الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فلا زال الحديث عن آداب السلام، فمن ذلك:
أنه يشرع السلام على النساء، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها إحدى نساء بني عبد الأشهل تقول: مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في نسوة، فسلم علينا وقال: "إِيَّاكُنَّ وَكُفْرَ الْمُنَعَّمِينَ"، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَا كُفْرُ الْمُنَعَّمِينَ؟ قَالَ: "لَعَلَّ إِحْدَاكُنَّ أَنْ تَطُولَ أَيْمَتُهَا بَيْنَ أَبَوَيْهَا وَتَعْنُسَ، فَيَرْزُقَهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - زَوْجًا، وَيَرْزُقَهَا مِنْهُ مَالًا وَوَلَدًا، فَتَغْضَبَ الْغَضْبَةَ، فَرَاحَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ يَوْمًا خَيْرًا قَطُّ" [1].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث مولى أم هانئ بنت أبي طالب أنه سمع أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، وفاطمة رضي الله عنها ابنته تستره، فسلمت عليه فقال: "مَنْ هَذِهِ؟" قُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ" [2].
وروى البخاري في صحيحه من حديث سهل رضي الله عنه قال: "كنا نفرح يوم الجمعة، قلت لسهل: ولم؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بُضاعة – قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة – فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في قدر، وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا، ونسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله" [3].
وروى البيهقي في الشعب من طريق مبارك بن فضالة قال: سئل الحسن عن السلام على النساء؟ قال: لم يكن الرجال يسلمون على النساء، ولكن النساء هن من يسلمن على البعال [4].
قال الشيخ الألباني رحمه الله: "وتعليقًا على هذا الأثر أقول: لقد ثبت سلامه صلى الله عليه وسلم على النساء كما في حديث أسماء السابق، كما ثبت سلام أم هانئ عليه في الحديث السابق وهي ليست من محارمه، فهذا كله ثابت عنه صلى الله عليه وسلم فهذا هو الأصل، وأما الآثار فهي مختلفة فبعضها تطلق الجواز، ولا تفرق بين الشابة والعجوز فهي على الأصل، وبعضها تمنع مطلقًا، وبعضها تجيزه على العجوز دون الشابة، وبعضهم يفرق تفريقًا آخر فيمنع تسليم الرجال على النساء مطلقًا، ويجيز لهن السلام عليهم مطلقًا كما في أثر الحسن هذا، والذي يتبين لي والله أعلم البقاء على الأصل؛ ولأنه داخل في عموم الأدلة الآمرة بإفشاء السلام، مع مراعاة قاعدة "دفع المفسدة قبل جلب المصلحة" ما أمكن، وإليه جنح الحليمي فيما نقله البيهقي عنه، قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الفتنة، فلذلك سلم عليهن، فمن وثق من نفسه بالتماسك فليسلم، ومن لم يأمن نفسه فلا يسلم، فإن الحديث ربما جر بعضه بعضًا والصمت أسلم" [5].وأقره البيهقي ثم العسقلاني" [6] [7]
ويشرع كذلك السلام على الصبيان، ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ [8].
وفي رواية لمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم [9].
ويشرع للمسلم أن يسلم إذا دخل بيتًا أن يسلم سواء كان فيه آدمي أم لا، فإن كان لغيره فليستأذن وليسلم لعموم قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ﴾ [النور: 61].
روى الترمذي في سننه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ تَكُن بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ" [10].
فإن لم يكن في البيت أحد فقد قال نافع: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: "السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّه الصَّالِحِينَ" [11].
وكان ابن عمر يذهب إلى السوق ليس له حاجة إلا السلام، روى البخاري في الأدب المفرد من حديث الطفيل بن أُبي بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق، لم يمر عبد الله بن عمر على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلا يسلم عليه، قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يومًا، فاستتبعني إلى السوق فقلت: ما تصنع بالسوق؟ وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق، فاجلس بنا هنا نتحدث، فقال لي عبد الله: يا أبا بطن! - وكان الطفيل ذا بطن - إنما نغدو من أجل السلام نسلم على من لقينا [12].
أما المصافحة فقد وردت الأحاديث بفضلها وتشرع عند كل لقاء، فقد روى أبو داود في سننه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا" [13].
وروى الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّه! الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" [14].
وفي الحديث الآخر عن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك: هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم [15].
أما المعانقة، فتشرع عند القدوم من السفر، أو بُعد العهد.. ونحو ذلك.
سُئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن المعانقة[16] والقيام؟ فقال: أما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأسًا إذا كان على التدين يحبه في الله، أرجو لحديث جعفـر أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقه وقبل بين عينيه [17].
قال البغوي رحمه الله: "ويكره من المعانقة والتقبيل ما كان على وجه الملَقِ والتعظيم، وفي الحضر.
فأما المأذون فيه، فعند التوديع وعند القدوم من السفر، وطول العهد بالصاحب، وشدة الحب في الله.
ومَنْ قَبَّل، فلا يقبل الفم، ولكن اليد والرأس والجبهة، وإنما كره ذلك في الحضر، فيما يُرى؛ لأنه يكثر، ولا يستوجبه كل أحد، فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض، وجد عليه الذين تركهم وظنوا أنه قد قصر بحقوقهم، وآثر عليهم، وتمام التحية المصافحة" [18].
وقال إسماعيل بن إسحاق الثقفي: سألت أبا عبد الله قلت: ترى أن يقبل الرجل رأس الرجل أو يده؟ قال: نعم [19].
روى أبو داود في سننه من حديث زارع رضي الله عنه وكان في وفد عبدالقيس قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم [20].
وأما تقبيل الأطفال أو المحارم من النساء على وجه الشفقة والرحمة واللطف ومحبة القرابة، فقد وردت الأدلة بجوازه.
روى أبو داود في سننه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا- وَقَالَ الْحَسَنُ [21]: حَدِيثًا وَكَلَامًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَسَنُ السَّمْتَ وَالْهَدْيَ وَالدَّلَّ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ، فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا" [22].
وروى البخاري في صحيحه من حديث البراء رضي الله عنه قال: فدخلت مع أبي بكر رضي الله عنه على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها فقبل خدها وقال: كيف أنت يا بنية [23].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وكان دخول البراء على أهل أبي بكر قبل أن ينزل الحجاب قطعًا، وأيضًا فكان حينئذ دون البلوغ وكذلك عائشة" [24].
أما مصافحة النساء غير المحارم، فقد ورد النهي عن ذلك، فروى الطبراني في المعجم الكبير من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ رَجُلٍ بِمِخْيَطٍ[25] مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ تَمَسَّهُ امْرَأَةٌ لا تَحِلُّ لَهُ" [26].
وقبَّل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ" [27].
وقال ثابت عن أنس رضي الله عنه: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه [28].
ولا بأس بتقبيل وجه الميت، ففي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها في الحديث الطويل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "دَخَلَ أَبُو بَكر رضي الله عنه، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى" [29].
وقد ورد النهي عن السلام بالإشارة، فقد روى الترمذي في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ، وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ" [30].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] (45/542) برقم (27561)، وقال محققوه: حديث حسن.
[2] صحيح البخاري برقم (3171)، وصحيح مسلم برقم (336).
[3] برقم 6248.
[4] (13/105) برقم 8508، وقال محققه: إسناده حسن.
[5] (13/106)، طبعة وزارة الأوقاف القطرية.
[6] فتح الباري لابن حجر رحمه الله (11/33-34).
[7] صحيح الأدب المفرد ص(399) بتصرف.
[8] صحيح البخاري برقم (6247)، وصحيح مسلم برقم (2186).
[9] برقم (2186).
[10] برقم (2698)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[11] الأدب المفرد للإمام البخاري ص(407) برقم (1055)، وحسن إسناده الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الأدب، وحسنه الحافظ في فتح الباري (11/20).
[12] الأدب المفرد للإمام البخاري بتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله ص(385-386) برقم (1006)، وقال: حديث صحيح.
[13] برقم (5212)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن أبي داود (3/979) برقم (4343).
[14] برقم (2728)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
[15] صحيح البخاري برقم (6263).
[16] العناق: بكسر العين، الالتزام وهو المعانقة، وقد عانقه إذا جعل يده على عنقه وضمه إلى نفسه، قاله الجوهري، الآداب الشرعية للحجاوي ص(240).
[17] مستدرك الحاكم (3/529) برقم (4308) وهو مرسل، قال الشيخ الألباني رحمه الله: هذا وقد كنت منذ بعيد لا أرى تقبيل ما بين العينين لضعف حديث جعفر هذا بسبب الإرسال، وعدم وقوفي على شاهد معتبر له، فلما طبع المعجم الكبير ووقفت فيه على إسناده من طريق أنس بن سليم، وعلى ترجمته عند ابن عساكر وتبين لي أنه شاهد قوي للحديث المرسل، رأيت أنه من الواجب علي نشره في هذه السلسلة أداء للأمانة العلمية، ولعلمي أن الكثيرين من أمثالي لم تقع أعينهم عليه فضلًا عن غيرهم، فأحببت لهم أن يكونوا على بصيرة منه، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، السلسلة الصحيحة (6/338) برقم (2657).
[18] شرح السنة للبغوي (12/293).
[19] الآداب الشرعية للحجاوي ص(239).
[20] برقم (5225)، وقال الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (3/981) برقم (4353): حسن دون ذكر الرجل الواردة في بعض روايات الحديث.
[21] أحد رواة الحديث.
[22] برقم (5217)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن أبي داود (3/979) برقم (4347).
[23] برقم (3918).
[24] فتح الباري (7/256).
[25] المخيط: هو ما يخاط به كالإبرة والمسلة ونحوهما.
[26] معجم الطبراني الكبير (20/210) برقم (786)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في غاية المرام برقم (196).
[27] صحيح البخاري برقم (5997)، وصحيح مسلم برقم (2318).
[28] صحيح البخاري، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.
[29] برقم (1241-1242).
[30] برقم (2695)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن الترمذي (2/346) برقم (2168).