وخلق الله البشر واصطفى منهم الأنبياء والرسل واصطفى من الرسل أولى العزم الخمسة واصطفى من أولى العز خليله وحبيبه محمداً ففضله على جميع الأنبياء والمرسلين. وتلبية لرغبة إخواننا وأحبابنا فإن موعدنا اليوم مع رسول الله بين التكريم والموت
وما أجملَ أن يكون اللقاءُ مع رسول الله !
وما أحلى أن يكون الحديثُ عن رسول الله !
فهو إمامُ الأنبياء .. وإمام الأتقياء .. وإمامُ الأصفياء.
* وفي الحديث الذى أخرجه مسلم والترمذى وأحمد من حديث أبى هريرة أن النبى قال :
فضلت على الأنبياء بست :
1- أعطيتُ جوامعَ الكلم
2-ونُصرتُ بالرعب ( رواية البخاري مسيرة شهر )
3-وأُحلتْ لىَ الغنائم
4- وجعلت لي الأرضُ طهوراً ومسجداً
5- وأُرسلتُ إلى الخلق كافة
6- وختم بى النبيون ([2])
وفي الحديث الذى رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وأحمد ، من حديث أبى هريرة أن النبى قال: « إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى ، كمثل رجل بنى بُنيانًا فَأحْسَنَه و أجْمَلَة، إلا موضع لبنةٍ من زاويةٍ من زواياه ، فجعل الناسُ يطوفون به ويعجبون له، ويقولون : هلا وضُعَت هذه اللبَّنَةُ ؟ قال : فأنا اللَّبِنَةُ وأنا خَاتَم النَّبِييَّن» ([3])
* وفي الحديث الذى رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وأحمد ، من حديث أبى هريرة أن النبى قال: «أنا سيد ولد أدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع» ([4])
ففى يوم يزداد همهُ وكربه، على جميع الناس، يومَ تدنو الشمسُ من الرءوس فتغلى من حرارتها ثم يؤتى بجهنم كما أخبر الحبيب فى الحديث الذى رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود :« يؤتى بجهنم ، لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف مَلَكٍ يجرُّنها» ([5])
فإذا رأت الخلائق زفرت ، وزمجرت غضباً لغضب الله عز وجل فإذا رأها الخلائق لا يقوم مخلوق على أرض المحشر أن يقف على قدميه من الحسرة والفزع والهول فيخر جاثياً على ركبته.
(( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً )) ([6])
ويطول الموقف على جميع الناس ، حتى الأنبياء ، فيقول بعضهم لبعض ألا ترون من أنتم فيه ..، ألا ترون ما قد بلغكم ..، ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناسُ لبعض ائتوا آدم عليه السلام.
* والحديث رواه البخارى ومسلم وأحمد وهذا لفظ أحمد من حديث أبى هريرة أنه قال يوماً : أنا سيدُ الناسِ يوم القيامة وهل تدرون ممَّ ذلك؟
يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد.
فيقول بعضُ الناسِ لبعض ِ ائتوا آدمَ فيقولون يا آدمُ : أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى رّبك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما قد بلَغَنا ؟
فيقول آدم : إن ربى غضب اليوم غضباً لم يغضب قبلَه مِثلَهُ ولن يغضب بعده مثلَهُ، وإنه نهانى عن الشجرة فعصيتُ ، نفسى .. ، نفسى..، نفسى..، اذهبوا إلى غيرى
اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوحُ أنت أولُ الرسلِ إلى أهل الأرض ، وسمّاك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك ن ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول نوحُ : إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ، وإن كانت لي دعوةٌ دعوت ُ بها على قومى نفسى ..، نفسى ..، اذهبوا إلى غيرى.
أذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيمُ أنت نبيّ الله وخليلُهُ من أهل الأرض ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟
فيقول: إن ربى غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، لا يغضب بعده مثله ، وذكر كَذَباته. نفسى ..، نفسى..، نفسى ..، أذهبوا إلى غيرى.
اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون : يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته، وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم موسى: إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنى قتلت نفساً لم أومر بقتلها ، نفسى.. نفسى..، نفسى.., اذهبوا إلى غيرى.
اذهبوا إلى عيسى . فيأتون عيسى .
فيقولون: يا عيسى أنت رسولُ الله وكلمتُهُ ألقاها على مريم وروحٌ منه ، قال : هكذا هو . وكلمتَ الناسَ فى المهد فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم عيسى : إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغب بعده مثله ، ولم يذكر ذنباً، نفسى ..، نفسى ..، نفسى ..، اذهبو إلى غيرى .
اذهبوا إلى محمد
فيأتونى . فيقولون يا محمد أنت رسولُ الله ، وخاتم الأنبياء ، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فأقومُ فآتى تحت العرض فأقعُ ساجداً لربى عز وجل ، ثم يَفْتَحُ اللهُ علىَّ ويُلهِمنُى من محامده وحُسنِ الثناءِ عليه ما لم يفتحْهُ على أحدٍ قبلى.
فيقال : يا محمدُ ارفع رأسك سل تعطه، اشفع تُشفّع فأقول : ياربّ أمتى أمتى ، يارب أمتى أمتى . وفي الروايات الأخرى فأقول يارب وعدتنى الشفاعة فشفعنى في خلقك فاقض بينهم فيقول سبحانه وتعالى شفعتك أنا أتيكم فأقضِ بينكم ([7])
فإن الله عز وجل قد كرم نبيه محمدا ً تكريماً فى الدنيا والآخرة ما كرمه لأحدٍ من العالمين
فهل منعه هذا التكريم من الموت : كلا وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد ([8] )
إلى أن نزل عليه قول الله جل وعلا: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ([9])
أخرج الطبرانى عن جابر بن عبد الله أنه قال لما نزلت هذه السورة.
قال النبى لجبريل: « نعيت إلى نفسى يا جبريل»
فقال جبريلُ: والآخرة خير لك من الأولى
وفي الحديث الذى انفرد به البخارى عن ابن عباس أنه قال سورة النصر هو أجل رسول الله
وفي الحديث الذى رواه أحمد عن ابن العباس لما نزلت قل :« نعيت إلى نفسى »([10])
وقال مجاهد والضحاك وغيرهم إنها أجلُ رسول الله
وفى أول شهر ربيع الأول من العام الحادى عشر للهجرة بدأ رسولُ الله يحسُ بالألم الشديد في رأسه فكان أولَ ما ابتدأ به رسول الله أنه خرج إلى بقيع الغرقد. فسلم على أهل البقيع واستغفر لهم.
تقول عائشة رضى الله عنها فلما رجع رسولُ الله من البقيع وجدنى وأنا أجد صداعاً فى رأسى وأنا أول وارأساه فقال: « بل أنا والله يا عائشة وارأساه» ([11])
فقامت عائشة رضى الله عنها الصديقةُ بنت الصديق ترقى النبى .
ففى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم أن عائشة رضى الله عنها قال: « كان رسول الله إذا اشتكى نَفَثَ على نفسه بالمعوذات ومسح عبنه بيده فلما اشتكى وجعه الذى تُوفَّى فيه طفقت أنفثُ على نفسه بالمعوذات التى كان ينفث وأسمح بيد النبى عنه»
وفي وراية للإمام مالك.
واسمح بيد رسول الله لأنها كانت أعظمَ بركةً من يَدى»
* واشتد الوجعُ برسول الله وهو في بيت ميمونة رضى الله عنها فدعا نساءه فاستأذنهن في أن يمرض في بيت عائشة فإذنَّ له رضى الله عنهن.
واشتد الوجعُ والألمُ برسول الله حتى قَلِق الصحابةُ قلقاً شديداًَ وحزنوا حزناً بليغاً فشعر النبىُ بهذا الحزن وهذا القلق. فأمرهم أن يصبوا عليه الماء.
كما ورد في الحديث الذي رواه البخارى من حديث عائشة رضى الله عنها قالت:
لما دخل رسول الله بيتى واشتد به وجعه قال هريقوا علىَّ من سبع قِرَي لعلى أعهد إلى الناس. وفي رواية ابن إسحاق حتى أخرج إلى الناس فأعهدُ إليهم.
تقول عائشة فأجلسناه في مخضبٍ لحفصة زوج النبى ثم طفقنا نصبُ عليه من تلك القرب حتى طفق يشيرُ إلينا بيده أن قد فعلتن ( وفي رواية ابن إسحاق) حتى طفق يقول حسبُكم حسبُكم
ثم خرجَ إلى الناس عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر.
فكان أول ما ذكر بعد حمدِ الله والثناس عليه ذكر أصحابَ أحدٍ فاستغفر لهم ودعا لهم وأكثر الصلاة عليهم. ثم قال :
«أيها الناس إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر لأنظر إليه من مقامي
هذا ، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها كما تنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكتكم » ([12])
ثم قال :
«أيها الناس إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر لأنظر إليه من مقامي
هذا ، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها كما تنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكتكم » ([12])
ثم قال :
إن عبداً من عبادِ الله خيره الله بين الدنيا والأخرة وبين ما عند اله فاختار ما عند الله ففهمها أبو بكر وعرف أن العبد المخير هو رسولُ الله فبكى الصديق وقال بأبى أنت وأمى يا رسول الله .
بل نحن نفديك بأبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا فعجب الناسُ من بكاء أبى بكر فقال الرسول : على رسلك يا أبا بكر.
ثم قال: أيها الناس إن أمن الناس على بصحبته وماله أبو بكر
كلكم كان له عندنا يدٌ كافأناه بها متخذاً إلا الصَّديق فإنا تركنا مكافأته لله عز وجل.
لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لا تخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة وصحبة وانظروا إلى هذه الأبواب النافذة إلى المسجد فسدوها إلا بيت أبي بكر ([13])
ثم قال : « يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم كانوا عيبتي التى أويت إليها فأحسنوا إلى مُحْسِنِهم وتجاوزوا عن مُسيِئهِم » ([14])
والحديث رواه البخاري ومسلم
ثم نزل رسول الله فدخل بيت عائشة وتقامَّ به وجعه، وثقل عليه المرض، ولم يعد يقدر على الخروج للصلاة بالمسلمين، فأمر النبى أن يصلى أبو بكر بالمسلمين . وفي الحديث الذى رواه البخارى ومسلم أن عبد الله بن مسعود دخل على رسول الله وقد اشتدت به الحمى فقال:
إنك لتوعك وعكاً شديداً يارسول الله قال: « أجل يا عبد الله إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم قلت إن لك لأجرين قال:كما نعم والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرضى مما سواه الإ حط الله عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها»([15])
ثم: دخل على َّ عبد الرحمنُ بن أبى بكر كما تقول عائشة رضى الله عنها فى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم قالت :
« إن الله جمع بين ريقى وريقه عند الموت دخل علىَّ عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله إلى صدرى، فرأيته ينظر إلى السواك ، وأنا أعرف أنه يحب السواك ، فقلت : آخذه لك يا رسول الله ، فأشار برأسه : أن نعم . فتناولته فأخذته ، ومضغته، ثم لينته ، قم طيبته ، ثم أعطيته لرسول الله فاستاك به جيداً، فلما انتهى أخذت السواك وأخذتُ أمْتَصُ من السواك ريق رسول الله فكان هذا هو آخر عهدى بريق المصطفى ».
فجمع الله بين ريقى وريقه في أخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة.
وكان بين يديه ركوة فيها ماء فجعل يُدخل يده في الماء فيمسح بهما وجه ويقول :
« لا إله إلا الله إن للموت لسكرات . اللهم أعنى على سكرات الموت» ([16])
وأقبلت عليه فاطمة الزهراء رضى الله عنها وكانت من أحب الناس إلى رسول الله وكانت إذا دخلت عليه في حالة صحته قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه ولكنه اليوم لا يستطيع القيام كما ورد في الحديث الذى رواه أبو داود والترمذى والنسائى . وابن حبان والحاكم من حديث عائشة رضى الله عنها.
« ما رأيت أحداً أشبه سمتاً وهدياً برسول الله بقيامها وقعودها من فاطمة وكانت إذا دخلت على النبى قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه»
فلما مرض الرسول دعا كما ورد في الحديث الذى رواه البخارى من حديث عائشة : « دعا النبى فاطمة عليها السلام في شكواه الذى قبض فيه فسارها بشئ فبكت ثم دعاه فسارها بشئ فضحكت فسألنا عن ذلك فقال : سارنى النبى أنه يقبض في وجعه الذى توفى فيه ، فبكيت ثم سارنى فأخبرنى أنى أولُ أهله ( لحوقاً به) يتبعه، فضحكت» ([17])
ثم قال: يا فاطمة إن جبريل كان يعارضنى القرآن في كل عام مرة ولقد عارضنى القرآن ، في هذا العام مرتين وما أراه إلا أنه قد اقترب الأجل يا فاطمة فبكت رضى الله عنها فقال : يا فاطمة إنك أشدُ نساءِ المسلمين مصاباً بى بعد موتى فلا تكونى أقل امرأةٍ منهم صبراً فاصبرى يا بنتى واحتسبى عند الله اجركى فقامت فاطمة تبكى وتقول احتسبتك عند الله يا رسول الله .
* فلما كان يوم الأثنين الذى توفى فيه رسول الله خرج إلى الناس وهم يصلون الصبح فرفع الستر وقام على باب عائشة فكاد المسلمون يُفتنون في صلاتهم فرحاً برسول اله حين رأوه وهمَّ أبو بكر أن يتأخر فأشار إليهم أن أثبتوا على صلاتكم وتبسم لما رأى من هيئتهم في صلاتهم ثم رجع وأرخى الستر ([18])
* وعاد وقد اقترب الأجل وبدأت اللحظات الأخيرة من عمره الشريف تتلاشى وتنتهي .
تقول عائشة: «مات رسول الله بين سحرى ونحرى وأنا مسندته إلى صدري فرأيته رفع يده أو إصبعه ثم قال : بل الرفيق الأعلى ..، بل الرفيق الأعلى ..، بل الرفيق الأعلى فعلمت أنه لا يختارنا» ([19])
وعن أنس قال : لما ثقل النبي جعل يتغشاه فقالت فاطمة عليها السلام: واكرب أبتاه، فقال لها : ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم فلما مات قالت : يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه فلما دفن قالت فاطمة : يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب» ([20])
· مات رسول الله .. مات المصطفى محمد ... مات خير خلق الله .. مات إمام الأنبياء ومات إمام الأصفياء.. مات إمام الأتقياء.
وقام عمر يصرخ ويقول : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات وإن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات وعقر علىّ فقعد فى الأرض لا يستطيع القايم.
وخرس لسان عثمان يذهب به ويأتى به من يده لا يتكلم .
وجاء الصديق وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شئ حتى دخل الجسمان الطاهر الشريف وهو مسجى في بيت عائشة فكشف الثوب عن وجهه وأقبل عليه يقبله ، وبكى وهو يقول : بأبى أنت وأمى يا رسول الله وأنبياءه واصفياه واخليلاه. أما الموته التى قد كتبها الله عليك فقد ذقتها ثم لن تصيبك بعدها موته أبداً ثم رد البرد على وجهه ، خرج إلى الناس فقال : على رسلك يا عمر فأبى إلا أن يتكلم فأقبل الناس على أبى بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ على الناس قول الله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِين َ ([21])
فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية قد نزلت وأخذها الناس عن أبى بكر فإنما هى في أقواههم. فلما سمعها عمر عقر ووقع على الأرض لا تحمله رجلاه وعلم أن رسول الله قد مات ([22])
وجاءت فاطمة تبكى وتقول : يا أبتاه أجابَ رباً دعاه..، يا أبتاه إلبى جبريل ننعاه ..، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه ([23])
ثم غسلوه في ثبابه ، وكفنونه ، ودفنوه في حجرة عائشة رضى الله عنها .
والله إن العين لتدمع .. وإن القلب ليحزن .. وإنا لفراق رسول الله لمحزونون.
إنها الحقيقة التى تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون وشرب كأسها الأنبياءُ والمرسلون.. إنها الحقيقة التى تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السموات والأرض . إنها الحقيقة التى تعلن على مدى الزمان والمكان في أُذن كل سامع وعقل كل مفكر وأديب أنه لا بقاء إلا لله الحىَّ القيوم.
أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسياً
أنسيت لقاءَ الله واللحدَ والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا
لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التُقَّى تجرد عرياناً ولو كان كاسياً
ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول حياً وباقياً فلترسخ هذه الحقيقة في القلوب والعقول ولنعلم أن قدر رسول الله في قلوبنا على قدر اتباعنا له. فمحبتنا له تستلزم اتباعه في كل ما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر وتصديقه في كل ما أخبر ومحبته أكثر من النفس والمال والولد دون غلوا أو إطراء .. اللهم صلى وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم واجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن امته ورسولا عن دعوته ورسالته واحشرنا في زمرته وتحت لواءه واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يارب العالمين...
الدعاء
__________
( 1 ) سورة آل عمران:81
([2]) صحيح: [ ص.ج:4222]، رواه البخاري رقم(6/90)في الجهاد، ومسلم رقم (523) في المساجد، والترمذي(1553) في السير، والنسائي (6/3، 4) في الجهاد
([3]) صحيح:[ ص.ج: 5857]، رواه البخاري رقم (6/408) في الأنبياء، ومسلم رقم (2286) في الفضائل، والترمذي (2866) في الأمثال.
([4]) صحيح:[ مختصر مسلم: 1524 ] ، رواه مسلم رقم (2278) في الفضائل، وأبو داود رقم (4763) في السنة ، والترمذي رقم (3615) في المناقب، وأحمد في مسنده 02/540).
([5]) صحيح[ ص.ج:8001]، رواه مسلم رقم (2842) في صفة الجنة، والترمذي رقم (2576) في صفة جهنم