لا إنكار في مسائل الاجتهاد
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولي الصالحين ، والصلاة والسلام على إمام الأولين والآخرين ، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الاختلاف بين البشر أمراً حتميًّا وظاهرة طبيعية ، ولذا نجد أنه قد وقع في هذه الأمة إزاء جملة من القضايا والمسائل العلمية ، نتيجة عوامل عدة تتعلق باختلاف مدارك المجتهدين وأفهامهم ، أو اختلاف الأدلة .
ولما كان جمهور العلماء يرون أن الحق واحد لا يتعدد، وهو الذي يوافق قصد الشارع، فعلى المجتهد أن يبذل الوسع في بلوغه، ويرجح ما يغلب على ظنه أنه الأقرب إلى الحق ، وإلا أدى تقصيره في الاجتهاد إلى مجانبة الحق والوقوع في الخطأ الذي يوجب على غيره رده وإنكاره .
ومما لا شك فيه أن الإنكار على المخطئ أمر مشروع في ديننا، بقصد بيان الحق وإقامة العدل وميزان الشرع ، لا سيما وأن هذا الإنكار يَنصَبُّ على ما يَعُدُّه الشَّرع منكراً ، وهو ذلك المحظور الذي دلت النصوص الشرعية الصريحة على منعه والنهي عنه ، ويترتب على مرتكبه الإثم .
لكن من الناس من أخذ هذه القاعدة العظيمة (إنكار المنكر) ليعملها ضد كل من يخالفه الرأي ولو كان ذلك الرأي مبناه الاجتهاد ، مع أن هذه الآراء الاجتهادية لا تعدُّ باتفاق العلماء منكرات أو معاصٍ أو آثام ، ولتوضيح ذلك نقول :
إن المسائل الشرعية تنقسم إلى قسمين :
الأول : مسائل ورد في بيان حكمها نص صريح من القرآن أو السنة ولا معارض له ، أو نقل فيها الإجماع أو القياس الجلي؛ كالقول بجريان الربا في الفضل، أو تحريم نكاح التحليل ، وتحريم بيع العينة؛ فهذا النوع من المسائل يجب فيه اتباع النص وعدم مخالفته ، ويجب بيان خطأ المخالف فيه ، مع ملاحظة إعذار المخطئ في اجتهاده .
يقول الإمام النووي رحمه الله : «ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جليًّا» [شرح مسلم 2/24] .
وقال ابن تيمية رحمه الله : «فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول : المصيب واحد ، وهم عامة السلف والفقهاء» [الآداب الشرعية 1/169] .
فما يباح إنكاره من المسائل هو المخالف للأدلة الشرعية الصريحة المعتبرة المتفق عليها ، فتكون تلك المخالفة غير معتبرة لضعف مدركها ومعارضتها لصريح النصوص .
يقول الإمام الماوردي رحمه الله : «وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته ، فلا مدخل له في إنكاره، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد فالخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه» [الأحكام السلطانية 2/10] .
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف دليلاً صريحاً ولو كان مجتهداً .
فعن عبد الله بن مسعود أن سُبيعة الأَسلَميَّة وضعت بعد وفاة زوجها بليالٍ ، فمرَّ بها أبو السَّنابل بن بَعْكَك فقال : قد تَصَنَّعتِ للأزواج، إنها أربعة أشهر وعشراً ، فذكرت ذلك سبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (كَذَبَ أَبُو السَّنابِلِ - أو لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو السَّنَابِلِ - قَدْ حَلَلْتِ فَتَزَوَّجِي) [رواه الشافعي في الرسالة ، والبغوي في شرح السنة ، والبيهقي في الكبرى ، بإسناد صحيح].
إلا أنه يجدر التنبيه إلى أن القول بالإنكار في هذا القسم لا يعني بالضرورة التغليظ وعدم الإعذار، بل ينبغي حمل هذه المخالفة على أحسن المحامل، وإعذار المخالف - إن كان من أهل الاجتهاد - من جهة أنه اجتهد فأخطأ، وهو مأجور بلسان الشرع، ما لم يتبين في مخالفته قصد اتباع الهوى وكتم الحق.
يقول ابن تيمية رحمه الله : «ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ، ومن يغلط في الرأي والفتيا ، ومن يغلط في الزهد والعبادة ، وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه ، وهو مأجور على اجتهاده ... ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من إيمان وتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ودعاء وغير ذلك» [مجموع الفتاوى 28/233].
أما القسم الثاني من المسائل الشرعية : فهي المسائل التي لم يرد ببيان حكمها دليل صريح من قرآن أو سنة أو إجماع أو قياس جليٍّ ، أو ورد بحكمها دليل مختلف في ثبوته أو دلالته على الحكم ، أو وردت فيها نصوص ظاهرها التعارض ؛ فهذه المسائل تحتاج إلى نوع اجتهاد ونظر وتأمل لمعرفة الحكم الشرعي الذي تدل عليه ، فهي مظنة اجتهاد العالم ، ولذا أطلق عليها مصطلح (مسائل الاجتهاد) .
وهذا النوع من المسائل لم يخالف فيه المجتهد نصًّا ، وإنما خالف اجتهادُه اجتهادَ غيره، فهذا القسم هو الذي لا ينبغي إنكاره ، ولا يجوز لمجتهد أن يحمل غيره على اجتهاده ، وهو الذي اتفقت كلمة العلماء على تقريره ؛ يقول ابن تيمية رحمه الله : «أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع ، وللاجتهاد فيه مساغ ، لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلِّداً» [
].
بيان الدليل على بطلان التحليل 210-211
ونقل ابن عبد البر عن إسماعيل القاضي قوله : «إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن تكون توسعة لأن يقول إنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فلا، ولكن اختلافهم على أنهم اجتهدوا فاختلفوا» [جامع بيان العلم 2/82] .
ويقرر ذلك الإمام ابن قدامة رحمه الله فيقول : «لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العلم بمذهبه ، فإنه لا إنكار على المجتهدات» [الآداب الشرعية 1/186].
إلا أن عدم الإنكار في مسائل الاجتهاد التي اختلفت فيها الآراء لا يعني عدم التباحث فيما اختلف فيه بقصد بيان الراجح بدليله ، بل إن من مقتضيات القيام بالحق أن يقع التباحث والتناظر بين أهل الاجتهاد من أجل بيان الراجح بدليله ، ولا زال العلماء قديماً وحديثاً يتباحثون في المسائل ويتناظرون من أجل الوصول إلى الحق واتباعه .
يقول ابن تيمية : «إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد ، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية ، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلَّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه» [مجموع الفتاوى 30/80] .
لقد ظل الاختلاف بين أهل العلم سائغاً مقبولاً ، تعاملت معه أمة الاجتهاد بأرقى ما يكون من التسامح والاحترام ، حتى كانت القرون المتأخرة التي ظهر فيها أنصاف المتعلمين فكانوا على قسمين متناقضين :
قسم دعا إلى سد باب الاجتهاد ، بحجة منع الاختلاف وتوحيد الأمة على كلمة سواء، فحجروا على العقول وكمموا الأفواه ، واستطالت ألسنتهم في حق مخالفيهم ، فانتشر بقولهم الشر وقامت الفتن .
ونقيضهم أولئك الذين فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه ، فأجازوا لكل أحد أن ينظر في الأدلة ويجتهد في الاستنباط من غير رجوع إلى أقوال العلماء المعتبرين ، أو النظر في مذاهبهم ، بحجة أنهم رجال كأولئك الرجال، فأجازوا لأنفسهم الخروج بأقوال جديدة لم يتنبه إليها أفذاذ العلم السابقين ، ناهيك عن الغمز واللمز في اجتهادات المتقدمين .
وفي هؤلاء وأولئك يقول علي بن قاسم حنش (ت1219هـ)
– فيما نقله عنه الشوكاني -: « الناس على طبقات ثلاث ، فالطبقة العالية: العلماء الأكابر ، وهم يعرفون الحق والباطل وإن اختلفوا لم ينشأ عن اختلافهم الفتن لعلمهم بما عند بعضهم بعضاً .
والطبقة السافلة : عامة على الفطرة ، لا ينفرون عن الحق وهم أتباع من يقتدون به ، إن كان محقًّا كانوا مثله ، وإن كان مبطلاً كانوا كذلك .
والطبقة المتوسطة هي منشأ الشر وأصل الفتن الناشئة في الدين ، وهم الذين لم يُمْعِنوا في العلم حتى يرتقوا إلى رتبة الطبقة الأولى ، ولا تركوه حتى يكون من أهل الطبقة السافلة ، فإنهم إذا رأوا أحداً من أهل الطبقة العليا يقول ما لا يعرفونه مما يخالف عقائدهم التي أوقعهم فيه القصور ، فوقوا إليه سهام التقريع ، ونسبوه إلى كل قول شنيع ، وغيَّروا فطر أهل الطبقة السفلى عن قبول الحق بتمويهات باطلة ، فعند ذلك تقوم الفتن الدينية على ساق» [البدر الطالع 1/451].
اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنك رؤوف رحيم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وعن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد –
الخدري - : أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ) [رواه مسلم].