حالنا بعد رمضان
الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وفّق من شاء من عباده للثّبات على الطّاعات، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله؛ أدوم النّاس على فعل القربات؛ صلّى الله عليه وسلّم، وعلى آله وصحبه؛ أولئك السّادات.
أمّا بعد: ففي الأيّام القليلة الماضية كنّا في شهر رمضان؛ شهر البركات والخيرات، ومضاعفة الأعمال والحسنات؛ نصوم نهاره، ونقوم ليله، ونتقرّب إلى الله سبحانه بفعل الطّاعات، وهجر المباح من الشّهوات، وترك المعاصي والسيّئات؛ ثمّ مضت تلك الأيام الغرر، وبدأنا نجد في نفوسنا شيئا من الفتور والملل، والتّكاسل عن طاعة الله عزّ وجلّ، وبعض النّاس-هداه الله- ربما عاد إلى ما كان عليه من التّقصير والزّلل.
وهذه مشكلةٌ يعاني منها كثيرٌ منّا إن لم يكن جميعنا، والحال أنّه ينبغي على من تخرّج من مدرسة رمضان أن يتخرّج بالتّقوى؛ الّتي لأجلها شرع الصّيام؛ والّتي حقيقتها ألّا يجدك الله حيث نهاك، وألّا يفقدك حيث أمرك، وهذا يقتضي ممّن حفظ جوارحه في رمضان من الذّنوب والآثام، ومن اللّغو والرّفث وفضول الكلام؛ أن يحفظ تلك الجوارح من ذلك في سائر شهور العام، كما يقتضي ممّن تعوّد في رمضان على الصّيام والقيام؛ أن يداوم عليهما في غيره من اللّيالي والأيّام؛ وذلك لأنّ ربّ الشّهور واحد، وهو على أعمالنا مطّلع وشاهد، وهذه الشّهور وتلك الأيّام؛ هي مواقيتُ للأعمال، ومقادير للآجال، وهي تمضي جميعاً، وتنقضي سريعاً، والّذي أوجدها وابتدعها، وخصّها بالفضائل وأودعها؛ باق لا يزول، ودائم لا يحول، وهو يدعونا إلى عبادته صباح مساء؛ فلنكن من عباده الطّائعين الأتقياء، لا من العصاة الأشقياء؛ فإنّ طاعة الله سبحانه وترك معصيته واجبةٌ على الدّوام؛ حتّى نلقى ربّنا بسلام؛ كما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السّلام: )وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا( [مريم:31].
وقال تعالى: )وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ( [الحجر:99]، واليقين الموت ؛ كما قال سالم بن عبد الله رضي الله عنهما -فيما علّقه البخاريُّ، ووصله عبدُ بن حميد والفريابيُّ-، وروى أحمد في (الزّهد) عن الحسن البصريّ رحمه الله قال: " أيْ قوم! المداومة، والله ما المؤمن الذي يعمل شهراً أو شهرين، أو عاماً أو عامين؛ لاَ والله! ما جعل الله لعمل المؤمن أجلاً دون الموت ".
ألا فالزم يا رعاك الله! ما هداك الله إليه في رمضان من العمل الصّالح، واحذر الرّجوع إلى المخالفات والقبائح؛ فإنّه لا ينبغي للمؤمن أن ينقطع عن صالح العمل إلا بحلول الأجل؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم -كما في الصّحيحين-: (أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)، وكان من هديه عليه الصّلاة والسّلام المداومة على العمل الصّالح في سائر الأيّام؛ ففي (صحيح مسلم) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً).
وهكذا كان النّبيّ r يحثُّ أصحابه على الثّبات على الطّاعات، والمداومة على فعل القربات؛ في جميع الأزمان وسائر الأوقات؛ ليثقل ميزانهم بالحسنات، ويزدادوا قربا من ربّ الأرض والسّموات؛ ففي الصّحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله r : (يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ).
وإذا كان هذا الحثُّ منه عليه الصّلاة والسّلام على النّوافل والمستحبّات؛ فكيف بالفرائض والواجبات؟!، وما بالنا عباد الله! نقصّر في طاعة الرّحمن بعد شهر رمضان، ونعمر الأوقات بالذنوب والمنكرات، وننسى تلك الأعمال الصّالحات؛ من صلاة وصيام، وقراءة وقيام، وذكر ودعاء، وتضرّع وبكاء؛ فضلا عن تقصيرنا في المحافظة على الصّلوات في الجماعات، وأداء سائر الفرائض وبقيّة الواجبات؛ فهل هكذا يكون شكر الله عزّ وجلّ على التّوفيق لإكمال الشّهر، وهل هكذا يكون الثّبات على الطّاعة بعد شهر الصّبر؟! وقد كان سلفنا الصّالح تَوْجَل قلوبهم ، وتحزن نفوسهم عندما ينقضي شهر رمضان؛ لأنّهم يخافون ألا يتقبّل منهم عملهم؛ كما قال تعالى: )وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ( [المؤمنون:60]؛ فقد رُوي في (سنن الترمذيّ) عن عائشة زوج النّبيّ رضي الله عنها قالت: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اله عليه وسلّم عَنْ هَذِهِ الآيَةِ )وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ( قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ؛ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
وبهذا نعلم السّرّ في مداومة السّلف على الدّعاء بعد رمضان ستّة أشهر أن يتقبّل الله منهم عملهم الصّالح في شهرهم؛ كما روى قوام السّنّة الأصبهاني في (الترغيب والتّرهيب) (2/354) عن المعلّى بن الفضل قال: " كانوا يدعون الله عز وجل ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ويدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم"؛ ولهذا يُروى عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال: " كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل؛ ألم تسمعوا الله عز وجل يقول :
)إنما يتقبل الله من المتقين(".[لطائف المعارف:232].
ألا فالثبات الثبات على طاعة الله وعبادته، مع ترك الذّنوب والسّيّئات، وسائر المحرّمات والشّبهات في جميع الشّهور وسائر الأوقات، وليعظُم وجلُنا وخوفُنا من فاطر الأرض والسّموات، ولنحذر أن نكون بعد شهر رمضان أسوأ الخلق وأدنى البريّات؛ فقد سئل أحد السّلف عن أناس يتعبّدون في رمضان، ويجتهدون فيه، فإذا انسلخ رمضان تركوا؛ فقال: "بئس القوم؛ لا يعرفون لله حقًّا إلا في رمضان!".
وتنبّه أيها العبد الصّالحّ! المجتنب للذّنوب والقبائح؛ من الفتور في الطّاعة والتّواني، بعد الاجتهاد في العبادة والتّفاني، وعليك بالقصد والاعتدال في القول والعمل؛ تصل بذلك إلى رضا الرّبّ عزّ وجلّ، واعلم أنّ لزوم الهدي والسّنّة؛ خير ما يبلّغك في هذه الأيّام إلى رضا الله سبحانه؛ فقد روى الإمام أحمد في (مسنده) والتّرمذيُّ في (سننه) عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً-أي: نشاط وقوّة- ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ -أي: تراجع وضعف-؛ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)، وفي رواية التّرمذي قال: (فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا-أي: الفترة- سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلاَ تَعُدُّوهُ) .
وإنّ من أعظم ما يثبّت الإنسان على طاعة الله تعالى بعد رمضان؛ أن يعلم بأنّ المؤمن لا تمضي عليه ساعة من السّاعات؛ إلا ولله عليه فيها وظيفة من وظائف الطّاعات، وقد شرع له في سائر الأيام من الطّاعات ما يجعله موصولاً بربّه قريباً منه في جميع الأوقات؛ فما عليك يا رعاك الله! إلا أن تأخذ نفسك بما كانت عليه في رمضان؛ من عمارة المساجد بالمحافظة على الصلوات، وشهود الجمع والجماعات؛ حتّى تفوز بما وعدك الله به في محكم الآيات: )وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( [المؤمنون:9-11].
ولا تنقطع عمّا كنت عليه من بذل المعروف والصّدقات، وذكر الله تعالى في سائر اللّحظات؛ فإنّ الله تعالى قد وعد المتصدّقين والمتصدّقات، والذّاكرين الله كثيراً والذّاكرات؛ مغفرة منه، وأجراً عظيماً.
وداوم على قراءة القرآن مع تدبّره والعمل به ؛ فقد علمت أنّه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة، وقائدا لهم إلى دار الكرامة، وليكن لك في كلّ شهر -على الأقلّ- ختمة؛ كما قال صلّى الله عليه وسلّم -فيما رواه البخاريّ- لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ).
والزم قيام اللّيل ؛ فإنّه دأب الصّالحين ، وفيه مرضاة لربّ العالمين، وفي ثوابه يقول أحكم الحاكمين: )فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [السجدة:17].
وأتبع صيام رمضان بصيام ستّة أيّام من شوّال؛ يكن ذلك كصيام السنّة كلّها بلا إشكال؛ فقد روى مسلم في (صحيحه) عن أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)، وروى الإمام أحمد في(مسنده)، والنّسائيُّ في (سننه الكبرى)-واللفظ له- عن ثوبان رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ؛ فَذَلِكَ صِيَامِ السَّنَةِ).
واعلم بأنّ صيام هذه الأيّام؛ من جملة الشّكر لله على التّوفيق لإكمال شهر الصّيام؛ ولهذا كان بعض السّلف إذا وُفّق لقيام ليلة من اللّيالي؛ أصبح في نهارها صائماً شكراً للباري. وهو علامة من علامات قبول صوم رمضان؛ لأنّ الله تعالى إذا تقبّل عمل عبده؛ وفّقه لعملٍ صالح بعده؛ ولهذا قال بعض السّلف: "إنّ من ثوابِ الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإنّ من ثوابِ السيّئةِ السيّئةَ بعدها"؛ فما أحسن الحسنةَ بعد الحسنةِ تتلوها، وما أقبح السيّئةَ بعد الحسنة تمحقها وتعفوها. كما أنّ صيام هذه الأيّام بالنّسبة لرمضان؛ كالسّنن الرّواتب بالنسبة للصّلوات؛ يستكمل بها ما وقع فيها من نقصان، وأكثر النّاس لا يخلو صومه من نقص
أو خلل؛ فيحتاج إلى ما يجبره من صالح العمل.
وهكذا؛ فإنّ عمل المؤمن متّصلٌ بعد رمضان؛ لأنّه مأمورٌ بطاعة ربّه في كلِّ آن؛ بما شرع له الرّحمن من خصال البرّ والإحسان، وبما نهاه عنه وحذّره منه من موجبات الخزي والحرمان؛ من الفسق والفجور والعصيان؛ الموجبات لدخول النيران، والحرمان من سكنى الجنان.
فاتّق الله يا عبد الله! ، وداوم على صالح العمل حتّى يحضرك الأجل ؛ وليكن لسان حالك كما قال ذاك الرّجل الصّالح من سلفك: "صم الدّنيا، واجعل فطرك الموت".
وذلك لأنّ الدّنيا شهر صيام المتّقين؛ يصومون فيها عن الشّهوات والمحرّمات، ويكفّون جوارحهم عن المعاصي والسّيّئات؛ فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم، واستهلوا عيد فطرهم.
قال الحافظُ ابن رجب الحنبليّ رحمه الله في (لطائف المعارف ) (1 / 158): "من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، و شاهد ذلك قوله تعالى : )أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا( [الأحقاف:20] الآية، وقول النبي r: (مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ، وَمَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ) [رواه النسائي في الكبرى وغيره؛ بتقديم وتأخير، ، وجملة الخمر في الصّحيحين]".
فاللّهمّ تقبّل منّا صيام رمضان، وثبّت قلوبنا على طاعتك في سائر شهور العام، واختم لنا بالباقيات الصّالحات؛ يا ذا الجلال والإكرام...آمين.
وصلّى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.