{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)}
قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ} قال عبد الله بن مسعود: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي يريد من قديم ما كسب وحفظ من القرآن كالمال التلاد. وروي أن رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبني جدارا فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} فنفض يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدا وقد اقترب الحساب. {اقْتَرَبَ} أي قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم. {لِلنَّاسِ} قال ابن عباس: المراد بالناس هنا المشركون بدليل قوله تعالى: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} إلى قوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
وقيل: الناس عموم وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش، يدل على ذلك ما بعد من الآيات، ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آت قريب، والموت لا محالة آت، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضا قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى.
وقال الضحاك: معنى {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ} أي عذابهم يعني أهل مكة، لأنهم استبطئوا ما وعدوا به من العذاب تكذيبا، وكان قتلهم يوم بدر. النحاس ولا يجوز في الكلام اقترب حسابهم للناس، لئلا يتقدم مضمر على مظهر لا يجوز أن ينوي به التأخير. {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ابتداء وخبر. ويجوز النصب في غير القرآن على الحال. وفيه وجهان: أحدهما: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} يعني بالدنيا عن الآخرة.
الثاني- عن التأهب للحساب وعما جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذه الواو عند سيبويه بمعنى {إذ} وهي التي يسميها النحويون واو الحال، كما قال الله تبارك وتعالى: {يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]. قوله تعالى: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} {مُحْدَثٍ} نعت ل {- ذِكْرٍ}. وأجاز الكسائي والفراء {محدثا} بمعنى ما يأتيهم محدثا، نصب على الحال. وأجاز الفراء أيضا رفع {مُحْدَثٍ} على النعت للذكر، لأنك لو حذفت {مِنْ} رفعت ذكرا، أي ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث، يريد في النزول وتلاوة جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان ينزل سورة بعد سورة، وآية بعد آية، كما كان ينزله الله تعالى عليه في وقت بعد وقت، لا أن القرآن مخلوق.
وقيل: الذكر ما يذكرهم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعظهم به. وقال: {مِنْ رَبِّهِمْ} لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق إلا بالوحي، فوعظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحذيره ذكر، وهو محدث، قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21]. ويقال: فلان في مجلس الذكر.
وقيل: الذكر الرسول نفسه، قاله الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} [القلم: 51- 52] يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا 10} [الطلاق: 10- 11]. {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من أمته. {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} الواو واو الحال يدل عليه {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} ومعنى. {يَلْعَبُونَ} أي يلهون.
وقيل: يشتغلون، فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم.
الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله على الشغل احتمل ما يتشاغلون به وجهين: أحدهما- بالدنيا لأنها لعب، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36].
الثاني: يتشاغلون بالقدح فيه، والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل وقيل. يستمعون القرآن مستهزئين. قوله تعالى: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي ساهية قلوبهم، معرضة عن ذكر الله، متشاغلة عن التأمل والتفهم، من قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهى لهيا ولهيانا. و{لاهِيَةً} نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع المنعوت في جميع الاعراب، فإذا تقدم النعت الاسم انتصب كقوله: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ} [القلم: 43] و{وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها} [الإنسان: 14] و{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} قال الشاعر:
لعزة موحشا طلل *** يلوح كأنه خلل
أراد: طلل موحش. وأجاز الكسائي والفراء {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} بالرفع بمعنى قلوبهم لاهية. وأجاز غيرهما: الرفع على أن يكون خبرا بعد خبر وعلى إضمار مبتدأ.
وقال الكسائي: ويجوز أن يكون المعنى، إلا استمعوه لاهية قلوبهم. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي تناجوا فيما بينهم بالتكذيب، ثم بين من هم فقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي الذين أشركوا، ف {- الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الواو في {أَسَرُّوا} وهو عائد على الناس المتقدم ذكرهم، ولا يوقف على هذا القول على {النَّجْوَى 20: 62}. قال المبرد وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله فبنو بدل من الواو في انطلقوا.
وقيل: هو رفع على الذم، أي هم الذين ظلموا: وقيل: على حذف القول، التقدير: يقول الذين ظلموا وحذف القول، مثل {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23- 24]. واختار هذا القول النحاس، قال: والدليل على صحة هذا الجواب أن بعده {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3]. وقول رابع: يكون منصوبا بمعنى أعني الذين ظلموا: وأجاز الفراء أن يكون خفضا بمعنى اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم، ولا يوقف على هذا الوجه على {النَّجْوَى 20: 62} ويوقف على الوجوه الثلاثة المتقدمة قبله، فهذه خمسة أقوال: وأجاز الأخفش الرفع على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وهو حسن، قال الله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]: وقال الشاعر:
بك نال النضال دون المساعي *** فاهتدين النبال للأغراض
وقال آخر:
ولكن ديافي أبوه وأمه *** بحوران يعصرن السليط أقاربه
وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، مجازه: والذين ظلموا أسروا النجوى. أبو عبيدة: {أَسَرُّوا} هنا من الأضداد، فيحتمل أن يكونوا أخفوا كلامهم، ويحتمل أن يكونوا أظهروه وأعلنوه: قوله تعالى: {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي تناجوا بينهم وقالوا: هل هذا الذكر الذي هو الرسول، أو هل هذا الذي يدعوكم إلا بشر مثلكم، لا يتميز عنكم بشيء، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق كما تفعلون: وما علموا أن الله عز وجل بين أنه لا يجوز أن يرسل إليهم إلا بشرا ليتفهموا ويعلمهم: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} أي إن الذي جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سحر، فكيف تجيئون إليه وتتبعونه؟ فأطلع الله نبيه عليه السلام على ما تناجوا به: و{السِّحْرَ 10} في اللغة كل مموه لا حقيقة له ولا صحة. {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}. قيل معناه {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أنه إنسان مثلكم مثل: {وأنتم تعقلون} لان العقل البصر بالأشياء.
وقيل: المعنى، أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر: وقيل: المعنى، أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق، ومعنى الكلام التوبيخ.
{قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}
قوله تعالى: {قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ} أي لا يخفي عليه شيء مما يقال في السماء والأرض.
وفي مصاحف أهل الكوفة {قالَ رَبِّي} أي قال محمد ربي يعلم القول، أي هو عالم بما تناجيتم به.
وقيل: إن القراءة الأولى أولي لأنهم أسروا هذا القول فأظهر الله عز وجل عليه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمره أن يقول لهم هذا، قال النحاس: والقراءتان صحيحتان وهما بمنزلة الآيتين، وفيهما من الفائدة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر وأنه قال كما أمر. قوله تعالى: {بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ} قال الزجاج: أي قالوا الذي يأتي به أضغاث أحلام.
وقال غيره: أي قالوا هو أخلاط كالاحلام المختلطة، أي أهاويل رآها في المنام، قال معناه مجاهد وقتادة، ومنه قول الشاعر:
كضغث حلم غر منه حالمه***
وقال القتبي: إنها الرؤيا الكاذبة، وفية قول الشاعر:
أحاديث طسم أو سراب بفدفد *** ترقرق للساري وأضغاث حالم
وقال اليزيدي: الأضغاث ما لم يكن له تأويل. وقد مضى هذا في يوسف. فلما رأوا أن الامر ليس كما قالوا انتقلوا عن ذلك فقالوا: {بَلْ قالُوا} ثم انتقلوا عن ذلك فقالوا: {بَلْ هُوَ شاعِرٌ} أي هم متحيرون لا يستقرون على شي: قالوا مرة سحر، ومرة أضغاث أحلام، ومرة افتراه، ومرة شاعر.
وقيل: أي قال فريق إنه ساحر: وفريق إنه أضغاث أحلام، وفريق إنه افتراه، وفريق إنه شاعر. والافتراء الاختلاق، وقد تقدم.
{فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} أي كما أرسل موسى بالعصا وغيرها من الآيات ومثل ناقة صالح. وكانوا عالمين بأن القرآن ليس بسحر ولا رؤيا ولكن قالوا: ينبغي أن يأتي بآية نقترحها، ولم يكن لهم الاقتراح بعد ما رأوا آية واحدة. وأيضا إذا لم يؤمنوا بآية هي من جنس ما هم أعلم الناس به، ولا مجال للشبهة فيها فكيف يؤمنون بآية غيرها، ولو أبرأ الأكمه والأبرص لقالوا: هذا من باب الطب، وليس ذلك من صناعتنا، وإنما كان سؤالهم تعنتا إذ كان الله أعطاهم من الآيات ما فيه كفاية. وبين الله عز وجل أنهم لو كانوا يؤمنون لأعطاهم ما سألوه لقوله عز وجل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. قوله تعالى: {ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} قال ابن عباس: يريد قوم صالح وقوم فرعون. {أَهْلَكْناها} يريد كان في علمنا هلاكها: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} يريد يصدقون، أي فما آمنوا بالآيات فاستؤصلوا فلو رأى هؤلاء ما اقترحوا لما آمنوا، لما سبق من القضاء بأنهم لا يؤمنون أيضا، وإنما تأخر عقابهم لعلمنا بأن في أصلابهم من يؤمن: و{من} زائدة في قوله: {مِنْ قَرْيَةٍ} كقوله: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [الحاقة: 47]:
{وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)}
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} هذا رد عليهم في قولهم: {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] وتأنيس لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي لم يرسل قبلك إلا رجالا.
{فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله سفيان: وسماهم أهل الذكر، لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء مما لم تعرفه العرب: وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في آمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن، أي فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال علي رضي الله عنه نحن أهل الذكر: وقد ثبت بالتواتر أن الرسل كانوا من البشر، فالمعنى لا تبدءوا بالإنكار وبقولكم ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة، بل ناظروا المؤمنين ليبينوا لكم جواز أن يكون الرسول من البشر: والملك لا يسمى رجلا، لان الرجل يقع على ماله ضد من لفظه تقول: رجل وامرأة، ورجل وصبي فقوله: {إِلَّا رِجالًا 10} من بني آدم: وقرأ حفص وحمزة والكسائي: {نوحي إليهم}. مسألة- لم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المراد بقول الله عز وجل: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وأجمعوا على أن الأعمى لأبد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه بالقبلة إذا أشكلت عليه، فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد له من تقليد عالمه، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا، لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم. قوله تعالى: {وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ} الضمير في {جَعَلْناهُمْ 10: 73} للأنبياء، أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب.- {وَما كانُوا خالِدِينَ} يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم: {ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [المؤمنون: 33] وقولهم: {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ} [الفرقان: 7]. و{جَسَداً} اسم جنس، ولهذا لم يقل أجسادا، وقيل: لم يقل أجسادا، لأنه أراد وما جعلنا كل واحد منهم جسدا. والجسد البدن، تقول منه: تجسد كما تقول من الجسم تجسم. والجسد أيضا الزعفران أو نحوه من الصبغ، وهو الدم أيضا، قال النابغة:
وما أهريق على الأنصاب من جسد ***
وقال الكلبي: والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب، فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب، فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ذكره الماوردي. قوله تعالى: {ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ} يعني الأنبياء، أي بإنجائهم ونصرهم وإهلاك مكذبيهم. {وَمَنْ نَشاءُ} أي الذين صدقوا الأنبياء. {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} أي المشركين. قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً} 10 يعني القرآن. {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} 10 رفع بالابتداء والجملة في موضع نصب لأنها نعت لكتاب، والمراد بالذكر هنا الشرف، أي فيه شرفكم، مثل {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. ثم نبههم بالاستفهام الذي معناه التوقيف فقال عز وجل: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب، أفلا تعقلون هذه الأشياء التي ذكرناها؟! وقال مجاهد: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ 10} أي حديثكم.
وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم.
وقال سهل بن عبد الله: العمل بما فيه حياتكم. قلت: وهذه الأقوال بمعنى والأول يعمها، إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه معجزته، وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه، دليله قوله عليه السلام: «القرآن حجة لك أو عليك».
{وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)}
قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً} يريد مدائن كانت باليمن.
وقال أهل التفسير والاخبار: إنه أراد أهل حضور وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين، لان قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرس في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى أرميا أن ايت بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم، وأوحى الله إلى أرميا أن أحمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق، كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد، فحمل معد وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة، ثم إن بخت نصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان- وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا- ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك بحضور أثرا، ثم انصرف راجعا إلى السواد. و{كَمْ} في موضع نصب بـ {قَصَمْنا}. والقصم الكسر، يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعنى به هاهنا الإهلاك. وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة، قال الشاعر:
كأنه دملج من فضة نبه *** في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ومنه الحديث: «فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا». وقوله: {كانَتْ ظالِمَةً} أي كافرة، يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الايمان. {وَأَنْشَأْنا} أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم {قَوْماً آخَرِينَ}. {فَلَمَّا أَحَسُّوا} أي رأوا عذابنا، يقال: أحسست منه ضعفا.
وقال الأخفش: {أَحَسُّوا} خافوا وتوقعوا. {إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ} أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطي. والركض تحريك الرجل، ومنه قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] وركضت الفرس برجلي استحثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهو مركوض. {لا تَرْكُضُوا} أي لا تفروا.
وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت: {لا تَرْكُضُوا}. {وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم، يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال: {وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [المؤمنون: 33]. {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، استهزاء بهم، قاله قتادة.
وقيل: المعنى {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به.
وقيل: المعنى {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم، قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. {قالُوا يا وَيْلَنا} لما قالت لهم الملائكة: {لا تَرْكُضُوا} ونادت يا لثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا {يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. {فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ} أي لم يزالوا يقولون: {يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ}. {حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً} أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، قاله مجاهد.
وقال الحسن: أي بالعذاب. {خامِدِينَ} أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.
{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}
قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ} أي عبثا وباطلا، بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وأنه يجازي المسيء والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة. قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} لما أعتقد قوم أن له ولدا قال: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} واللهو المرأة بلغة اليمن، قاله قتادة.
وقال عقبة بن أبي جسرة- وجاء طاوس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً}- فقال: اللهو الزوجة، وقاله الحسن.
وقال ابن عباس: اللهو الولد، وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع. قلت: ومنه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر ***
الجوهري- وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} قالوا امرأة ويقال: ولدا. {لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله، أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا.
وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. {إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ} قال قتادة ومقاتل وابن. جريج والحسن: المعنى ما كنا فاعلين، مثل {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] أي ما أنت إلا نذير. و{أَنْ} بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: {لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا}.
وقيل: إنه على معنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد، إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا.
وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم، لان الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل، ذكره القشيري. قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ} القذف الرمي، أي نرمي بالحق على الباطل. {فَيَدْمَغُهُ} أي يقهره ويهلكه. واصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد، قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان.
وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره.
وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم.
وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي، والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. {فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} أي هالك وتالف، قاله قتادة. {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الرب بما لا يجوز وصفه.
وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم، وقد تقدم. {مِمَّا تَصِفُونَ} أي مما تكذبون، عن قتادة ومجاهد، نظيره: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] أي بكذبهم.
وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}
قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. {لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي لا يأنفون {عَنْ عِبادَتِهِ} والتذلل له. {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي يعيون، قاله قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب، يقال: حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، وأحسرته أيضا فهو حسير.
وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون.
وقال أبو زيد: لا يكلون.
وقيل: لا يفشلون، ذكره ابن الاعرابي، والمعنى واحد. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} 20 أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. {لا يَفْتُرُونَ} 20 أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبد الله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شي؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبد المطلب، فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله. قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الأحياء.
وقيل: {أَمِ} بمعنى {هل} أي هل أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون {أَمِ} هنا بمعنى بل، لان ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر {أم} مع الاستفهام فتكون {أم} المنقطعة فيصح المعنى، قاله المبرد.
وقيل: {أَمِ} عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيى الموتى فيكون موضع شبهة؟.
وقيل: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ 10} [الأنبياء: 10] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون {أم} متصلة. وقرأ الجمهور: {يُنْشِرُونَ} بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن: بفتح الياء، أي يحيون ولا يموتون.
{لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)}
قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} أي لو كان في السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه: {إلا} بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير، كما قال:
وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان
وحكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا.
وقال الفراء: {إِلَّا} هنا في موضع سوى، والمعنى: لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها.
وقال غيره: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير، لان أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا: وقيل: معنى {لَفَسَدَتا} أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. {فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد. قوله تعالى: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج المعنى. لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم، لأنهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للإلهية.
وقيل: لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصي ربنا قهرا؟ قال: أرأيت إن منعني. الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}. وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لاطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والأحياء، فتكون {أَمِ} بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك.
وقيل: الأول احتجاج من حيث المعقول، لأنه قال: {هُمْ يُنْشِرُونَ} ويحيون الموتى، هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟ {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بإخلاص التوحيد في القرآن {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب، فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي.
وقال قتادة: الإشارة إلى القرآن، المعنى: {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بما يلزمهم من الحلال والحرام {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من الأمم ممن نجا بالايمان وهلك بالشرك.
وقيل: {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بما لهم من الثواب على الايمان والعقاب على الكفر. {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا، وما يفعل بهم في الآخرة.
وقيل: معنى الكلام الوعيد والتهديد، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم: أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ {هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} بالتنوين وكسر الميم، وزعم أنه لا وجه لهذا.
وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة: المعنى، هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي.
وقيل: ذكر كائن من قبلي، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} وقرأ ابن محيص والحسن: {الحق} بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق وعلى هذا يوقف على {لا يَعْلَمُونَ} ولا يوقف عليه على قراءة النصب. {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي عن الحق وهو القرآن، فلا يتأملون حجة التوحيد.
{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} وقرأ حفص وحمزة والكسائي: {نُوحِي إِلَيْهِ} بالنون، لقوله: {أَرْسَلْنا}. {أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} أي قلنا للجميع لا إله إلا الله، فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول.
وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد.
{وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}
قوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ} نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم.
وروى معمر عن قتادة قال قالت اليهود- قال معمر في روايته- أو طوائف من الناس: خاتن إلى الجن والملائكة من الجن، فقال الله عز وجل: {سُبْحانَهُ} تنزيها له. {بَلْ عِبادٌ} أي بل هم عباد {مُكْرَمُونَ} أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد، أي بل لم نتخذهم ولدا، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع، وقد يكون الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس، كما يقال لفلان مال. {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا يقولون حتى يقول، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم. {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي بطاعته وأوامره. {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، قال ابن عباس. وعنه أيضا: {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآخرة {وَما خَلْفَهُمْ} الدنيا، ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري. {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره، وفي الدنيا أيضا، فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي. {وَهُمْ} يعني الملائكة {مِنْ خَشْيَتِهِ} يعني من خوفه {مُشْفِقُونَ} أي خائفون لا يأمنون مكره.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ} قال قتادة والضحاك وغيرهما: عني بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره.
وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة، أي فذلك القائل {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}. وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل أهل السماء. وقد تقدم في البقرة. {كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.