الخطبة الأولى
قضية من أهم القضايا العقدية، وأصل عظيم من أهم أصول العقيدة الإسلامية المميزة لأتباعها، ألا وهي قضية الولاء والبراء، أخبر عن عظمتها وعلاقتها بالإيمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله).
معنى الولاء المحبة والمناصرة، والبراء هو البغض والعداء، فالولاء والبراء في الإسلام معناه ومفهومه: أن توالي من أجل الله تعالى وتعادي من أجله، تحب في الله وتبغض فيه؛ فالحب في الله والبغض في الله، يجب على المسلم مراعاتُه؛ وبناءُ علاقاته مع الناس من منطلقه، حتى يجد حلاوة الإيمان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه..
وقد جاءت الآيات والأحاديث الكثيرة في التحذير من موالاة الكفار؛ والتأكيد على عداوتهم لنا مما أظهروا زيفًا لنا، وبيّنت الآيات الكثيرة أن موالاة الكفار من علامات النفاق، حتى نحذر منهم ومن مكرهم.
ولعلنا نقف مع بعض الآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم في التحذير من موالاة الكفار. قال الله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28]؛ قال أهل التفسير:  (نهى الله عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابةٍ بينهم، أو صداقة قبل الإسلام، أو غير ذلك من الأسباب التي يُتصادق بها ويُتعايش).
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 511]؛ قال حذيفة رضي الله عنه : (ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهـو لا يشـعر، فإن الله يقـول: ﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾.
إخوة الإسلام، إن عقيدتنا تحرم علينا موالاة الكافرين والمشركين واليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا؛ ولو كانوا عَرَباً؛ ولو كانوا من أقرب الناس إلينا نسباً، وتوجب العقيدةُ علينا البراءة منهم والبعد عنهم، قال الله تعالى:﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: 22]. وفي هذه الآية نفى الله -سبحانه وتعالى- الإيمان عمّن هذا  شأنه، ولو كانت مودته ومحبته لأبيه وأخيه وابنه ونحوهم من أقربائه؛ فضلاً عن غيرهم، مما يدل على عِظَم الأمر وخطورته.
ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة: أن من لم يكفر الكافرين أو يشك في كفرهم؛ فقد كفر. ومن أصولهم أن موالاة الكفار لها صور متعددة منها ما يكون ردة وكفرا ومنها صور كثيرة صاحبها على خطر إلا أنه لا يكفر. ولذلك تفصيل في كتب أهل العلم.
لقد أهمل كثير من المسلمين هذا الأصل العظيم (الولاء والبراء)، لا سيما مع ازدياد الاختلاف بهؤلاء الكفار باختلافهم، ولا سيما مع ازدياد الفتن، فقد جهل كثير من المسلمين مفهوم البراء من المشركين؛ واتخذوا الكفار أولياء يحبونهم، بل والبعض يحبهم أعظمَ من محبته لإخوانه المسلمين.
ألا وإنّ مِن أخطر صور الولاء للكفار من يُعينهم ويُناصرهم على المسلمين بأيّ وسيلة كانت، فإن هذا من التولي للكفار ومن أسباب الردة، فهو من نواقض الإسلام - عياذاً بالله.
ومن صور الولاء للكفار الاستعانةُ بهم مع الثقة بهم وتوليتهم المناصب، واتخاذهم بطانةً ومستشارين، وتوليتهم الأعمال التي فيها أسرار للمسلمين. قال الله - سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].
ومن صور موالاة الكفار مشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم الدينية وتهنئتهم بها.
ومن صور موالاة الكفار التشبه بهم فيما هو من خصائصهم في اللباس والهيئات وغيرها، والبعض يتشبه بهم فيما هو من خصائصهم من لباس وهيئات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داود، وهو حسن لغيره.
ومن صور موالاة الكفار مدح الكفار والذب عنهم مع إغفال كفرهم بالله وأعمالهم القبيحة، وبغض الله لهم.
عباد الله، يظن البعض جهلا أن هناك تنازلات قد نصل بها إلى أن يرضى عنا اليهود والنصارى، والله يقول: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...
الخطبة الثانية
أما بعد: دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قاضيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فسأله عن كاتبه فقال: (لي كاتب نصراني) (يبدو أنه اتخذه لتميزه في الكتابة )، فعنف عمر رضي الله عنه تعنيفا شديدا، ثم قال له أما سمعت قول الله -عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]. ألا اتخذت كاتباً حنيفاً؟ قال: (يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه )، فقال عمر: (ألا لا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تُعزّوهم وقد أذلهم الله، ولا تدنوهم وقد أقصاهم الله) ذكره ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم.
روى مسلم في صحيحه والإمام أحمد واللفظ له عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الجمرة (حرة الوبَرة) فقال: (إني أردت أن أتبعَك وأصيبَ معك) (يعني من الغنائم) قال: (تؤمن بالله عز وجل ورسوله؟)قال: لا! قال: (ارجع فلن نستعين بمشرك) قال: ثم لحقه عند الشجرة ففرح بذاك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له قوةٌ وجَلَد، فقال: (جئت لأتبعَك وأصيب معك )، قال: (تؤمن بالله ورسوله؟)قال: لا! قال: (ارجع فلن أستعين بمشرك )،قال: ثم لحقه حين ظهر على البيداء فقال له مثل ذلك، قال: (تؤمن بالله ورسوله؟) قال: نعم! قال: فخرج به.
وقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بأفراد من الكفار في خيبر وحنين، لعل ذلك لتأليف قلوبهم بما يصيبون من غنائم، ولذلك ذكر أهل العلم شروطا للاستعانة بالكفار في القتال، من أهمها وجود الحاجة لذلك، وأن يكون أمر المسلمين بيدهم لا بيد الكفار.
إخوة الإسلام، ذكر أهل العلم استنباطا من الأدلة في القرآن والسنة؛ أن الناس في الولاء والبراء على أقسام ثلاثة: القسم الأول: من تجب محبته لله؛ محبة خالصة لا معاداة فيها، وهم المؤمنون من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
والقسم الثاني: من يُبغض ويعادى في الله، بغضا خالصا لا محبة معها، وهم الكفار على اختلافهم. ويلحق بهؤلاء المنافقون الذين ظهر نفاقهم وكفرهم بمحاربتهم للدين. كما يُلحق بهم أهل البدع المكفرة ممن ينتسبون إلى الإسلام.
والقسم الثالث: من يحب من وجه ويبغض من وجه، فتجتمع فيه المحبة والعداوة، فلهم حقوق أهل الإسلام من المحبة والمناصرة وغيرها من الحقوق، مع بغضٍ لهم على قدر معاصيهم التي أظهروها، وهؤلاء هم من ظهرت معاصيهم من المؤمنين، يحبون على قدر ما فيهم من الإيمان والتوحيد، ويُبغضون لما فيهم من المعاصي. ويُلحق بهم أهل البدع غير المكفرة.
وختاما، ننبه إلى أن البراء من الكفار لا يكون بالاعتداء عليهم، أو ظلمهم، أو عدم إعطائهم حقوقهم، بل ديننا دين العدل والأخلاق.
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا من حبك. اللهم اجعلنا أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين. اللهم ارزقنا محبة المؤمنين، وبغض الكافرين.
اللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
الله أعز الإسلام والمسلمين...