الخروج من الخلاف مستحب
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين , وأشهد أن محمد عبد الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه الغر الميامين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
(الخروج من الخلاف مستحب ) : قاعدةٌ عظيمة الشأن , جليلة القدر, عالية المنزلة بين قواعد هذه الشريعة الغراء, نصَّ عليها كثير من فقهاءنا رحمهم الله في كتب القواعد, حتى قال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله : « ومن القواعد ما اشتهر في كلام كثيرٍ من الأئمة ويكاد يحسبه الفقيه مجمعًا عليه: أنَّ الخروج من الخلاف أولى وأفضل »(1) أهـ.
ذلك لأن مبناها على الورع والاحتياط في الدين واجتناب الشبهات وطلب براءة الذمة والخروج من العهدة , مما يترتب عليه سلامة المرء في دينه وعرضه , وذلكم أصل عظيم في شرعنا , ودرب منيف في ديننا, يصل بممتطيه إلى درك السعادة والأمان, والراحة والاطمئنان . يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : « والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدةٍ ، فإذا كان هذا معلوماً على الجملة والتفصيل, فليس العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل من أصولها»(2) أهـ.
ويقول الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله : « الْقَوْلُ بِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلافِ أَفْضَلُ ، ثَابِتٌ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومُ ، وَاعْتِمَادُهُ مِنْ الْوَرَعِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا» (3) أهـ .
والخروج من الخلاف معناه : الأخذ بالأحوط في الأحكام الشرعية , ويكون ذلك بفعل ما اختلف العلماء في وجوبه ، وترك ما اختلفوا في تحريمه ؛ وذلك اتقاء الشبهة.
فلا شك أن صلاةً اتفق الأئمة على صحتها أولى من صلاةٍ قال الجمهور ببطلانها ؛ فتجديد صاحب سلس البول للوضوء عند كل صلاةٍ مستحب عند المالكية , بينما هو واجب عند غيرهم إلا في حال الجمع , فالأولى : الخروج من الخلاف بالأخذ بالأحوط في هذا , وهو تجديد الوضوء(4).
وقد قسَّم بعض العلماء كالعز بن عبد السلام والقرافي وغيرهما الخروج من الخلاف إلى أقسام:
القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والإباحة ، فالخروج من الخلاف بالاجتناب أفضل.
القسم الثاني : أن يكون الخلاف في الإباحة والوجوب , فالخروج من الخلاف بالفعل مع اعتقاد الوجوب حتى يجزئ عن الواجب أفضل .
القسم الثالث : أن يكون الخلاف في الاستحباب والحرمة : فالخروج من الخلاف بالترك أفضل .
القسم الرابع : أن يكون الخلاف في الكراهة والوجوب : فالخروج من الخلاف بالفعل أفضل ؛ حذراً من العقاب في ترك الواجب , وفعل المكروه لا يضره .
القسم الخامس: أن يكون الخلاف في مشروعية الفعل وعدمها: فالخروج من الخلاف بالفعل أفضل؛ لأن القائل بالمشروعية مثبت لأمر لم يطلع عليه النافي , والمثبت مقدَّم على النافي كما هو معلوم, وذلك كاختلاف العلماء فِي مشروعِيَّة الفاتحة في صلاة الجنازة، فمالك رحمه الله يقول: ليست بمشروعةٍ، والشافعيّ رحمه الله يقول: هي مشروعة وواجبة ، فالورع : الفعل ؛ لتَيَقُّن الْخُلُوصِ من إثم ترك الواجب على مذهبه ، وكالبَسْملة قال مالك : هي في الصَّلاة مكروهة، وقال الشَّافعي : هي واجبة ، فالورع : الفعل ؛ للخروج عن عُهْدة ترك الواجب على مذهبه(5) وهكذا...
وهذا الأصل العظيم (الخروج من الخلاف ورعاً واحتياطاً) نبه عليه النبي r لما قال: (الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) (6) .
بل وأعمله r في كثير من المواطن , كما في قصة ولد زمعة التي رواها البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : (اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلامٍ فَقَالَ سَعْدٌ : هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ , وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ : هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ – يعني أَمَتَه - فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ , الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ - يعني الرجم - وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ ) .
فمع أنه r حكم لعبد بن زمعة بالولد , وأنَّه أخوه من أبيه ؛ لأنه وُلد على فراشه , ومن ثمَّ تصبح سودةٌ رضي الله عنها أختاً له , لكن لمَّا كان هذا الولد مُتَنَازع عليه ووجد النبي r فيه شَبَهاً بعُتْبة , فاحتمل أن يكون ابنه , ومن ثم َّ تكون سودة رضي الله عنها أجنبيةً عنه , حينئذٍ أمرها r بالاحتجاب منه ؛ احتياطاً وخروجاً من الخلاف(7) .
يقول الإمام ابن العربي رحمه الله : « الْقَضَاءُ بِالرَّاجِحِ لا يَقْطَعُ حُكْمَ الْمَرْجُوحِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ يَجِبُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ) »(
أهـ.
وكما في حديث عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه : أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ : مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلا أَخْبَرْتِنِي فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : (كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ) ، فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ (9) .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله : « قَوْله (كَيْف وَقَدْ قِيلَ؟) فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ أَمْرَهُ بِفِرَاقِ اِمْرَأَتِهِ إِنَّمَا كَانَ لأَجْلِ قَوْل الْمَرْأَة إِنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون صَحِيحًا فَيَرْتَكِب الْحَرَام، فَأَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا اِحْتِيَاطًا عَلَى قَوْل الأَكْثَر» (10) أهـ.
وفي هذا تأصيل لهذه القاعدة الجليلة , وتطبيق لها وإعمال , وتنبيه على أن الخروج من الخلاف درب من دروب الورع والاحتياط وطلب البراءة والسلامة في الدين .
وقد أعمل فقهاؤنا رحمهم الله هذه القاعدة وطبَّقوها في كثير من المسائل المختلف فيها, ومن ذلك:
- استحباب الوضوء عند الحنفية من مس الذكر – مع قولهم بعدم النقض بالمس-؛ خروجاً من خلاف من أوجبه(11) .
- تجديد الماء لمسح الأذنين سنَّة من سنن الوضوء عند الشافعية , أما عند الحنفية فإنه إذا لم يجدد الماء لمسح الأذنين , وإنما مسح بما بقي بعد مسح الرأس , فإنه يكون مقيماً للسنة آتياً بها, ومع ذلك قال الحنفية بأولوية تجديد الماء لمسح الأذنين؛ خروجاً من خلاف الشافعية في ذلك(12) .
- استحباب غسل البدن أو الثوب إذا أصابه بول أو رَوْث من حيوان مباح الأكل عند المالكية – مع قولهم بطهارته - ؛ خروجاً من خلاف من قال بنجاسته وهم الشافعية(13) .
- كراهة استعمال الماء الذي ولغ فيه الكلب عند المالكية – مع قولهم بطهارته -؛ خروجاً من خلاف من قال بنجاسته كالشافعية (14) .
- استحباب غسل المنيِّ عند الشافعية مع قولهم بطهارته ؛ خروجاً من خلاف من قال بنجاسته(15) .
- استحباب الدَّلك في الطَّهارة ، واستيعاب الرَّأس بالمسح عند الشافعية ؛ خروجاً من خلاف من أوجب ذلك(16) .
- كراهة صلاة الْمنفرد خَلف الصَّفِّ عند الشافعية ؛ خروجاً مِنْ خلاف مَنْ أبطله(17).
- كراهة قول المصلي : (سبحان الله) إذا رأى ما يعجبه في الصلاة عند الحنابلة – مع قولهم بصحة الصلاة – خروجاً من خلاف من أبطل الصلاة بذلك(18) .
- لا يشترط عند الحنابلة مباشرة أعضاء السجود للأرض , فلو سجد على ثوب أو كَوْر عمامةٍ ونحو ذلك فلا بأس , غير أنهم قالوا بكراهة ذلك لغير عذر ؛ خروجاً من خلاف من قال بوجوب المباشرة(19). وأمثلة ذلك كثير في كتب الفروع الفقهية .
غير أنَّ الخروج من الخلاف ليس على إطلاقه، بل له ضوابط وشروط ذكرها أهل العلم؛ وذلك حتى لا يترتب على إعماله التضييق على الناس، أو سلب خاصية التيسير ورفع الحرج في كثير من الأحكام ، والذي يُعْتبر كذلك أصلاً من أصول هذه الشريعة الغراء , وهذه الشروط هي :
الأول : أَن لا يُوقع مراعاة الخلاف في خلاف آخر ، ومِنْ ثَمَّ كان فَصْلُ الوِتْر – بأن يأتي بالشفع منفصلاً عن ركعة الوتر بتسليم - أفضل من وصله - وذلك بأن يصل الشفع بركعة الوتر دون تسليم بينهما -، ولم يُرَاع خلاف الحنفية في ذلك حيث قالوا بالوصل؛ لأنَّ من العلماء مَنْ لا يُجِيز الوصل .
الثَّانِي : أَنْ لا يُخالف سُنَّةً ثابتةً ؛ وَمِنْ ثَمَّ سُنَّ رَفْعُ اليدين في الصلاة ، ولم يُراعَ قول مَنْ قال بِإبطاله الصلاة من الحنفية ؛ لأنه ثابت عن النبي r من رواية نحو خمسين صحابيا .
الثَّالِثُ : أن يكون مأخذ المخالف قوياً , فإن كان واهياً لم يُرَاعَ , وَمِنْ ثَمَّ كان الصوم في السفر أفضل لمن قَوِيَ عليه ؛ ولم يُبَال بقول داود الظاهري رحمه الله : إنَّه لا يَصحُّ .
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله : « والضابط في هذا أنَّ مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب فلا نظر إليه ولا التفات عليه » (20)أهـ .
الرابع : أن لا تؤدي مراعاته إلى خرق الإجماع ؛ كما نُقل عن ابن سريج من الشافعية : أنه كان يغسل أذنيه مع الوجه , ويمسحهما مع الرأس , ويفردهما بالغسل ؛ مراعاةً لمن قال : إنهما من الوجه , أو من الرأس , أو عضوان مستقلان , فوقع في خلاف الإجماع ؛ إذ لم يقل أحد بالجمع(21) .
فإذا لم يكن شيء من ذلك فيستحب الخروج من الخلاف, لا سيما إذا كان فيه زيادة تعبد لله عز وجل. يقول العز بن عبد السلام رحمه الله : « وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يَبْعُد قول المخالف كلَّ البُعْد , فهذا مما يُستحب الخروج من الخلاف فيه ؛ حذراً من كون الصواب مع الخصم, والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات »(22)أهـ .
وختاماً نقول : إن الخروج من الخلاف مع مراعاة شروطه وضوابطه , باب عظيم , ودرب جليل, ومسلك مطيب , فهو طريق السالكين , ومطيَّة الصالحين , وديدن المتقين , يُرْجى لمن امتطاه السلامة, ولمن ولجه دار السعادة ؛ فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم .
نسأل الله الكريم بفضله ومنِّه أن يلحقنا بالصالحين , وأن يحشرنا مع المتقين , وأن يجمعنا مع النبيين , إنه سبحانه ولي ذلك ومولاه, وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) الأشباه والنظائر لابن السبكي بتصرف (1/127) .
([2]) الموافقات (6/119) .
([3]) الأشباه والنظائر لابن السبكي بتصرف (1/128) .
([4]) أسباب اختلاف الفقهاء (1/32) .
([5]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/266) ؛ الفروق للقرافي (4/368 , 369) ؛ المنثور في القواعد للزركشي (2/128) .
([6]) رواه البخاري ومسلم .
([7]) ينظر : فتح الباري (4/293) ؛ مراعاة الخلاف عند المالكية (109) .
([8]) فتاوى ابن عليش المالكي (1/201) .
([9]) رواه البخاري .
([10]) فتح الباري (4/392) .
([11]) حاشية ابن عابدين (1/158 , 159) .
([12]) مغني المحتاج (1/60) ؛ حاشية ابن عابدين (1/131) .
([13]) مواهب الجليل (1/132 , 133) ؛ الحاوي (2/249) .
([14]) مواهب الجليل (1/103) ؛ مراعاة الخلاف عند المالكية (302) ؛ الحاوي (1/304) .
([15]) الأشباه والنظائر للسيوطي (136)
([16]) المصدر السابق .
([17]) الأشباه والنظائر للسيوطي (137) .
([18]) شرح منتهى الإيرادات (1/210) ؛ مغني المحتاج (1/196).
([19]) شرح منتهى الإيرادات (1/197, 198) .
([20]) قواعد الأحكام (1/267)
([21]) تنظر هذه الشروط في: الأشباه والنظائر للسيوطي (137) ؛ المنثور في القواعد للزركشي (2/130, 131) , الأشباه والنظائر للسبكي (1/128) وما بعدها ؛ قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/266, 267) .
([22]) قواعد الأحكام (1/267).