جامع عمرو بن العاص بدمياط
جامع عمرو بن العاص في دمياط هو ثاني مسجد بُني في مصر، أنشأه المسلمون بعد فتح المدينة عام 21هـ على طراز جامع عمرو بن العاص بالفسطاط بمصر القديمة؛ ولذلك عُرف أيضًا بمسجد الفتح نسبةً إلى الفتح العربي، وقد قام بإنشائه الصحابي الجليل المقداد بن الأسود في عهد عمرو بن العاص، ويعدُّ من أشهر مساجد الوجه البحري ودمياط وأقدمها، وبالمسجد كتابات كوفية وأعمدة يعود تاريخها إلى العصر الروماني.
والمسجد قُيِّد في عداد الآثار الإسلامية بدمياط تحت اسم "جامع أبو المعاطي" (جامع عمرو بن العاص)، ومؤرخ كما ورد في دليل الآثار الإسلامية المُسجَّلة بجمهورية مصر العربية والصادر عن قطاع الآثار الإسلامية بعام 521هـ/ 1127م، وورد بالدليل أن منشئ الجامع هو الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله على اعتبار أن الجامع الحالي بُني في عهده، أما قرار تسجيل الجامع فهو قرار وزاري رقم 10357 لسنة 1951م[1].
ويقع هذا الجامع جامع عمرو بن العاص -ولا يزال- بالجبانة الكبرى بمدينة دمياط، وكان الجامع يقع في أقصى شرق المدينة قبل التخريب بالقرب من الجبانة القديمة التي كانت تقع إلى الشرق، هذا إلا أنه بعد تخريب المدينة تحوَّلت الكتلة العمرانية التي كانت تُحيط بالجامع من الشمال والغرب إلى تلال خربة استخدمت للدفن في العصر المملوكي والعثماني، إضافةً إلى وجود المقابر فعلاً إلى الشرق من الجامع، فأصبح يقع جنوب شرق تلك الجبانة بظاهر المدينة طوال العصرين المشار إليهما[2].
والمسجد من المساجد الكبيرة، فهو أكبر مساجد دمياط من حيث المساحة، حيث تبلغ مساحته ما يقرب من فدان؛ حيث تبلغ أطواله 54م × 60م، وتقدر مساحته الإجمالية بحوالي 3240م2، هذا بخلاف مساحة الزاويتين وبعض الإضافات. ويحتوي الجامع على أربع واجهات حرة حاليًّا بعد أعمال الترميم الحديثة، وكلها مبنية بالطوب الآجر، فالواجهة الغربية منها والتي تحتوي على المدخل الرئيسي يتقدمها سقيفة، وتطل اليوم على شارع يمتد بداخل الجبانة متفرع من حارة العبد تم شقه من قبل لجنة حفظ الآثار العربية بعد إزالة القبور التي كانت تمتد بطوله، أما الواجهة الجنوبية فتطل على شارعٍ رئيسي، ويقع بمنتصفها المدخل الجنوبي الموصل للمجاز القاطع، والواجهة الشرقية تطل على شارع ضريح أبو المعاطي، وهذه الواجهة لا تمتد على استقامة واحدة، والواجهة الجنوبية تطل على الجبانة.
وقد صار تخطيط الجامع وفق النموذج التقليدي للمساجد؛ حيث يتكون من صحن أوسط مستطيل مكشوف تحيط به الأروقة من أربع جهات، أهمها الرواق الجنوبي، وهو رواق القبلة الذي يضم أربع بلاطات، أما الرواقان الشرقي والغربي فيحتوي كل منهما على بلاطتين، وكذلك الرواق الشمالي فيحتوي حاليًّا على بلاطتين، وبالقرب من المدخل الغربي الرئيسي، والتي تتقدمه سقيفة توجد مئذنة المسجد، وقد شيدت جدران المسجد بحيث تواجه الجهات الأصلية الأربعة مواجهة تامة؛ ولذلك جاءت قبلته في وضع غريب في الزاوية الجنوبية الشرقية الحادثة من تقابل الضلع الجنوبي والضلع الشرقي لهذا المسجد، وهو أمر نادر الحدوث[3].
تاريخ عمارة جامع عمرو بن العاص جامع عمرو بن العاص بدمياطمسجد أبي المعاطي أو جامع عمرو بن العاص أو مسجد فاتح هو أشهر مساجد مدينة دمياط وأقدمها عهدًا وأكثرها ذكرًا في كتب التاريخ، ويذهب الكثيرون إلى أنه شيد في زمن الفتح العربي لمصر في القرن الأول الهجري السابع الميلادي[4].
ولقد أشار إلى هذا المسجد المقريزي في خططه فقال: "وبدمياط جامع من أجلّ مساجد المسلمين تسميه العامة مسجد فتح، وهو المسجد الذي أسسه المسلمون عند فتح دمياط"[5].
ثم تجدد بناء الجامع على مرِّ العصور بالهدم والتوسيع والزيادة، كما حدث لـ"جامع عمرو بن العاص" بالفسطاط، وعملت فيه يد الإصلاح والترميم نحو عشرين مرة، حتى لم يبق من شكله الأصلي شيء يُذكر[6]، فعندما هاجم البيزنطيون المدينة في 9 ذي الحجة سنة 238هـ/ 22 مايو 853م أشعلوا النيران فيها وأحرقوا المسجد الجامع. ومن المؤكد أنه تمت عمارة الجامع عندما أمر الخليفة المتوكل ببناء حصن دمياط في السنة التالية، وكانت مساحة الجامع بعد هذه العمارة مستطيلة الشكل تبلغ 56م طولاً و45م عرضًا تقريبًا، وأغلب الظن أنه كان يتكون من الرواق الجنوبي الشرقي (إيوان القبلة)، ورواقَيْن جانبيين، مع عدم وجود رواق مقابل لإيوان القبلة، وكان للجامع ستة أبواب ثلاثة بالجدار الشرقي وثلاثة بالجدار الغربي، أما بالنسبة لارتفاع جدران الجامع وبوائكه[7] فقد كانت أقل ارتفاعًا؛ مما هي عليه الآن، ويتضح ذلك من مستوى ارتفاع النوافذ[8].
ويعدُّ العصر الفاطمي هو العصر الذهبي لمدينة دمياط؛ حيث نمت المدينة وازدهرت، وظهر ذلك على عمارتها، وعلى أهم معالمها مثلاً في مسجدها الجامع الذي نحن بصدد الحديث عنه، وتُعدُّ أهم عمارة وتجديد للجامع في هذا العصر كانت على يد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، والتي تمت في شهر رجب سنة 521هـ/ يوليو-أغسطس 1127م، وقد تبقى منها النص التذكاري الذي كان مثبتًا أعلى المدخل بالواجهة الغربية، ولقد أشار المقريزي إلى كتابة على باب المسجد بالخط الكوفي تفيد أن الجامع عُمر بعد سنة خمسمائة من الهجرة، وأن فيه من عمد الرخام ما يعز وجود مثله[9].
وكذلك تبقى من عمارة هذا العصر فتحات النوافذ ذات العقود المنفرجة الفاطمية، كما تبقى لنا بعض عقود البوائك فاطمية الطراز، كما أضيف للجامع رواق رابع مقابل لرواق القبلة من الناحية الشمالية يتكون من بائكتين، كما تم إضافة مجاز قاطع يقطع بوائك وبلاطات رواق القبلة، وهذا المجاز أكثر اتساعًا[10]. ويذكر أنه تم بناء الصهاريج الموجودة في تخوم أرضية صحن الجامع لشرب المصلين[11]. وظل المسجد قائمًا بعد تجديده في العصر الفاطمي في خلافة الآمر عام 500هـ/1106م حين أصدر أمراء المماليك أمرهم بتخريب دمياط، ولكنهم أبقوا على الجامع، وظلَّ مهملاً بضع سنوات حتى تم تجديد المدينة[12].
العصر الأيوبي وتحول المسجد لكنيسة
أعجب ما في تاريخ هذا الجامع أنه تحوَّل من مسجدٍ إلى كنيسة إلى مسجد بضع مرات، فحينما استولى جان دي برين أثناء حملته على مدينة دمياط عام 616هـ/1219م أقام الفرنجة بالجامع ليلة سيطرتهم على المدينة يفجرون بالنساء ويغتصبون البنات، وجعلوا الجامع كنيسةً، واستولوا على منبره، وكان من الأبنوس فقطعوه إلى قطع صغيرة، واحتفظ بعضهم بأجزاء منه وأرسلوا بقية أجزائه الأخرى مع المصاحف التي كانت بالجامع إلى البابا وملوك أوربا كدليلٍ على سقوط المدينة في قبضتهم[13].
وأشار السيوطي إلى تلك الوقعة بقوله: "... ثم في سنة 616هـ/1219م استحوذ الفرنج على دمياط، وجعلوا الجامع كنيسة لهم، وبعثوا بمنبره وبالمربعات ورءوس القتلى إلى الجزائر... "[14]. ولما خرج الصليبيون من دمياط عام 1221م تحول لمسجد.
وفي أثناء حملة لويس التاسع عام 647هـ/1249م على دمياط، جعل ذلك الجامع كاتدرائية- كنيسة كبيرة- وكرَّسها لمريم العذراء، وأقام بها حفلات دينية عظيمة كان يحضرها نائب البابا، ومنها حل تعميد الطفل الذي ولدته بدمياط ملكة فرنسا زوجة لويس التاسع، واسمه يوحنا ولقبته (أثريستان) أي الحزين لما أصاب ولادته من أهوال الحرب، وبعد هزيمة لويس التاسع وخروج الصليبيين من دمياط عاد المسجد إلى سابق عهده، وتم بناء السقيفة التي تتقدم المدخل الرئيسي بالواجهة الغربية وبناء المئذنة على يسار هذا المدخل[15].
وفي العصر المملوكي عُرِفَ هذا الجامع بجامع فتح أو فاتح، لنزول شخص به يقال له: فاتح، فقالت العامة: جامع فتح، وهو حسبما ذكر المقريزي: فاتح بن عثمان الأسمر التكروري، قدم من مراكش إلى دمياط على قدم التجريد في سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري، وسقى بها الماء في الأسواق احتسابًا من غير أن يتناول من أحدٍ شيئًا، ونزل في ظاهر الثغر، ولزم الصلاة مع الناس، ثم رحل إلى تونة من بحيرة تنيس، وانتقل منها إلى جامع دمياط، وأقام في وكر بأسفل المئذنة، وخرج إلى الحج وعاد إلى دمياط، فأخذ في ترميم الجامع وتنظيفه بنفسه حتى نقّى ما كان فيه من الوطاويط بسقوفه، وساق الماء إلى صهاريجه، وبلَّط صحنه وسبك سطحه بالجبس، وأقام فيه، وكان الجامع قبل ذلك من حين خُربت دمياط لا يفتح إلا في يوم الجمعة، ورتَّب له إمامًا راتبًا يُصلي الخمس، وسكن في بيت الخطابة، وواظب على إقامة الأوراد به، وجعل فيه قُرَّاء يتلون القرآن، وكان فاتح يعلم الناس في الجامع ويقول: "... لو علمتُ بدمياط مكان أفضل من الجامع لأقمتُ به..."[16]. مات فاتح في ربيع الآخر عام 695هـ، ودفن بجوار الجامع، وقبره يُزار إلى يومنا هذا[17].
كما أضيفت عدة تجديدات وترميمات للجامع خلال العصر المملوكي منها تدعيم بوائك رواق القبلة بعدما ساءت حالتها وحدث ميلاً فيها، كما يبدو أنها قد أثَّرت على كلٍّ من جداري الجامع الشرقي والغربي بسبب قوة الرفس؛ لذا تم إضافة ست بوائك تتعامد عقودها على بوائك رواق القبلة القديم، وتتوازى مع بائكة المجاز القاطع، كما تم إضافة رواق وبائكة لكلٍّ من الرواق الغربي والشرقي تطل كل منهما على الصحن، كما تم إعادة بناء الجزء العلوي من المئذنة الموجود على يسار المدخل الغربي للجامع على الطراز المملوكي[18].
وفي العصر العثماني جرت عدة تعديلات وترميمات على الجامع غيَّرت كثيرًا من معالمه الأصلية وتخطيطه، فقد تم تغيير اتجاه القبلة؛ حيث ألغي المحراب بالجدار الجنوبي وفُتح بدلاً منه الباب الحالي، وتم بناء جدار جديد للجامع وهو الجدار الجنوبي الشرقي الذي استجد بعد زحزحة جزء من الجدار الشرقي الجامع نحو الشرق قليلاً لإطالة الجدار الجنوبي الشرقي الجديد؛ كي يتسع لإضافة محراب حنفي بجانب المحراب الشافعي.
كما تم خلال العصر العثماني بناء الجدار الشرقي للجامع، حيث كان مجاورًا لميضأة الجامع والمراحيض؛ مما عرَّضه دائمًا للتلف بسبب الرطوبة. وفي سنة 1041هـ/1631م كانت مطهرة الجامع قد زادت بها النجاسة؛ ما أدَّى إلى أن أصبح حائط الجامع المجاور لها آيلاً للسقوط.
وأضيف للجامع في هذا العصر زاويتان على جانبي المدخل الرئيسي بالواجهة الغربية للجامع، واتخذت الزاوية التي على يمين المدخل كمقر لبعض الشيوخ المتصوفة في هذا العصر مثل الشيخ القطب أبي الغيث القشاش التونسي، وكان ممن أقام بها أيضًا من المتصوفة السيد الشريف محمد بن محمد الحسيني، وذلك سنة 1036هـ/1626م، وكذلك الشيخ عبد الله الشريف والذي دُفِنَ بالزاوية بعد وفاته؛ ولذا عُرفت بضريح أو مقام الشيخ عبد الله الشريف.
أما الزاوية الأخرى التي تقع على يسار المدخل الرئيسي للجامع بجوار المئذنة، فقد اتخذت كرباطٍ ومصلى للنساء العاجزات والمنقطعات، وعُرفت بجامع النساء.
أعمال الإصلاح والتجديد
مسجد عمرو بن العاص والمشهور بجامع أبو المعاطي من المساجد التي حظيت بعناية ورعاية لجنة حفظ الآثار العربية منذ بدايتها الأولى في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ويرجع ذلك لأهمية هذا المسجد من الناحية التاريخية؛ حيث يعد أقدم مساجد دمياط.
وكانت اللجنة قد أخرجت الجامع من عداد الآثار سنة 1886م، وحدث أن توجه بعض أعضاء اللجنة لمعاينة الجامع عام 1915م، وكذلك معاينة المباني القديمة بدمياط، ورأت اللجنة أنه ليس من الضروري الآن إعادة إدراج هذا الأثر مرة أخرى في عداد الآثار، وتقرر أن يعمل رسم للجامع يبين أوضاعه وتؤخذ له صور فوتوغرافية، واقترح علي بهجت بك نقل بعض التحف المنقولة من الجامع لدار الآثار العربية منها.
وافق الدكتور زاهي حواس أمين عام المجلس الأعلى للآثار على البدء في سنة 2004م في ترميم ثلاثة مساجد أثرية بدمياط هي عمرو بن العاص، والمعيني، والحديدي بمدينة فارسكور، وكان الدكتور عبد العظيم وزير محافظ دمياط آنذاك قد التقى الأمين العام الدكتور زاهي حواس والوفد المرافق له وأبدى خوفه من انهيار المساجد الأثرية، وقامت المحافظة بالتنسيق مع المجلس الأعلى للآثار بعمل الترميمات اللازمة لهذا المسجد الأثري، وبدأت وزارة الثقافة متمثلةً في المجلس الأعلى للآثار بتنفيذ مشروع تطوير شامل لآثار مدينة دمياط بتكلفة إجمالية قدرها 66 مليون جنيه؛ نظرًا لما تواجهه المنطقة من زيادةٍ في المياه الجوفية وتدهور في حالة آثارها.
وقد تمت إعادة افتتاح المسجد أمام المصلين في يوم الجمعة 8 مايو 2009م، والذي يوافق عيد دمياط القومي الذي يوافق انتصار شعب دمياط على الحملة الصليبية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وبذلك عاد المسجد إلى بهائه القديم.