياسية بجماعة أخرى، أما في القانون الدولي التقليدي فالحرب هي: الحالة القانونية التي تتولد عن نشوب كفاح مسلح بين القوات المسلحة لدولتين أو أكثر مع توفر نية إنهاء العلاقات السلمية بين إحدى هذه الدول أو لديها جميعًا.
وباستعراض أسباب الحروب على مر التاريخ، نجد أبرزها: النزاعات الحدودية، النزاع على الثروات الطبيعية، الحروب الدينية -كالحملات الصليبية-، حروب التحرير، حروب التطهير العرقي.
وتختلف الحرب من عقيدة إلى أخرى؛ فالحرب عند اليهود حرب تدميرية، لاعتقادهم أنهم أرقى الشعوب، وأنّ تميزهم على سائر الأجناس منحة ربانية أعطاهم إياها الرب، فإذا حاربوا استباحوا أعداءهم، وقتلوا الرجال واستعبدوا النساء والأطفال وأحرقوا البيوت، ولديهم نصوص في التوراة المحرَّفة تحضُّ على ذلك، منها على سبيل المثال: "سبع شعوب دفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم، فإنّك تحرمهم (أي تبيدهم وتدمرهم).. لا تقطع لهم عهدًا ولا تشفق عليهم. ولا تصاهرهم.. لأنّك أنت شعب مقدس للرب إلهك. إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض.. مباركًا تكون فوق جميع الشعوب لا يكون عقيم ولا عاقر فيك ولا في بهائمك. ويرد الرب عنك كل مرض وكل أدواء مصر الرديئة التي عرفتها لا يضعها عليك، بل يجمعها على مبغضيك، وتأكل كل الشعوب الذين الرب إلهك يدفع إليك. لا تشفق عيناك عليهم".
فلا شفقة على أي من الشعوب، بل أكلهم أكلاً!
أما بالنسبة للمسيحيين فليس لديهم تنظيم ديني للحرب؛ إذ لم يكن السيد المسيح عليه السلام -كما يقولون- مشرِّعًا، ولكن كان داعيًا إلى تطهير النفوس بترويضها روحيًّا على مبادئ الأخلاق، ويأتي ما يؤيد ذلك على لسان المسيح عليه السلام في الإنجيل المحرَّف فيقول: "أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضًا، ومن سخَّرك ميلاً واحدًا فاذهب معه ميلين"، ولكن يأتي في مواضع أخرى على لسانه ما هو خلاف ذلك أيضًا فيقول: "لا تظنوا أنني جئت أنشر السلام على الأرض، إنني لم آت أحمل السلام، وإنما السيف"، بل إنّه يقول: "إنّني جئت لألقي على الأرض النار، وما أريد من ذلك إلا اشتعالها"، وهذا ما فعله الصليبيون عندما استولوا على بيت المقدس فذبحوا سبعين ألف مسلم، وفي عام 1992م ارتكب الصرب فظائع كثيرة في حق المسلمين البوسنيين، وكان كل شيء بعلم الكنيسة الأرثوذكسية وأوامرها؛ فقاموا بقطع إصبعين وترك ثلاثة أصابع للضحايا كرمز على التثليث، ورسم الصليب على الأجسام بالسكاكين، كما أصدرت الكنيسة فتوى تبيح اغتصاب الصرب للمسلمات؛ فتم اغتصاب حوالي 60 ألف سيدة وفتاة وطفلة بوسنية عدة مرات.
من هنا تأتي حتمية الحرب عند المسلمين؛ كضرورة لتأمين سبل الدعوة، والدفاع عن حرية العقيدة وحرمات المسلمين وأعراضهم، لا مبادأة للقهر والتسلط، فليس الإسلام وحده هو المانع من القتل، وليس الكفر وحده هو الموجب له، وهذا ما قرره فقهاء المالكية والحنفية والحنابلة؛ أنّ مناط القتال هو الحرابة والمقاتلة والاعتداء وليس الكفر؛ فلا يُقتل شخصٌ لمجرد مخالفته للإسلام، إنما يُقتل لاعتدائه على الإسلام، وغير المقاتل لا يجوز قتاله، وإنما يُلتزم معه جانب السلم.
ويؤكد القرآن الكريم حتمية الحرب في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، أي: ولولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق، لفسدت الأرض، وعمَّها الخراب؛ لأن أهل الفساد إذا تُركوا من غير مقاومة استطارت شرورهم، وغلبوا أهل الصلاح، وتعطلت مصالح الناس، وانتشر الفساد.
ومعلوم أنّ الشر لا يترك الخير أبدًا، ولئن ترك أهلُ الحق أهلَ الباطل فلن يتركوهم؛ وهذا ما يقرره الله تعالى فيقول: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، ويقول كذلك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فيعلن سبحانه بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين؛ وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان..
والتاريخ يُصدِّق هذا التقرير ويؤكده، ولقد هاجر المسلمون المضطهَدون في مكة إلى الحبشة، وهي بلاد بعيدة غريبة، فهل تركهم المشركون؟ إنهم سعوا وراءهم سعيًا حثيثًا، غير عابئين بخُلُقٍ ولا عُرْفٍ ولا قانون، وهاجر المسلمون بعد ذلك إلى المدينة، على بعد خمسمائة كيلو متر من مكة، فهل تركهم المشركون؟ أم كانت المعارك تلو المعارك في بدر وأحد والأحزاب وغيرها؟ وحاول المسلمون أن يتعايشوا في سلام مع يهود المدينة فهل قَبِل اليهود بذلك؟ أم كانت هناك خيانات متتالية للعهود، حتى ما عاد هناك مهرب من حروب ضروس؟ وثقيفٌ وهوازن وغطفان وسليم وغيرها من القبائل، هل تركوا المسلمين ينشئون دولتهم في هدوء واطمئنان أم كانت الحروب الاستفزازية، والمخالفة الواضحة لكل أعراف الجزيرة؟
وما قلناه عن السيرة النبوية ينطبق على ما بعدها، ويندر أن تجد مرحلة في التاريخ ليس فيها نزاع، وليس هذا أمرًا خاصًّا بالمسلمين وحدهم، إنما هو عامٌ على الأرض كلها، وراجعوا التاريخ، وراجعوا كذلك الواقع.
ولسنا نعني بحتمية الحروب أننا نشتهيها أو نترقَّب حدوثها، بل نحن على العكس من ذلك تمامًا، فنحن لا نجعل الحرب –كما سنتبيَّن إن شاء الله في هذا البحث- إلا آخر القرارات، ونهاية الحلول، ولا نسعى إليها إلا لردِّ حقٍ، أو دفعِ شرٍ، أو تأمينِ حياة.
والسؤال الذي يدور بخلد الكثيرين، هل سيأتي زمان يختفي فيه الشرُّ من العالم، ويحلُّ السلام المطلق الذي لا حرب معه؟ إنَّ هذا -وإن كان حلمًا غاليًا، وأملاً رائعًا- إلا أنه للأسف الشديد حلمٌ غير واقعي، وأملٌ لا يقبل التحقيق! وإذا أردتم التأكد من ذلك فلنعد إلى قصة الدنيا من بدايتها، وقصة الخَلْق من أولها، ولنعد كذلك إلى ما عندنا من نصوص تشير إلى أحداث الدنيا المستقبلية إلى يوم القيامة، وبعدها سنعرف إن كانت الحرب ستختفي من الوجود، أم أنها ستستمر برغم ويلاتها ومآسيها.
إنَّ الحرب بدأت فعليًا مع أول خلقٍ للإنسان، بل إنها كانت موجودة على الأرض حتى قبل خلق الإنسان، بدليل قول الله عز وجل وهو يصف تعجب الملائكة من جعل خليفة في الأرض، مع الفساد الذي اعتادوا رؤيته على ظهرها، قال تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، فالفساد كان موجودًا، وسفك الدماء كان حاصلاً، وقد نقل ابن جرير الطبري عن الضحاك عن ابن عباس –رضي الله عنه- أنه قال: "إن أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا"، ويرى بعض المفسرين الآخرين -كما نقل ابن جرير كذلك عن السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة- أن تأويل الآية أن الله أعلمَ الملائكةَ بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك، وسواء كان هناك فساد قبل آدم عليه السلام، أو أخبر الله عز وجل أنه حادثٌ حتمًا في الذرية، فهذه كلها قرائن قوية على قِدَمِ الحرب منذ أول أيام الخليقة.
وعندما أتم الله سبحانه خَلْقَ آدم عليه السلام، وأمر الملائكة بالسجود له تكريمًا وتشريفًا بدأت أول حرب بمخالفة إبليس أمر ربه واستكباره عن السجود، فلعن الله إبليس وأخرجه من الجنة، بل وأنظره إلى يوم القيامة {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 36 - 38]، فهذا دليل أكيد على استمرار الشرِّ إلى يوم القيامة، لأن إبليس لن يكفَّ عن غواية البشر، ودفعهم إلى الفساد والضلال، إن قضية إبليس واضحة، وغايته معلنة منذ قديم.. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]، فإذا كان إبليس قد توعد بني آدم بالإضلال والإغواء إلى يوم القيامة؛ فالحرب لا محالة واقعة، والصراع لا شك سيدوم إلى يوم الوقت المعلوم، ولم يُضيِّع إبليس وقته، بل بدأ بالحرب مع نبي كريم هو آدم عليه السلام، وأفلح بعد محاولات في إيقاع الشرَّ به، وكانت النتيجة خروج آدم عليه السلام من الجنة، وبداية مرحلة جديدة من الصراع على الأرض، وقد بيَّن ربنا لآدم عليه السلام –ولنا- أن العداء مع الشيطان سيكون مستمرًا إلى نهاية الدنيا، قال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]، وقال في توضيحٍ لا يحتمل تأويلاً آخر: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، ومع إن الإنسان ينسى كثيرًا فإن الشيطان متذكرٌ لقضيته على الدوام، وقد مارَس حربه الشرسة ضد أولاد آدم عليه السلام، فأقنع أحد الولدين بشنِّ حرب على الآخر، وأفلح في كيده، وكما وصف ربنا عز وجل حال القاتل حين قال: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة: 30]، ومن يومها وسُنَّة القتل لتحقيق المصالح ماضية، وانقسم البشر إلى طائفتين لا ثالث لهما: أولياء الله، وأولياء الشيطان، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
ولم تخْلُ فترة من فترات التاريخ من حرب بين الطائفتين، بل أحيانًا يُفلِح الشيطان في إقناع كل طائفة أن تتقاتل فيما بينها، فترى الكافر يقاتل الكافر، وترى المؤمن يقاتل المؤمن، والحرب في النهاية مستمرة، ولن يأتي زمان ينجح فيه أولاد آدم عليه السلام في الخروج من سيطرة الشيطان بشكل دائم وكامل، بل إن الحقيقة المُرَّة أن الشيطان منتصرٌ في أغلب مواقعه مع البشر! لدرجة قد لا يتخيلها أحد، وقد عرَّفنا بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما نقل عن رب العزة أحد مشاهد يوم القيامة فقال: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ»! إنها نتيجة هائلة حقًّا تفسر لنا الشرور الكثيرة التي نراها في بقاع العالم المختلفة في كل الأزمان! وتفسر لنا كذلك حروب الردَّة، ومجازر الصليبيين، وظهور التتار، ومهازل الاستعمار، واحتلال البلاد الضعيفة، وقهر الشعوب المسكينة، إنها تفسر لنا تردي الإنسان أحيانًا إلى دركات أسفل من مستوى الحيوان، فلا يَرعى حرمةً لغيره، ولو كان شقيقه من أمِّه وأبيه!!
ونتساءل: أليس هناك نهاية لهذه الفظائع؟ ألن يأتي زمانٌ بلا حرب؟!
والجواب: إن هذا – للأسف – لن يكون!
إنَّ الحرب مستمرة إلى يوم القيامة، بل نَقَلَ لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بعض تفصيلاتها وأحداثها، فذكر من العلامات التي تسبق الساعة مباشرة أن الحروب ستكون على أشدها، فقال مثلاً: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُود»، فهذه حربٌ محددة يصفها لنا، وفي حديث آخر يقول: «سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ، ثُمَّ تَرْجِعُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَة»، وهذه المعارك الموصوفة ليست في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل هي موجودة أيضًا في كتب اليهود والنصارى، وإحداها معروفة عندهم بموقعة "هرمجدون"، وهي من معاركهم المقدسة، وليس غرضنا في هذه اللفتة الاستقصاء، ولكن فقط نشير إلى أن العالم أجمع يتفق أن الحروب -شئنا أم أبينا- ستظل موجودة إلى يوم القيامة.
وبعد..
هل نذكر هذه الحقائق لنعيش في كآبة وحزن، أو لنوقن بالهلاك والبوار؟!
إننا لا نذكر ذلك لهذه الأهداف، إنما نذكره لنطلب من كل حرٍّ منصفٍ عادلٍ محبٍ للخير مؤيدٍ للحق أن يجعل حَرْبَه -إن حَدَثَت- من أجل غاية نبيلة، وهدف شريف، فالحرب من أجل تحرير البلاد حرب نبيلة، والحرب من أجل الزود عن الحرمات حرب شريفة، والحرب من أجل نصرة الحق حرب مجيدة، والحرب من أجل ردع الظالمين حرب كريمة، إن هذه الحروب بهذه الصفات لجدير أن يشترك فيها كل الصالحين والمصلحين.
ثم إننا إذا علمنا أن الحرب حتمية فإنه يجب أن نسعى إلى أن نضبط حروبنا بضوابط أخلاقية تحميها من التدني إلى رذائل الأفعال، ومنكرات الأعمال، وإنه لعملٌ شاقٌّ حقًّا أن نضبط الحروب بالأخلاق، ولكنه ليس بمستحيل، ومن يقرأ صفحات هذا البحث، ويطَّلع على تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدرك من الوهلة الأولى أن هذه الحرب الأخلاقية ممكنة، وأنّ ضوابطها واقعية، ولعل مَن ينكر إمكانية حدوث مثل هذه الحرب الأخلاقية هو رجل لا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم!!