وقفةٌ مع نهاية العام الهجريّ
الحمدُ لله الكريمِ الوهّابِ، الّذي جعل في مرورِ الأيّامِ عبرةً لأولي الألبابِ، وحثّ على المحاسبةِ والتّأهّب ليومِ المآبِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له غافرِ الذّنبِ وقابلِ التّوبِ شديدِ العقابِ، وأشهد أنّ محمّداً عبدُه ورسولُه النّبيُّ الأوّابُ؛ خيرُ من تاب وأناب، صلّى الله عليه وسلمّ، وعلى آله، وصحبه، والتّابعين لهم بإحسان إلى يوم الحسابِ.
أمّا بعد: فإنّ في اختلافِ اللّيلِ والنّهار، وتقلّبهما في إقبالٍ وإدبارٍ؛ إشعاراً بضرورةِ الرّحيلِ من هذه الدّارِ، إلى دارِ الخلودِ والقرارِ؛ ولهذا قال اللهُ الواحدُ القهارُ: ﴿ يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الْأَبْصَارِ﴾.
وإنّ ممّا يوجب علينا الاعتبارَ والادّكارَ، وأن نقف وقفةَ أُولي النُّهى والأبصارِ: أنّنا في هذهِ الأيّامِ نودّع عامًا ماضيًا شهيدًا، ونستقبل عامًا مقبلاً جديدًا، نودّع عامًا قد انقضى، وجزءًا من العمر قد مضى؛ تولّت لحظاتُه وبقيت تبِعاتُه؛ إذ كلُّ عامٍ يمرُّ على الإنسانِ يدنيه من أجلِه، ويقصيه عن أملِه، ويبعده عن دنياه، ويقربه من آخرته، وغدًا توفّى النفوس ما عملت، ويحصد الزارعون ما زرعوا ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران:185].
هكذا تتجدَّدُ الأعوامُ عاماً بعد عامٍ، فإذا دخل العامُ الجديدُ نظر العبدُ إلى آخرِه نظر البعيدِ، ثمَّ ما يلبث أن تَمُرَّ به الأيامُ سِرَاعاً، وينقضي كلمح البصر الْعَامُ جميعاً؛ فإذا هو فِي آخرِه، وكذلك عُمُرُ الإنسانِ يَتَطَلَّعُ العبدُ إلى آخرِه تَطَلُّعَ البعيدِ، فإذا به قدِ انْصَرَمَ كُلُّهُ، وَهَجَمَت عَلَيْهِ منيّتُه؛ فصار في عداد الغابرين؛ ولهذا قالَ اللهُ في كتابِه المبينِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان:62].
وإذا كان ذهابُ الليالي والأيام ليس لدى الغافلين اللَّاهين سوى مُضِيِّ يوم ومجيءِ آخر، فإنّه عند أولي الأبصار باعثٌ حيٌّ من بواعثِ التّفكّرِ، ومصدرٌ متجدِّدٌ من مصادرِ العظةِ والتّدبّرِ؛ يصوِّر ذلك ويبيِّنه أبلغَ بيانٍ: ما رواه البيهقيُّ في (شعب الإيمان) عن أبي الدّرداء عليه الرّضوان قال: "يا ابنَ آدم! إنما أنتَ أيامٌ، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك". وما رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا ينالُ العبدُ نعمةً إلا بفراقِ أخرى، ولا يستقبلُ يومًا من عمرِه إلا بهدمِ آخرَ من أجلِه". وقولُ بعضِ الصّالحين: "كيف يفرحُ مَن يومُه يهدمُ شهرَه، وشهرُه يهدمُ سنتَه، وسنتُه تهدمُ عمرَه؟! كيف يفرحُ من عمرُه يقودُه إلى أجلِه، وحياتُه تقودُه إلى موتِه؟!". وكان يزيدٌ الرقاشيُّ يتمثّل كثيراً بهذا البيت:
إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا ... وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ
هكذا كان السلف الصالحون رضي الله عنهم أجمعين يجعلون من مرور الأيامِ والشّهورِ والسنين مدّكراً ومزدجراً؛ فيحملهم ذلك على عمارتِها بالطّاعةِ والأعمالِ الصّالحةِ؛ لتكون لهم مدّخراً، وقد رُوي عن الحسن رحمه الله أنه قال: "ما منْ يومٍ ينشقُّ فجرُه إلا نادَى منادٍ من اللهِ: يا ابنَ آدم! أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِك شهيدٌ؛ فتزوَّدْ منّي بصالحِ العملِ؛ فإنّي لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ". ومن هنا كان أبو حازم رحمه الله تعالى يقول: "عَجبًا لقومٍ يعملون لدارٍ يرحلون عنها كلَّ يومٍ مرحلةً، ويدَعون أن يعمَلوا لدارٍ يرحلُون إليها كلَّ يومٍ مرحلةً!".
ونحنُ إذ نودِّعُ عاماً من أعمارِنا قد تصَرَّمَت أيامُه، وقُوِّضَت خِيامُه؛ حقيقٌ بنا أن نستيقظَ من رقدتِنا ، وننتبهَ من غفلتِنا ، ونعرفَ حقيقةَ هذه الدُّنيا؛ الّتي بهمومِها ومشاغلِها غمرَتْنا، وفي أوحالِها وفتنِها أغرقَتْنا؛ فنكون فيها كما قال نبيُّنا r لابن عمرَ رضي الله عنهما-فيما رواه البخاريّ-: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصّباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساءَ، وخُذْ من صحتِك لمرضِك، ومن حياتِك لموتِك".
وعابرُ السّبيلِ يتقلّلُ من الدّنيا، ويقصِّرُ الآمالَ فيها، ويستكثرُ من زادِ الإيمانِ والطّاعاتِ، ويكون همُّه المسابقةَ إلى الفضائلِ والخيراتِ؛ حالُه في ذلك كحالِ الصّحابيِّ الجليلِ معاذ بن جبل رضي الله عنه الّذي قال وهو على فراش الموت- كما عند أحمد في (الزّهد)-: "اللهمّ إنّك تعلمُ أنّي لم أكُنْ أُحبُّ البقاءَ في الدُّنيا ولا طُولَ المُكْثِ فيها لجَرْيِ الأنهارِ، ولا لغرسِ الأشجارِ، ولكنْ كنتُ أحبُّ البقاءَ لمكابدةِ اللّيلِ الطويلِ-يعني: بالقيام-، وظمَأ الهواجِرِ في الحرِّ الشديدِ-يعني: بالصِّيام-، ولمزاحمةِ العلماءِ بالرُّكَبِ في حِلَق الذِّكرِ".
ولئن كان أهلُ الأموالِ والتِّجاراتِ يقومون في آخرِ كلِّ عامٍ بعمَلِ تصفيةٍ وجَرْدٍ للحساباتِ ؛ لينظُرُوا الطرقَ الّتي ربِحُوا بها فيتوسّعُوا فيها، والطرقَ الّتي خسِرُوا بها فيجتنِبُوها؛ فما أحرانا ونحن نودِّعُ هذا العامَ: أن نقفَ مع أنفسِنا وقفةَ محاسبةٍ نستجلي فيها عامَنا؛ كيف أمضيناهُ؟ ووقتَه كيف قضيناهُ؟ وننظر في كتاب أعمالِنا علامَ طويناهُ؟ وماذا أودعناهُ؟ حتّى نبصر ما أسلفناهُ، ويتبيّن ما قدمناهُ؛ فإن كان خيرًا حمِدْنا اللهَ وشكرناهُ، وإن كان شرًّا تُبْنا إلى اللهِ واستغفرناهُ.
وهذه المحاسبةُ قد حثّ عليها وأرشد إليها اللهُ جلّ في علاه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. قال الحافظ ابن كثير في (تفسيره): "أي: حَاسِبُوا أنفسَكُم قبلَ أن تُحاسَبُوا، وانظُرُوا ماذا ادّخَرْتُم لأنفسِكُم من الأعمالِ الصّالحةِ ليومِ معادِكُم، وعرضِكُم على ربِّكُم".
فعلينا أن نحاسب أَنْفُسَنا لِنعْرِفَ مُدَّخَرَاتِنا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ورَصِيدَنا مِنَ التّجارةِ الرّابحةِ؛ فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t لنا؛ حَيْثُ يَقُولُ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا؛ فإنّه أهونُ عليكُم في الحسابِ غداً أن تحاسبُوا أنفسَكُم اليومَ ، وتزيّنُوا للعرضِ الأكبرِ يومئذ تعرضُون لا تخفى منكُم خافيةٌ".
فمن حاسَبَ نفسَهُ في الدُّنيا خَفَّ في القيامةِ حسابُهُ، وحضَرَ عند السُّؤالِ جوابُهُ، وحَسُنَ في الآخرةِ مُنْقَلبُهُ ومآبُهُ، ومن لم يُحاسِبْ نفسَهُ دامَتْ حسراتُهُ، وطالَتْ في عرصاتِ القيامةِ وقفاتُهُ، وقادَتْهُ إلى الخزيِ والمقتِ سيِّئاتُهُ.
وإنّ لنا في سلفِنا الصّالحين، من الصّحابةِ والتّابعين، والعلماء الربّانيّين خيرَ أسوةٍ ؛ فكَمْ وكمْ خَلَوْا بأنفسِهم فحاسبُوها، وعاتبُوها وأنّبُوها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمرَ بن الخطّابِ لمّا دخل بستانًا من البساتينِ وما عنده أحدٌ وقف مع نفسِه يناديها قائلاً لها: "عمرُ أميرُ المؤمنين! بخٍ بخٍ!!، واللهِ يا ابنَ الخطّابِ لتتقينَّ اللهَ أو ليُعذِّبَنَّكَ".
ويقولُ مالكُ بن دينار رحمه الله: "رحِمَ اللهُ عبداً قال لنفسِه : ألستِ صاحبةَ كذا، ألستِ صاحبةَ كذا ، ثمّ زَمَّها ، ثم خَطَمَها ، ثمّ ألزَمَها كتابَ اللهِ عزّ وجلّ فكانَ لها قائداً".
وهذا أبو العبّاس الموصليُّ رحمه الله يقولُ لنفسِه: "يا نفسُ لا في الدُّنيا مع أبناءِ الملوكِ تتنعّمينَ، ولا في طلبِ الآخرةِ مع العبّادِ تجتهدينَ؛ كأنّي بكِ بين الجنّةِ والنّارِ تُحبَسِينَ؛ يا نفسُ ألا تَسْتَحِينَ؟!"
وأنت أيّها الأخ الكريمُ! حاسِبْ نفسَك في ختامِ هذا العامِ، وسلْ نفسَك عَنْ فَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى هَلْ أَدَّيْتَهَا؟ وعن حدودِ اللهِ هل اتّقيتَها؟ وَعَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ هَلْ وَفَّيْتَهَا؟ مَا حَالُكَ مَعَ الصَّلاَةِ؟ هَلْ تُؤَدِّيهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا؟ هَلْ مَا زِلْتَ مُقَصِّراً فِي حُضُورِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَشهودِها؟ أَمْ مَا زِلْتَ غَافِلاً عَنْ تِلاَوَةِ كِتَابِ اللهِ جلّ وعلا؟، وَقَدْ كُنْتَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَيْهِ مُقْبِلاً؟ مَا حَالُكَ مَعَ النَّوَافِلِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، والسّننِ والمندوباتِ؟ الّتي هِيَ عَلاَمَةُ الإِيمَانِ، وَطَرِيقُ مَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ.
قِف يا رعاكَ اللهُ! مع نفسِك الّتي لطالما على العصيانِ تجرّأَتْ، وفي المحرّماتِ ارتكَسَتْ، وبالطغيانِ تبخترَتْ؛ قِفْ معها، وألجِمها بلجامِ التّقوى، وألزِمها كتابَ الله فاجْعَلْهُ لها قائداً، وقُلْ لها:
يا نفسُ تُوبِي فَإِنّ الْمَوْتَ قَدْ حَانَا…وَاعْصِ الْهَوَى فَالهَوَى مَا زَالَ فَتَّانَا
أَمَـا تَرَيْنَ الْمنَايَا كَيْـفَ تَلْقَطُـنَا…لَقْــطًا فَتُلْحِـقُ أُخْرَانـا بِأُولانَـا
فِـي كُـلِّ يـومٍ لَنـا ميْتٌ نُشَيِّعُه…نَـرَى بِمَـصْرعِـهِ آثـارَ مَوْتَانَا
وإنّ من خير ما نختمُ به عامَنا: هو التّوبةُ النّصوحُ الصّادقةُ من ذنوبِنا وتقصيرِنا؛ فإنّ التوبةَ الصّادقةَ تمحُو الخطيئاتِ، وتُقِيلُ العثراتِ، وقد دعانا إليها ربُّنا سبحانه فقال في محكم الآيات: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74]. وقال النّبيّ r -كما في صحيح مسلم-: « إِنَّ اللهَِ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ».
ألا فطُوبَى ثمّ طُوبَى لعبدٍ انتفع بعُمُرِه؛ فاستقبل عامَه الجديدَ بمحاسبةِ نفسِه على ما مضى، وتاب إلى الله عز وجل ممّا سلف وجَرى، وعقد العزمَ على ألا يشغَلَ ساعاتِ عُمُرِه إلا بطاعةٍ وتُقَى؛ مستحضراً في ذلك قولَ اللهِ جلّ وعلا: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد:20-21]، وقولَ النّبيّ عليه الصّلاةُ والسّلامُ -الّذي رواه ابن حبّان-: « خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، وهو مع ذلك يلهَجُ دائماً بالدعاءِ المأثورِ عن النّبيِّ r : « وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ < (رواه مسلم).
فاللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَارِنَا أَوَاخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَائِكَ.
اللّهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبيِّنا محمّد، وعلى آلِه، وصحبِه أجمعين.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للّه ربّ العالمين