استمتعوا من هذا البيت*
أشار القرآن الكريم إلى مكانة البيت الحرام في أكثر من موضع، منها قوله تعالى: )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً( .
فهو أول بيت أسس على توحيد اللّه وعبادته وحده لا شريك له، وهو أول بيت وضع للناس للعبادة وإقامة ذكر اللّه منذ أمر اللّه إبراهيم أن يرفع قواعده وأن يخصصه للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وبكة من أسماء مكة ؛ قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة. فكم من جبار قصد البيت بسوء فأهلكه اللّه. وقيل: لأن الناس يتباكون فيها؛ أي يزدحمون.
عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: قلت: يا رسول اللّه أي مسجد وضع أول: قال: «المسجد الحرام»، قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كـم بينهما؟، قال: «أربعون سنة»، قلت: ثم أي؟ قال: «ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد» .
هذا البيت جعله اللّه مباركاً وجعله هدىً للعالمين، وجعله مثابةً للناس أي محلاًّ تشتاق إليه النفوس وتحن. ولا ينصرف عنه منصرف وهو يحس أنه قد قضى منه وطره ولو تردد عليه كل عام، ولعل ذلك استجابة من اللّه تعالى لدعاء خليله إبراهيم في قوله: )فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ( .
كما جعل اللّه هذا البيت أمناً، فهو مثابة الأمن لكل خائف، وليس هذا لمكان آخر في الأرض. كان الرجل يلقى فيه قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له بسوء. ولذلك قال سبحانه يَمُنُّ على العرب به: )أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ(. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها».
ولقـد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب هذا البيت، ولقـد قال وهـو يودع مكة في طريقه إلى المدينة وقت الهجرة: «واللّه إنك لخير أرض اللّه وأحب البلاد إلى اللّه ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت».
هذا البيت جعل اللّه الحج إليه فريضة على المسلم المستطيع مرة واحدة في العمر فقال سبحانه: )وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً( . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس قد فرض اللّه عليكم الحج فحجوا». فقال رجل: أكل عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم».
ولقد جاءت النصوص بالتعجيل بهذه الفريضة؛ فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له.
والحج عبادة جامعة لشتى العبادات؛ ففيه من الصلاة الدعاء والتوجه إلى اللّه، وفيه من الزكاة الإنفاق وبذل المـال، وفيه من الصوم التحمل والجهاد والصبر. وهو فوق ذلك عبادة العمر بحيث إذا أدِّيت كما رسم الشرع خرج صاحبها منها كيوم ولدته أمه.
وقد روى الطبراني والحاكم عن ابن عمر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى اغتنام فضل الكعبة المشرفة التي جعلها اللّه بركة وهدى ورحمة؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه هُدِمَ مرَّتين، ويرفع في الثالثة».
وقد هدمت الكعبة قبل البعثة ثم بنيت، ثم هدمها السيل وبنتها قريش والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وسنُّه خمس وثلاثون سنة في قصـة الرِّداء المشهورة، ولعل الإشارة في الحديث لهاتين المرتين لأهميتهما وما عداهما كان ترميماً للبيت واستكمالا لأسباب متانته، أو أن العدد في الحديث يفيد التكرار لا الحصر، ويوشك أن يهمل الناس أمر الحج فيرفع اللّه بيته ويستأثر به وينزع البركة السابغة من أهل الأرض الذين أغفلوا نداء ربهم وأهملوا فريضة حجهم، ومن ذلك نعلم تأكد فريضة الحج وعظم ثواب من وفّاها، وشدة العقوبة لمن تركها وتكاسل عنها دون عذر مشروع )وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ( .