أين نحن من حقوق الجار والبيئة الجوارية؟
د. رشيد بن إبراهيم بوعافية
الاستفتاح بما تيسّر، ثم أما بعد:
معشر المؤمنين: إنَّ من أكبر المعانِي السامية النبيلَةِ التي طمسَت المدنيّةُ معالمَهَا في أكثر بلادِ الله تعالى "حقوقَ الجِوارِ والبيئَةِ الجِواريّة"، ومعرفةَ ما لكلٍّ منهما من واجِبٍ أصيلٍ في عُنُقِ المُجاوِر.
الإسلامُ العظيمُ - معشر المؤمنين - ارتقَى بهذا الموضُوعِ إلى الحدّ الذي لا مزيدَ عليهِ في التميُّز، فهو قرينُ الإيمانِ باللهِ ربّ العالمين و برهانٌ على صِدقِ صاحبه فيه: ففي البخاري قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن"،قيل من يا رسول الله؟،قال:"من لم يأمن جارُهُ بوائقه" [رواه البخاري]، أي شُرورَهُ وأذاه ومخازِيه.
بل أوجَبَ على المتجاوِرِينَ القيامَ بحقوق الجوارِ والبيئة الجواريّة ولو معَ الاختلافِ في الدّين، فكيفَ إذا كانَ الحيُّ كامِلاً مسلِمًا للهِ ربّ العالمين؟!:
عن مجاهد- رحمه الله - أن الصحابيَّ عبدَ الله بنَ عمرٍو -رضي الله عنهما- ذُبحت له شاةٌ في أهله،فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه" [صحيح: سنن الترمذي (1943). ]
أيها الإخوة في الله:
إن القيام بحقوق الجوار فريضة شرعية قرآنية نبوية، من قصّر فيها فإنّما قصّر في الإيمان !، وأشَدُّ مَا تتأكّدُ حقوقُ الجِوارِ والبيئَةِ الجواريّةِ شرعًا في " العِمارات والتجمُّعات السّكنيّة المُشتَرِكَة المنافع "، فالنّاسُ يعيشُون فيها في طوابِقَ وشُقَق، وهم مشترِكُون في القُرب والمدخل والمخرج والسُّلّم والحَي الخارجِي والخدماتِ الحيويّة.. فتتأكّدُ الحقوقُ في أعناقِهِم جميعًا أكثَرَ من أيّ صورةٍ أخرى في الجِوار، لأنّ لهم:
حقًّا مُشترَكًا في الأمن والسلامَة، وحقًّا مُشتركًا في الرّاحة والنوم، وحقًّا مُشتركًا في التقدير والاحترام، وحقًّا مُشتركًا في النظافَة والجمال، وحقًّا مُشتركًا في استحقاقِ البيئة التربويّة النقيّة، وحقًّا مُشتركًا مُشاعًا في مرافق الحيِّ بأكمَلِه..
معشر المؤمنين: ماذَا لو حاسبنا أنفُسَنا على حقوقِ الجِوارِ والبيئَة الجواريّة المُشتَرَكة؟، تُرَى كم من الناس الآن مِمّن لم يبقَ لهم إلاّ أن يحملوا جيرانهم على طرح متاعهم خارج الدار؟، بل وترك ديارهم وبيعِها بأبخس الأثمان بسبب سوء العِشرة والجوار؟.. نسأل الله السلامَةَ والعافية !.
كم من الناس اليوم ممن يحرم جيرانه الحقّ في الراحة والنوم بسبب السّهر الطويل والصياح الشديد والضجيج المُزعِج في أوقات الرّاحة؟
وكم من الجيران اليوم مِمّن يحرم جيرانَه الحقّ في التقدير والاحترام وامتلاك البيئة التربويّة النقيّة، بسبب سوء تربية أولادِهِ وتجمّعهم في مداخِلِ العمارةِ وسلالِمِها وأرصِفة الحي، ثمّ لا يخرُجُ منهم إلاّ الكفر والسباب والشتيمة والكلام الفاحش، فإذا ما تكلّمتَ مع ذويه في ذلك قال لك " هو بجانب بيته! ".
وكم من الجيران اليوم مِمّن يحرم جيرانَه الحقّ في الأمن والسلامة، بسبب استجلابِ أولادِهِ للغُرباء عن الحي وجلوسهم مقابل بيوت الناس وأبوابهم لمراقبة أحوالهم وسيّاراتهم وضبطِ دقّات حياتهم مع فتح باب الترويج للفواحِشِ والسّرقات والمُنكرات؟
وكم من الجيران اليوم مِمّن يحرمُ جيرانَهُ من الحقّ في البيئة الجواريّة النظيفَة بسبب سوء تصريف الأوساخِ والنفايات وسوء تربية أولاده على تكسير الإنارة العمومية وتخريب الأبواب والنوافذ وممتلكات الحي وجماليّات الطبيعة والكتابة على الجدران..؟؟
كل هذه التصرّفات وغيرُها يؤكّدُ مدَى حساسيّة موضوع البيئة الجواريّة المُشتركَة، وكيف أنّ الرّاحة والسعادَةَ لا تتحصّل فيها إلاّ بصلاحِ الأفرادِ والأُسَرِ والأبناءِ جميعًا، ولذلكَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استعيذوا بالله من شر جار المُقام،فإن جار المسافر إذا شاء أن يُزَايِلَ زَايَلَ" [حسن:صحيح الأدب المفرد (86)، الصحيحة(1443). ].
نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة ؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
معشر المؤمنين: دعوة لمن أراد الفوز بالجنة والرضوان،والنجاة بنفسه وأهله وبنيه من النيران، أن يتعهد حقوق الجار والبيئَةِ الجواريّة التي يسكُنُها على الدوام، وبكلّ مبادَرَةٍ وإيجابيّة ومُقاوَمَةٍ للرّداءَة..
دعوةٌ لأن يربّيَ أولادَهُ وأهلَ بيتِهِ على ذلكَ على الدّوام ويُتابِعَهم ويُحاسِبَهم عليه ويكونَ دقيقَ المتابعةِ والملاحظَة..
دعوةٌ لأن يسألَ جيرانَهُ ويُنسّقَ معهم في كيفيّة تحقيقِ المقاصِدِ النفعيّةِ المُشتركة في الحي، وفي كيفيّة التنسيق جميعًا لإيصال الصوت والمطالب إلى المسؤولين بكلّ تنظيمٍ وروحٍ حضاريّة..
دعوةٌ لأن يكونُ كلّ واحدٍ منّا أوّلَ من يتعاهَدُ ذلكَ منه ومن أهل داره وأبنائه جميعًا ليسلمَ لهُ دينُهُ وإيمانُهُ وعرضُهُ في الدّنيا والآخرة..
وأبشِر أخي الحبيب إن كنتَ من الحريصينَ على هذا.. أبشِر بقَبُولِ اللهِ شهادَةَ جيرانِكَ فيكَ وفي إيجابيّتِكَ وإحسانِك، فهي شهادَةٌ عزيزَةٌ غالية:
في حديث أنس -رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: [ ما من مسلم يموت فيشهد له أربعةُ أهلِ أبياتٍ من جيرانه الأدنَين، إنهم لا يعلمون إلا خيرا، إلا قال الله: قد قبلت عِلْمَكُم فيه، وغفرت له ما لا تعلمون ](صحيح الترغيب والترهيب 3515).
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين.وصلى الله وسلم وبارك على محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين.