الإخلاص من أخلاق العلماء
بالنظر إلى رسالة الإسلام، ودور هذا الدين العظيم في إصلاح الأرض كلها، وفي نفع العالمين، كل العالمين، كان لزامًا على العالم المسلم أن يكون مختلفًا عن غيره، متميزًا بما لا يقدر غيره على التميز به.
ولا يكون ذلك في جانب الجهد أو التحصيل فقط، فهذا أمر مشترك بين عموم العلماء، ولكن يكون -وفي المقام الأول- في جانب الأخلاق والقيم.
إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم قدوة المجتمع، وهم بناة الأمة وقائدو التغيير والإصلاح، لذا كان لزامًا عليهم أن يكون لهم أخلاق خاصة، يتفردون بها عن عموم الخلق، سواء من المسلمين أو من غير المسلمين.
إن هذا يعني أن هناك أخلاقًا معينة وصفات خاصة، لابد أن يتحلى بها العالم المسلم، ولابد أن تصطبغ بها حياته وتكون غالبة عليه، ومنذ بداية الطريق.
وفي ذلك فإنا نكتفي بما يمكن أن يكون هو الأساس وليس الكل؛ إذ الأمر أكبر من أن تحويه هذه الصفحات، ويكفي أن أخلاق العالم تُمثِّل في حد ذاتها أخلاق الإسلام.
أولاً: الإخلاص
وهو حجر الزاوية في القضية برمتها، وهو الخطوة الأولى في طريق تحصيل العلم، إذ هو الميزان الحساس الذي به يُقوَّم ويوزن عِلْمنا، بل أعمالنا كلها، وبه نصعد إلى أعلى الدرجات والمنازل، ومن غيره نهوي إلى أسفل الدركات وأحط الرتب !!
إنه الإخلاص ..
إنه السر الدفين المخبوء داخل قلب المرء، والذي لا يطلع عليه غير من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ..
فتُرى ..
لماذا نتعلم هذا العلم ؟!
وأيُّ شيء نبغي من وراء تحصيله ؟!
وبالأحرى: لماذا نُريد أن نكون علماء ؟!
هل هذا لأجل الله عز وجل، وطمعًا في جنته، وخوفًا من ناره ؟!
أم أنه لأجل التكسب وجني المال ؟! أو لأجل التفاخر والتباهي، والرفعة في دار الدنيا، والمنزلة العالية في قلوب الخلق ؟!
وقبل الإجابة على هذه الأسئلة، لنعي جيدًا ذلك الحديث.
أول من تسعر بهم النار
عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ".
فهذا الشهيد الذي مات في وسط المعركة، والذي جاد بنفسه التي هي أغلى ما يملك، يُجر على وجهه حتى يُلقى في النار !!
لقد اطلع على باطنه الذي يعلم السر وأخفى، وعلم أنه إنما كان يُقاتل ليرتقي أرفع الدرجات في أعين الناس، كان يُقاتل ليتحدث الناس عنه بأنه جريء مقدام، وقد تحقق طلبه وبُغيته، وتحدَث الناس عنه بذلك، ليأخذ نصيبه في دار الدنيا، ومن ثم فليس له نصيب في الآخرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].وهذا عن أوَّل الثلاثة الذين هم أول من يُقضى عليه يوم القيامة.
وأما الثاني فهو:
"وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ".
وهذا الرجل الثاني، الذي يحكم عليه ضمن أول من يحكم عليهم يوم القيامة، هو بيت القصيد في مقالنا ..
وهو لم يكن عالمًا وحسب، وإنما كان عالمًا متفاعلاً ومؤثرًا في مجتمعه، تعلَّم العلم، ثم راح يبذل جهده ووقته وعرقه ليعلمه الناس، ثم هو يُجَرُّ على وجهه حتى يُلقى في النار !!
ولا عجب؛ إنه كمال العدل .. فلم يكن في ذلك كله يطلب وجه الله تعالى ! لقد انطوى قلبه على مكنون من الأهداف الشخصية والمصالح الخاصة في دار الدنيا، لقد أراد أن يُشار إليه بالبنان، وأراد أن يكون حديث الناس في مجالسهم وسمرهم، وأراد أن يُعلم أنه الأعلم، وأنه الأقرأ !!
وكل هذا قد حدث !!
حدث ونال ما تمنى، وتكلم الناس كما أراد، وتحقق حلمه الذي كان يسعى إليه، فكان هذا هو أجره ونصيبه، وقد أخذه كاملاً كما أراده هو، فليس العدل إذن أن يأخذه مرة ثانية، ومن ثم فليس لك في الآخرة نصيب !!
أما الرجل الثالث:
فكان أيضًا على شاكلتهم في مقصده ومراده، فنال أيضًا درجتهم، وجُر على وجهه في النار، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه يصفه:
"وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ" [1].
الإخلاص أول خطوة في طريق العلماء
والقضية جد خطيرة، والموضوع ليس بالهيِّن !! فمع وجود الكافرين، ومع وجود المنافقين، ومع وجود أصحاب الكبائر والمعاصي، ومع وجود من اقترف من الموبقات ما اقترف، مع وجود كل هؤلاء يقضي رب العالمين سبحانه أول ما يقضي على هذه الطوائف الثلاث، والتي كانت في حياتها ملء سمع الدنيا وبصرها !!
وإن ذلك ليوقفنا على حقيقة مهمة وقاعدة خطيرة، وهي أن الأعمال التي ليس فيها إخلاص، والتي لم يرد بها وجه الله تعالى، هي أعمال محبطة، وهي أعمال لا وزن لها ولا قيمة، يقول تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
ومن ثم كان الإخلاص أول خطوة في طريق العلماء، وإنا وإن علمنا ذلك، فإن الحصول عليه -كما العلم- هو مطلب غالٍ وعزيز، وليس يحصل بين يوم وليلة، وإنما يحتاج الأمر فيه إلى مجاهدة شاقة على طول طريق العلم، بل وعلى طول طريق الحياة !!
فالنفس تتغيَّر بين الحين والآخر، والقلب يتقلب بين الفينة والثانية، ومن الممكن أن ينوي الإنسان نيةً صالحة لله تعالى في أول عمل ما، ثم ومع مرور الوقت، وأثناء أداء نفس العمل، يأتيه -مثلاً- من يُثني عليه فيه، أو من يعظمه بسببه، أو غيره فيجد نفسه وقد تغيرت عليه نيته وتبدلت؛ فينظر وقد ارتاحت نفسه لذلك الثناء وهذا المديح واستكانت إليه، وهذا بعينه هو المحظور الذي وقع فيه !!
يقول سفيان الثوري رحمه الله: "ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي؛ لأنها تنقلب عليَّ" [2].
وقد قيل ليحيى بن معاذ رحمه الله: متى يكون العبد مخلصًا؟ فقال: "إذا صار خُلقه كخلق الرضيع، لا يبالى من مدحه أو ذمه".
وقال يوسف بن الحسين: "أعزُّ شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فكأنه ينبت على لون آخر" [3]!!
ومن ثم فالأمر يحتاج إلى طول متابعة، وعظيم مجاهدة.
يقول أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: "يا قوم، أريدوا بعلمكم الله؛ فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح" [4].
وإن ذلك ليتأكد في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" [5].
وكان المطرِّف بن عبد الله يقول في دعائه: "للهم إني أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت"[6]!
فليست القضية إذن في فضائل الأعمال، إنما هي منهج حياة!!
وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسم قال محذرًا: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إليهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ" [7].
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يذم في ذلك من أراد بعلمه أن يجادل ضعاف العقول، يريد تكبرًا عليهم، أو من يتيه بعلمه أمام العلماء يفاخرهم به، أو من يريد بعلمه الجاه والمكانة بين الناس، وصرف وجوه عوامهم إليه، فكل ذلك نهايته إلى النار !!
وقد اجتمع الفضيل بن عياض وسفيان الثوري يومًا، فجلسوا يتذاكرون شيئًا من الرقائق، فرقَّ كل واحد منهم وبكى، فقال سفيان الثوري رحمه الله: "أرجو أن يكون هذا المجلس علينا رحمة وبركة"، فقال الفضيل بن عياض: "ولكني أخاف -يا أبا عبد الله- ألا يكون أضرُ علينا .. ألست تخلصتَ إلى أحسن حديثك وتخلصتُ أنا إلى أحسن حديثي، فتزينتُ لك وتزينتَ لي ؟! فبكى سفيان الثوري رحمه الله وقال: "أحييتني أحياك الله" [8]!!
وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم يُنسب إلى منه شيء" [9]!!
وهذا الإخلاص هو الذي دفعه إلى قبول الحق أيًّا كان قائله، يقول في ذلك: "ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة، وددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحق على يديه" [10].
وخرج أيوب السخيتاني مرة في سفر فتبعه أناس كثير، فقال: "لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره، لخشيت المقت من الله تعالى" [11]!!
حفظه الإخلاص وصِدق النية من العجب بنفسه بسبب علمه، وخاصة وهو في مثل هذه الحالة، والناس حوله مشيعون وله معظمون.
وعليه فإن الإخلاص هو أول الطريق في منهج العلماء الربانيين.
والأمر كما ذكرنا في البداية ليس مجرد وقفة مع النفس في لحظة من اللحظات، أو في يوم من الأيام، وإنما هو منهج حياة، فيه مراجعة دائمة، ومراقبة مستمرة، والموفَّق من وفقه الله عز وجل.