مسجد ومدرسة
أم السلطان شعبان
غَنِيَّة هي مصر بآثارها الإسلامية الرَّائعة التي تَحكي عصورًا مُزْدَهرة مرَّت بها، فيُشاهدها المرء كأنَّه أمام مُتْحَف مفتوح، فكلُّ عصر له عبَقُه التاريخي، فملوكه وسلاطينه أبدعوا وجلَبُوا خِيرة العُمَّال والبنَّائين؛ لكي يَبْنوا صروحًا لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، تشهد على عظمَتِهم واهتمامهم بالإسلام والمساجد والأسبلة، والعديد من التَّكايا للفقراء والمساكين على مرِّ العصور الإسلامية، ولا سِيَّما العصر المملوكي الذي يُعدُّ بحقٍّ أحدَ العصور الذهبيَّة للإسلام، ففي هذا العصر تفنَّن سلاطين المماليك في بناء المساجد وزخْرفتها بطريقة غاية في الرَّوعة والثَّراء والإبداع، ومِن هذه المساجد مسجد ومدرسة أم السلطان شعبان، بالدَّرب الأحمر بالقاهرة.
عصر مترد ونزاعات واستبداد
يُنسب هذا المسجد إلى الملك الأشرف شعبان بن حسين، ووالده الأمير الأمجد حُسَين بن الملك النَّاصر محمد بن قلاوون، ووالدته السيدة خوند بركة.
وُلد الأشرف شعبان عام 754هـ في قلعة الجبَل، وهو السُّلطان الثاني والعشرون من ملوك التُّرك بالدِّيار المصريَّة، جلس على عرش مصر بعد خلْع ابْن عمِّه الملك المنصور محمَّد بن الملك المظفَّر حاجي بن النَّاصر محمَّد، وكان عمره عشر سنوات، تميَّز عصره بسوء الأوضاع الداخلية والتَّدهور الشديد في كلِّ المناحي؛ نتيجةً لصِغَر سنِّ السَّلاطين من أولاد الناصر محمد بن قلاوون، فضلاً عن النِّزاعات بين الأُمراء للاستبداد بالسُّلطة.
ولمَّا ضعفت الدَّولة المَمْلوكية آنَذاك استخفَّ بها الأعداء، وفقدت هيبَتَها، وطمع فيها الطَّامعون، فقد تعرَّضت مدينة الإسكندرية لحملة صليبيَّة قادها بُطْرس لوزجنان حاكم قُبْرص، نجَحَت في السَّيطرة والاستيلاء عليها، وتخريبها ونَهْب نفائسها ومتاجرها، فحمَل عليهم المُسْلِمون، واشتدُّوا في قِتالهم حتَّى أخرجوهم منها.
وبعد استقرار الأمُور للسُّلطان شعبان، شرع في بناء المسجد والمدرسة التي سُمِّيت باسْم أُمِّه خوند بركة، التي كانت ذات حُسْن وجمال وعقل ورأي سديد، والتي أنشأت إلى جانب مدرسة السُّلطان شعبان الرَّبْع المعروف بِرَبْع أُمِّ السلطان بالقرب من جامع الأقمر، إضافة إلى قيسارية الجُلود التي كانت تحت الرَّبْع، وبلغ من حُبِّه لأُمِّه أنه أرسل في صحبتها حاشية كبيرة ومائة من المماليك السُّلطانية وفرقة موسيقيَّة حينما خرجت إلى الحجِّ، كما اشتملت راحلتها على قطار من الجِمال محمَّلٍ بمختلف المُؤَن، حتَّى عُرف حجُّ هذا العام بين العامَّة بعام أُمِّ السُّلطان، وتُوُفِّيَت خوند بركة ودُفنت في المسجد المسمَّى باسْمها وهي في العقْد الخامس من عمرها.
هدية من الابن لأمه
يقع مسجد أُم السلطان شعبان بشارع التبَّانة على يمين السالك من الدَّرب الأحمر إلى القَلْعة، بين باب الوزير وجامع المارداني، له بابان؛ أحدهما بالشارع، والآخَر بِحَارة مظهر باشا، وصحنه مفروش بالرخام النَّفيس، وفيه تقاسيم جميلة.
على يمين الدَّاخل من الدهليز لوح رخام أزرق مقسَّم باللَّون الأخضر، منقوش فيه: "الحمد لله، أنشأ هذه المَدْرسةَ المباركة مولانا السُّلطان المَلِك أعزَّ أنصاره لوالدته، تقبل الله منهما"، ويقول المقريزي: "هذه المَدْرسة خارج باب زويلة بالقُرْب من قلعة الجبَل، يُعرف خَطُّها بالتبَّانة، وموضعها كان قديمًا مقبرة لأهل القاهرة أنشأتها السِّت الجليلة الكبرى أُم السلطان الملك الأشرف شعبان بن حُسين في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وعَمِلت بها دَرْسًا للشافعية ودرسًا للحنفيَّة، وعلى بابها حوض ماء للسَّبيل، وهي من المدارس الجليلة، وفيها دُفن ابْنُها الملك الأشرف بعد قتله".
تاريخ المدرسة والمسجد ووصفهما
كان الفراغ من إنشاء هذه المدرسة في سنة 770هـ/1368م، وأُعدَّت لتكون مدرسة للشافعية والحنفية، وقيل: للمذاهب الأربعة، وقد حفلت بشتَّى الصِّناعات، جمعت واجهة المَدْرسة حوضًا لِشُرب الدَّوابِّ منفصلاً عن الواجهة يعلوه كُتَّاب، فالمدخل العام، فسبيل، ثم ملحقات للمدرسة، فالمنارة.
الباب الرئيسي من أحفل الأبواب زخرفًا، وأنْدَرِها تصميمًا، فقد انفرد بطرزه وعقوده، ومقرْنصاته المُذَهَّبة، وزخارفه المورقة بتواشيحه، والكتابة الكوفيَّة المحيطة به، وقد اشتملت على آية الكُرْسيّ، وهذا النَّوع من الأبواب متأثِّر بالعمائر السَّلجوقية التي تُعنَى بزخرف المداخل.
ويقوم على يسار الباب سبيلٌ أُقيم على وجهِه حجابٌ من الخشب المجمَّع بأشكال هندسية، يُعدُّ النُّموذجَ الأوَّل من نوعه، والمدخل الرئيسي يؤدِّي إلى طُرْقة بصدرها صفَّة على يمينها باب يؤدِّي إلى الكُتَّاب، وعلى يسارها باب يوصِّل إلى طُرْقة مستطيلة بصدرها باب مغطَّى بمقرْنصات عليها كتابات.
وللمدرسة أربعة إيوانات متعامدة يتوسَّطها صحْن مكشوف، وقد حُلِّيت أعتاب الأبواب بزخارف غريبة مذهَّبة، كما غُطِّيت هذه الأبواب بمقرْنصات لطيفة، ويسترعي النَّظرَ في الإيوان القبليِّ سَقْفُه المحلَّى بنقوش زَرْقاء مُذَهَّبة، وهو مثال لسقوف الإيوانات التي كانت على غاية من الأهمِّية، أمَّا الإيوان الشرقي فقد احتفظ بِكِسْوة الرُّخام بالمحراب والشبَّاكَيْن بجانبيه، وهناك زخارف دُقَّت في تواشيح الشَّبابيك، وكذلك عُمُد المِحْراب المُثَمَّنة؛ فقد نُقِش بعضُ أضلاعها بزخارف مُورقة، ويقوم إلى جانب المِحْراب منبرٌ خشبي بسيط، ترجع صناعته إلى القرن الثاني عشر الهجري، ويكتنف هذا الإيوانَ قُبَّتان؛ القبلية منهما خُصِّصت لِدَفْن السُّلطان شعبان، ودُفن فيها أيضًا ابنه الملك المنصور حاجي المتوفَّى سنة 814هـ، وهي قُبَّة صغيرة بُنيت بالحجر وخارجها مضلَّع.
أمَّا من الدَّاخل فإنَّ مقرنصها من طاقة واحدة ولا مِحْراب لها، والقُبَّة البحريَّة أُعدَّت لدفن خوند بركة، وقد دُفنت معها ابنتها خوند زهرة، ويتوسَّطها قبر عليه كتابة، ولكلٍّ من القبَّتيْن شبَّاك يشرف على الإيوان الشرقي، لهما مَصاريع خشبية حشواتها من السنِّ المَدْقوق بالأويمة الدَّقيقة، ومُحاطة بإفريز منقوش السِّن، وهي مصاريع دقيقة وغنية جدًّا.
ووجود قبتين تَكْتنفان الإيوان الشرقيَّ من النماذج المعدودة في المدارس القائمة، فقد كان الإيوان الشرقيُّ في كلٍّ من خانقاه أُمِّ آنوك وخانقاه خوند سمرا، والمنوفي تكتنفه قبَّتان، هُدمت إحداهما وبقيت الأُخرى، والمساجد أسْبَق من المدارس في ذلك، فقد كان الإيوان الشرقيُّ لجامع الحاكم ينتهي بقبَّتيَّن ومثله الأَزْهر، كما انتهى الإيوان الشرقيُّ لخانقاه فرَجِ بن برقوق بالصَّحراء بقبَّتيَّن، ومثله المؤيّد شيخ بالغورية، ولم تكمل القُبَّة الثانية.
وهناك كرسي نُقل من المسجد إلى دار الآثار العربيَّة من الخشب، ذو سِتَّة أضلاع مُحلاَّة بزخارف دقيقة من السنِّ والأبنوس، كما نُقلت إليها مِشْكاوات من زجاج بالمينا.